في كلمة السيد الجعفري في المؤتمر الدولي حول ضحايا أعمال العنف بسبب الانتماء العرقي والديني في الشرق الأوسط الذي عقد في باريس، قال “أقول لكم بصراحة، نحن في العراق -ليس غـُرُوراً، ولا ادِّعاءً-استطعنا أن نتجاوز المُصالَحة الوطنيّة إلى مُشارَكة وطنيّة في كلِّ هيكل من هياكل الرئاسة، وفي كلِّ مُؤسَّسة من مُؤسَّسات الدولة إذ تجد التنوُّع، كما تجدون هذا التنوُّع في الوفد العراقيِّ الآن ..هذا هو العراق الجديد،..”
هناك تيارات سياسية وطائفية، من داخل العملية السياسية ومن خارجها، ترفض خيار المصالحة، اصلا، وتعده بمثابة خيانة وتزكية للطرف الآخر، وخير مثال ما اثير من زوبعة ومن هيستيريا التصريحات بصدد مؤتمر مصالحة عقد في قطر ولو كان المؤتمر قد عقد في طهران لكانت الأمور مختلفة كليا ولا أصبح الحاضرين مثال للوطنية وحفظ اللحمة الوطنية.
المصالحة عملية حوار وطني طويلة وشاقة من شأنها أن تأتي برؤية وطنية موحدة؛ رؤية تركّز على العدالة الانتقالية لا (العدالة الانتقامية) والعمل على اعتماد الوسائل السلمية لحل الخلافات الداخلية، وازاله مظاهر التسلح وحل المليشيات وبدون استثناءات والتخلي عن فرض الشروط المسبقة عند المشاركة في ادارة الدولة والابتعاد عن الزعامات التي ما انزل الله بها من سلطان والتخلي عن ممتلكات الدولة وغيرها.
ان كلمة السيد الجعفري في مؤتمر باريس تذكريني بما قاله في لقاء مع قناة الحرة عراق في 29/5/2015 عندما زار وزير خارجية قطر العراق، أيضا كرر السيد الجعفري نفس الكلام باننا تجاوزنا المصالحة الوطنية الى المشاركة الوطنية وقد تناولت ذلك في مقال سابق، وذكرت فيه عدة شواهد على انتفاء المصالحة الوطنية، ولم يكن مؤتمر باريس قد انعقد، وقد ذكرته في مقالي لأجل الدلالة على انتفاء موضوع المصالحة، وان هناك مؤتمر سينعقد لحث الحكومة العراقية على تحقيق مصالحة شاملة كاملة، وانعقد المؤتمر في بداية شهر السادس من 2015 واكد على ضرورة إتمام العراق للمصالحة الحقيقية وذكر المتحدث باسم الخارجية الفرنسية رومان ندال الى ان “اجتماع باريس سيتيح التذكير بإصرارنا على دعم الحكومة العراقية من أجل التنفيذ الفعلي لعمليات الإصلاح الضرورية لتحقيق المصالحة الوطنية”، واضاف ندال ان “المشاركين في الاجتماع .. سيبحثون اهمية التوصل الى حل سياسي شامل لتحقيق مصالحة وطنية في العراق”.
أنهم يدركون ان ضياع جهود التحالف الدولي في محاربة داعش أحد أسبابها الرئيسية عدم تحقيق المصالحة الوطنية الحقيقية؛ فهل منظمي هذا المؤتمر والمؤتمر الحالي، لا يدركون ما يجري في العراق، فكيف نكون قد تجاوزنا المصالحة الوطنية وعبرنا الى المشاركة الوطنية؟
كلمة السيد وزير الخارجية في مؤتمر باريس مكملة لتصريحه على قناة الحرة عراق، ومعيبة دبلوماسيا ومجافية للحقيقة؛ لعدة مظاهر ومؤشرات وقد فاتت السيد الوزير، منها (عدى مؤتمر باريس السابق): بيانات وتصريحات عديدة من مجلس التعاون الخليجي ومن وزير الخارجية الأمريكي وتصريحات بريطانية وفرنسية وتصريحات الحكومة الأردنية، كلها كانت تؤكد على اجراء المصالحة الحقيقية الشاملة ورافقها تصريحات داخلية من رئيس الجمهورية وبرلمانيين وسياسيين عديدة واخرها تصريح اياد علاوي (له عشرات التصريحات التي تؤكد بانه يجب تحقيق المصالحة الوطنية الحقيقية) حينما اتهم العبادي بانه لا يريد تحقيق المصالحة الوطنية، إضافة الى تصريحات ممثل الأمين العام للأمم المتحدة في العراق.
