23 ديسمبر، 2024 8:20 ص

مضت عدة أشهر على مقالي الذي كتبته بعد ثورة 30 ـ 6 في مصر، والذي نشر بعنوان (30 يونيو وتدمير المخطط الكوني)، وربما كان البعض يرى أنني قد بالغت قليلاً في تقييم هذه الثورة المجيدة، ولكننا اليوم وبعد مضي خمسة أشهر على قيامها بدأنا نقطف الثمار التي نتجت عنها، فقد ذكرتُ في المقال السالف (فقد أجهز شباب مصر العظيم على مخططات وايديولوجيات كان من المنتظر لها أن تغير خارطة المنطقة برمتها)، وهذا ما نراه اليوم جلياً، ولو استعدنا مشاهد الأحداث آنذاك، وأدوار حكومات المنطقة، للاحظنا أن الخارطة كانت تسير باتجاه واحد محتوم، وهو أن الإتجاه التكفيري بفرعيه السلفي والإخواني، كان مقدراً له أن يسيطر على كل البلاد الإسلامية، وكانت سوريا مسرحاً للاقتتال بين جميع الأطراف المتنازعة، والتقى هناك المعسكران، الأول متمثلاً بأمريكا وأوربا الغربية والخليج وتركيا ومصر (ماقبل الثورة) وليبيا السلفية وباكستان وجبهة المستقبل في لبنان وغيرها من دعاة التطرف كالقاعدة، والمعسكر الثاني متمثلاً بروسيا والصين وإيران والعراق ونظام الأسد وحزب الله والقوميون العرب والجزائر وغيرها من رافضي المشروع الأمريكي أو تسلل الإسلامويين إلى السلطة، وحشد المعسكران كل ما استطاعا من قواهما لهزيمة الآخر، ومن المؤكد أن بشائر النصر كانت تلوح للمعسكر الأمريكي خاصة وأن مصر قد انضمت وقتها رسمياً الى معسكر التطرف، فأصبح المعسكر الآخر في حرج شديد، إذ كان المخطط أن تدخل مصر بكل قواها في الحرب السورية، وأُغلقت السفارة السورية في القاهرة، وسمح لأحد السوريين بالاعتداء على الرئيس الإيراني نجاد قرب مسجد الإمام الحسين في القاهرة، وهو شخص سرعان ما شاهدناه في أحد البرامج مما يدل على أنه مرحب به من قبل السلطة في مصر آنذاك، كما وجدنا الشيخ العريفي يرتقي منابر مصر ويدعو شبابها علانية للإنضمام الى مقاتلي جبهة النصرة في سوريا تحت عنوان الجهاد المقدس، وكانت الحكومة الإخوانية تدعو وتسهل من ناحيتها ذهاب الراغبين الى سوريا، وكان المفترض أن يكون جيش مصر الطرف الأساس في الاقتتال ولو أنه فعل لحصل ما لايحمد عقباه، ولكن الواضح في تلك الفترة أن حكومة الإخوان كانت متخوفة من إقحام الجيش المصري في هذه المعركة القذرة، ليس لأنها تفكر بشكل استراتيجي وإنما لعدم ثقتها بطاعة الجيش لها، وكانت محقة في ذلك، إضافة الى أن الاعلام المصري الخاص آنذاك لم يتح للإخوان فرصة للتنفس لتمرير مخططاتهم، ولكن خطوة محمد مرسي في مؤتمر نصرة سوريا كانت إعلاناً رسمياً من قبله في الإنضمام الى المعسكر الأمريكي الخليجي التركي، وكنا جميعاً نشعر بحراجة الموقف بصراحة، فلو أن المخطط مضى قدماً كما أرادته أمريكا لأصبح العراق يشهد مذابح يومية تفوق الوصف، أما حزب الله في لبنان فكان سيفرض عليه حصار خانق قد يشعل آخر المطاف لبنان بأسرها، أما إيران فستكون بين أمرين لا ثالث لهما إما الدخول في حرب ستستنزف كل مقدراتها وستحاصر من كل الجهات، فمن الشرق ستزحف قطعان القاعدة من باكستان وأفغانستان، إضافة الى خلايا القاعدة النائمة في بلوشستان وسيستان وغيرهما، ومن جهة العراق ستحصل فوضى عارمة ستنال بشكل مؤكد من مصالح إيران الاستراتيجية، ناهيك عن احتمال حصول ضربة ستقضي على مقدراتها العسكرية والاقتصادية، وهذا ما لاحظنا بوادره في الحصار الذي أنهك إيران خلال عدة أشهر حتى أصبحت العملة الإيرانية في الحضيض.
