ثمة عين حساسة للصحافي لا يمتلكها المواطن الصحافي، وثمة أسئلة على درجة عالية من الأهمية غائبة عن الناس، وحده الصحافي قادر على إطلاقها والحصول على الأجوبة الأكثر طلبا في حينها.
مشهد بات يتكرر ملايين المرات يوميا باعتبار الإنترنت إمبراطورية إعلامية للجيب. يمكن اختصاره ببساطة، لكنه في واقع الأمر أوسع بكثير مما حدث وسيحدث في أمسية واحدة.
المئات يترقبون ظهور الفنان سعدون جابر على المنصة في أمسيته الموسيقية بمناسبة عيد الأم في لندن، أطلقت الفرقة الموسيقية نغماتها في مستهل تعبيري جميل، وعندما أطل الفنان كانت فكرة واحدة تدور في ذهن المئات من جمهور الحاضرين، يمكن وصفها بطريقة “كلنا صحافيون!” نستثمر المكان الذي نحن فيه لصناعة مدونتنا الخاصة.
بدلا من أن ترفع الأكف للتصفيق للفنان الذي يستحق ذلك بجدارة، ارتفعت الهواتف المحمولة لجميع الحاضرين تقريبا في مشهد مكرر يوثّق كل ما يمس حياتنا المعاصرة، بالنّسبة إلى غالبية النّاس، المنصّات المعرفية، الوسائط الإعلامية والشبكات الاجتماعية كلّها جزء من الحياة اليومية. بل إن استعمالها أضحى أكثر بديهية من أي أجهزة منزلية ثابتة.
كان الجميع على أهبة الاستعداد للتصوير، وبعضهم لم ينتظر أكثر من دقائق لبث الأغنية الأولى في الحفل مباشرة على منصته الاجتماعية، كانت تغطية صحافية وتلفزيونية بامتياز أدارها الجمهور، في ممارسة صارت شائعة للمواطن الصحافي.
عين الفنان استبقت صوته، وبمجرد أن أوشك على إنهاء أغنيته الأولى خيّر الجمهور بين الغناء والتقاط الصور: أيهما تفضلون؟ قال “أنا على استعداد للبقاء معكم أي وقت تشاؤون بعد الحفل لالتقاط الصور، لكننا هنا اليوم كي نغني!”.
بينما الجمهور في تلك الحفلة وفي الطريق، السوق، القطار، المنزل، المطعم…، قد أضاف له مهمة جديدة غير الهدف الأساسي من تحركه، أنها وظيفة المواطن الصحافي.
دعونا نتخيّل المشهد نفسه قبل ثلاثين عاما تقريبا، الحفل نفسه ونفس الفنان، سيكون في أفضل الأحوال أن تكلف الصحف مراسليها لمتابعة الحفل حتى وقت متأخر من أجل إعداد تقرير ينشر بعد ثلاثة أيام على الأقل من انتهاء الحفل، وفي أفضل الأحوال يقوم التلفزيون بتسجيل الحفل لبثه في وقت لاحق، ونادرا ما يقوم بعملية النقل المباشر.
فأين الصحافي في كل ما يحدث اليوم؟ جمهور أمسية الفنان سعدون جابر التي جرت في لندن هذا الأسبوع بمناسبة عيد الأم، يمثل الإجابة الحقيقية لمثل هذا السؤال، لا يوجد صحافي بقدر وجود مواطن صحافي، وكلنا صحافيون أردتم ذلك أم لا أيها الصحافيون، لم تعد منزلتكم عالية بيننا، ونحن من يصنع الحدث ومتابعته لحظة بلحظة.
مثل هذا الأمر سبق أن اتفق عليه بيان الإنترنت الذي أطلقته نخبة من الصحافيين والخبراء الإعلاميين في ألمانيا قبل بضعة سنوات، عندما بعثر الإنترنت نظام وسائل الإعلام الموجودة عبر تجاوز تخومها القديمة أحاديّتها “احتكار القلّة”.
فالنشر وانتشار المضامين الإعلامية لم يعودا مرتبطين قطعا بالاستثمارات الضخمة، الوعي بالذات الصحافية -لحسن الحظ- هو الآن في طور الشفاء من وظيفة كحارس معبد، فكل ما يتبقّى هو الجودة الصحافية التي تتميز بها الصحافة عن عملية نشر عادية.
بيان الإنترنت لم يكن صادما للصحافيين بقدر ما حرضهم على الوصول إلى مضامين ملفتة للنظر في صحافة الجودة.
ورحب البيان أيضا بالمواطن الصحافي لأن شبكة الإنترنت بحاجة إلى التشبيكِ، فالروابط هي بمثابة اتصالات، نحن نتعرف على بعضنا البعض من خلال الروابط، وكل الذين لا يستعملونها فإنهم يسْتَبْعِدُون أنفسهم بأنفسهم من الحوار الاجتماعي.
لقد غُطيّت حفلة الفنان العراقي سعدون جابر في لندن بما يكفي من قبل المئات من الجمهور على منصاتهم الخاصة، بالصوت والصورة والتعليق والبث المجتزأ للأغاني أو لكلها، ماذا بقي بعدها للصحافي كي يكتب؟
هذا باختصار ما يسمى اليوم بصحافة الجودة، إذا أراد الصحافي أن يصنع مادة يعجز عن إنجازها المواطن الصحافي، المضامين الملفتة هي ما يُبقي مهنة الصحافي في العصر الرقمي على قيد الحياة.
ثمة عين حساسة للصحافي لا يمتلكها المواطن الصحافي، وثمة أسئلة على درجة عالية من الأهمية غائبة عن الناس، وحده الصحافي قادر على إطلاقها والحصول على الأجوبة الأكثر طلبا في حينها.
فشبكة الإنترنت تُغيّر تطوّر الصحافة، وليست سببا في تراجعها، وفق بيان الإنترنت، يمكن للصحافة من خلال الإنترنت، أن تؤدّي دورها التربوي والاجتماعي بطريقة جديدة، هذا يشمل عرض المعلومة باعتبارها عملية مستمرة بحركية دائمة، تحطيم أسطورة استحالة تغيير طبيعة وسائل الإعلام المطبوعة هو انتصار، وعلى الذين يودّون البقاء في هذا العالم المعلوماتي الجديد أن يجدّدوا مثاليّتهم وأفكارهم الصحافية مع إحساس بالمتعة في استغلال هذه الإمكانيّة الحديثة.
نقلا عن العرب