23 ديسمبر، 2024 11:32 ص

كلّ شيء خاضع لـ (البرمجة)!

كلّ شيء خاضع لـ (البرمجة)!

لعدة سنوات، كان يجد في بيته الجو المناسب للكتابة والابداع ، فأسرته صغيرة وهادئة، وبيته واسع ومريح خصص فيه مكتبا مجهزا بكل وسائل العمل والراحة ابتداءً من جهازه المحمول وانتهاءً بجهاز التكييف.

وبعد ان كان جهاز التكييف (بدعة وضلال) صار ضرورة في معظم البيوت العراقية التي ضم بعضها اثنين واكثر لتكون (للكشخة) فقط، فهي مشلولة تقريبا في فصل الصيف في ظل زيارات الكهرباء الوطنية (الخجولة). الا أن الهبة التي تمتعت بها بعض المناطق التي كانت توصف بـ (المحظوظة) طيلة السنوات الماضية من توفر الكهرباء، كانت السبب الرئيس وراء الجو المناسب في بيت ذلك (المبدع) الذي شاء الحظ أن يقع بيته ضمن منطقة (عمارات سكنية)، كانت ولفترة قريبة غير مشمولة بالقطع المبرمج وخصوصا في فترة الليل.

وانطلاقا من مبدأ العدالة والديمقراطية، ونتيجة لتراجع الكهرباء الوطنية في كل أنحاء بغداد، حتى قيل بأن البرمجة طبقت على مجلس الوزراء والمنطقة الخضراء (لاسمح الله)، وبناءً على هذه التطورات الجديدة، شمل القطع المبرمج بيت المبدع وأصبحت الكهرباء ضيفا عزيزا يحل كل اربع أو خمس ساعات لتستمر لساعتين أو أقل.

وهكذا التحقت أجهزة التكييف في بيت المبدع بسرب العاطلين عن العمل، وشمر عن ساعديه ليزيل الغبار عن (مبردة) الدار التي أهملت لسنوات، فقضى يومين في رحلة البحث عن (ليف المبردة) الذي صار الجيد منه نادرا، وبعد أن هيأها للعمل، اكتشف أن الحياة والعمل في ظل هوائها الساخن المعبأ بالرطوبة والغبار أمرا مستحيلا، ناهيك عن صوتها المزعج الذي يضاف الى صوت المولدة فتتحول الحياة في الدار الى صخب لا يطاق.

عبثا حاول المبدع أن يجمع شتات نفسه ليكتب بضع كلمات، فكانت النتيجة أنه استهلك من السكائر عددا يفوق ماكتبه من الكلمات. فأحكم غطاء حاسوبه المحمول، وودعه لأيام مؤملا نفسه بأن حالة البرمجة هذه مؤقتة وأنه في إجازة من العمل ريثما يتم إصلاح الكهرباء في منطقته. لكن صدمته كانت كبيرة عندما علم عن طريق أحد المسؤولين في دائرة الكهرباء في محلته بأن البرمجة ليست مؤقتة وأنها ستكون حالة دائمة وعليه ان يتعايش مع الوضع الجديد. لم يفكر صاحبنا بأن معظم العراقيين يتعايشون مع الوضع لسنوات طويلة، وقليل منهم ممن حالفه الحظ ليكون بيته خارج نطاق البرمجة، بل إنه شعر بعجزه عن التكيف مع الوضع الجديد.

وما يؤرق المبدع بالطبع ليس الإحساس بالحر أو الرطوبة او الأصوات المزعجة وكل التعقيدات التي استجدت في حياته بسبب البرمجة، بل إن سبب قلقه الرئيسي نابع من كون قلمه هو سلاحه الوحيد للبقاء حيا ولإطعام أسرته، فبدون جو مناسب للكتابة لن يستطيع أن ينتج ما يضمن له سبل العيش في فصل الصيف، فهل عليه الأنتظار حتى حلول الشتاء ليعمل؟ ومن قال إن العمل سينتظره حتى الشتاء؟ ففرص العمل للمبدعين في بلادنا أقل منها للسياسيين. و

في خضم هذه الأسئلة، قاطع سلسلة أفكاره برنامجا كان يعرض على إحدى القنوات الأجنبية يتحدث عن الديون التي خلفها الراحل مايكل جاكسون بسبب حياة البذخ التي عاشها والتي سيحرم أطفاله بسببها من الإرث. لكن المذيعة سرعان ماطمأنت محبي جاكسون ودعتهم الى عدم القلق على مستقبل أولاده فحصة جاكسون من مبيعات اسطواناته تضاعفت ارباحها بعد موته وستكفي لإعادة ثروته الى الحياة. وعوضا عن البحث عن حقوق النشر والكاتب في بلاده، قرر الكاتب أن يبرمج بنات أفكاره لتتلاءم مع برمجة قطع التيار الكهربائي، فهو يعيش في بلد يخضع فيه كل شيء للبرمجة!.

[email protected]