ولاحظنا في تلك الفترة أن هناك مشكلة في النقص العددي لمقاتلي القاعدة والجيش الحر، وهو الذي دعا السعودية الى إيفاد العريفي الى مصر لتصدير المقاتلين الى سوريا، وبعد الثورة حصلت صفقات واضحة مع عدة حكومات لتهريب مقاتلي القاعدة من ليبيا والعراق وأفغانستان، لغرض إرسالهم الى سوريا لدعم جبهة النصرة هناك، أما اليوم وبعد أن أجهز شعب وجيش مصر على الإخوان تغيرت المعادلة بصورة كاملة، فقد انسحبت تركيا من المعادلة وانقلبت الى الصف الآخر، ولكنها ما زالت تضمر الشر لمصر غير ناسية دور الأخيرة في تدمير المخطط الإخواني ـ الأمريكي، أما الخليج فقد انفرط عقده، فقطر أصبحت ضد السعودية رسمياً، ونعرف أن هاتين الدولتين القذرتين تمثلان الداعم الأساس للإرهاب في العالم بأسره، ومن وراءهما “طبعاً” إسرائيل، وانتعشت فرصة إيران مرة أخرى وهاهي تقطف ثمار الثورة المصرية وجلست أخيراً للتفاوض حول الملف النووي، ورفعت عنها العقوبات الاقتصادية وانتعشت العملة الإيرانية، مما سيزيد من النفوذ الإيراني في المنطقة، على حساب بداية انحسار الزواج المحكم بين الولايات المتحدة وبين الخليج عموماً والسعودية خاصة. وبدأت السعودية تذعن بشكل واضح للإرادة الغربية لتنخرط في جوقة المصافحين لإيران رغم أنفها، ولن تنقضي الأيام حتى نرى تغيير حكام الخليج الواحد تلو الآخر لصالح المعادلة الجديدة، كما أن العراق استفاد من الثورة المصرية كثيراً، فقد بدأت فلول القاعدة بالترنح والتخبط، لأننا نعلم أن بعض القيادات السياسية في العراق تدعم القاعدة وتوفر لها الملجأ والمعلومات ناهيك عن الدعم المالي، وهذه القيادات تستلم تعليماتها من دول الخليج وتركيا ومصر ما قبل الثورة، فوجدت نفسها اليوم مرغمة على الانسحاب من دعم القاعدة والانضمام الى الرغبة الامريكية في سياساتها الجديدة وحلفائها الجدد، والاشتراك في طي صفحة الماضي والعودة الى الحبيب الأول الذي سيصبح الشرطي رقم واحد في المنطقة، وبعد كل هذه التغيرات والتطورات الخطيرة في المنطقة تركت مصر وحدها تواجه الإرهاب القطري ـ التركي ـ الإسرائيلي، لأن كل الأطراف ترغب في تدمير جيش مصر حتى هذه الساعة “مع الأسف”، والمفترض من كافة الدول التي تعاني من وطأة الإرهاب أن تنحني تقديراً لمصر وشعبها وجيشها، وأخص منهم الشيخ حسن روحاني الرئيس الإيراني ونوري المالكي الرئيس العراقي، اللذان كان من المتوقع منهما على أقل تقدير أن يعترفا بفضل مصر عليهما وعلى بلديهما، وهما يعلمان أن شعار مصر ما قبل الثورة كان العداء العقائدي للعراق وإيران، ومن المؤكد أن مصر لو استمرت على حكم الإخوان لكان كل من روحاني والمالكي يعانيان ويترقبان الكارثة تلو الأخرى، فمن شرف الإنسان أن يعترف بهذا الفضل العظيم وأن يتقدم خطوة شريفة باتجاه من أحسن إليه، وليس أن يجلسا ليتفرجا على مصر وهي تحاصر اقتصادياً وتقاتل التكفيريين نيابة عنا وعن جميع دول المنطقة، فمصر التي قاتلت إسرائيل عدة مرات نيابة عن العرب والمسلمين، تقاتل اليوم نيابة عنا جميعاً ضد أبناء موشي دايان في سيناء لوحدها، ومن المؤكد أن مصر ليست بحاجة لأحد للدفاع عنها، ولكننا نلاحظ أن هناك تخلٍ واضحاً ومجحفاً من قبل حكوماتنا، فعلى أقل التقادير أن يصدر عنا موقف مشرف للتاريخ ولو بالإعلام والكلمة، أو بالدعم الاقتصادي بدلاً من دعم حركة حماس الحقيرة التكفيرية، وعلى الأقل أن نعوض ما فاتنا من خذلان لمصر في حروبها ضد إسرائيل والعدوان الثلاثي، ولكن ما يجري هو أن الجسور تمد مع أمريكا، وهذا أيضاً له ثمنه، فأمريكا لا ترغب في أن يتوحد المسلمون في أية قضية، ومن المؤكد أن أمريكا سترضخ آخر المطاف لإرادة الشعب المصري، ولن تنال منها ما تريد، ولكن للتأريخ كلمته، ويموت الإنسان ولا يموت الموقف، وحال مصر اليوم ما قاله شاعر أهل البيت العظيم أبو فراس الحمداني في أبيات من قصيدته التي ابتدأها بقوله:
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر * أما للهوى
نهي عليك ولا أمر
معللتي بالوصل والموت دونه * إذا مِتُّ عطشاناً فلا نزل القطر ونحن أناس لا توسط بيننا * لنا الصدر دون العالمين أو القبر تهون علينا في المعالي نفوسنا * ومن يخطب الحسناء لم يغله المهر ولا خير في دفع الردى بمذلة * كما ردها يوماً بسوءته عمرو هو الموت فاختر ما علا لك ذكره * فلم يمت الإنسان ما حيي الذكر سيذكرني قومي إذا جَدَّ جدهم * وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر ولو سد غيري ما سددت اكتفوا به * وما كان يغلو التبر لو نفق الصفر