فهل يجوز ان نكرر نفس الأسطوانة المشروخة ونعيد نفس الخطأ وفي مؤتمر دولي في عاصمة كانت قد رعت مؤتمر سابق اكدت فيه على اجراء المصالحة الحقيقية؟ وهل هؤلاء نائمون لا يعرفون ما يجري بالعراق؟
وتذكيرا وتنويها، لوزير الخارجية المحترم، ان الأمور التي تخص سياسة البلد الخارجية لا يمكن وضعها في معايير ارتجالية تخرج عفوية، لان مؤتمرات وتصريحات وكلمات وزير خارجية أي بلد تمر بعدة مصافي دبلوماسية ومهنية وإدارية وقانونية وإعلامية حتى تخرج للعلن، فالوزير عليه ان يعي ان كلمته في أي مؤتمر او تصريحه تخضع للتأويل والاجتهاد والمبالغة وقد تُنصب دريئة للنيل والانتقاص من ذلك البلد.
العالم العربي والغربي وقبله العراقي لا يريد مصالحة محددة موقوتة مصلحية؛ مصالحة من اجل تخريب العراق وضرب الوحدة الوطنية اعتمادا على المحاصصة.
ان تلك التصريحات واللقاءات تعد خروج عن التقاليد المستقرة التي تتميز بها السياسة الخارجية للعراق، وتجعلنا امام أقوال غير دقيقة تصيب الرأي العام بالفوضى والصدام وعدم الارتياح والمشاركين بالعملية السياسية لا يهمهم لا الديمقراطية ولا مصلحة الشعب العراقي بقدر ما تهمهم مصالحهم الضيقة طائفية كانت ام قومية.
وشدد الجعفري على (أن ما تقوم به عصابات داعش الإرهابية لا يمت إلى الإسلام بصلة، مشيراً الى ان ما نشهده من ظروف استثنائية حاولت أن تـُقدم صورة سيئة عن الديانات فأن هذه الاعمال السيئة لا تمت إلى الديانات السماوية بصلة.)
وانا أقول للسيد الجعفري العالم الغربي يريد الحقيقة لا تزويقها والقفز على مضامينها، اننا نعاني بعد داعش من احزاب سياسية تشارك بالسلطة، ولها ثكنات عسكرية اي مقرات مسلحة في مناطق بغداد الراقية، فاذا هي مشاركة بالعملية السياسية لماذا التوشح بالمظاهر المسلحة وجمع الأسلحة بالمقرات، وماذا تريد من العراقيين، ماهو الهدف من هذه المقرات التي هي بالضد من مقومات دولة القانون وسببت في كوارث امنية واخرها حرق جامع المثنى في القاهرة ومصادمات في وسط بغداد مع الأجهزة الأمنية وجرائم كثيرة سطرتها مواقع التواصل الاجتماعي، اننا امام مجاميع مسلحة تفرض علي العراقيين الوصاية والخنوع ولها رجل دين ومقرات حزبيه، وثكنات عسكرية ومعتقلات لحجز المواطنين وفق مشيئتها.
لم تعد السياسة الخارجية في العراق محسوبة لدولة اسمها العراق بقدر ما هي محسوبة في أحسن الأحوال وفي اقل الأوقات لكيان سياسي عراقي، والملاحظ اليوم ان الخطاب السياسي الخارجي العراقي الموحد ضعيف ان لم نقل غائباً بعد ان سبق وشهدنا مجموعة خطابات متنافرة ومنفرة.
وقال الجعفري في كلمته: (هناك ظاهرة الآن في العراق، ولعلها في سورية، ومناطق أخرى، هي، ظاهرة النازحين في البلد الواحد من مدينة إلى مدينة، وهناك ظاهرة المُهاجـِرين من الداخل العراقيِّ إلى الخارج العراقيِّ.) (على العالم ان يتخذ الخطوات الاساسية، لمساعَدة الدول التي تتعرض للإرهاب مثمناً ما تقوم به بعض الدول باستقبال المهاجرين العراقـيّين.)
ولا اعرف كيف لوزير خارجية العراق، يشجع الدول على استقبال ابناء بلاده المهاجرين من سوء اوضاع العراق كله وليس في المناطق الخاضعة لتنظيم داعش كما يريد السيد الجعفري ان يصور للمؤتمر.
ولنا ان نسال أيضا؛ ما هي شرعية ان يشكر وزير خارجية العراق دول العالم المستمرة باستقبال العراقيين كهاربين من وطنهم الذي ضاق بهم، نتيجة الفساد الذي يضرب كافة مؤسسات الدولة ووصل الى القيادات الدينية، واخرها من تسريبا عن فضح أحد ممثلي المراجع الدينية في كربلاء .. المدعو ” أحمد الصافي ” الذي تبين أنه يتقاضى راتب وامتيازات وحمايات نائب برلمان عتيد منذ عشر سنوات؟
وأحد المشاركين في كتابة الدستور؟ (منقول من أحد المواقع الإلكترونية)
ان الهجرة اقرها القانون الدولي من ضمن حقوق الانسان في المادة الثانية (للإنسان الحق في اختيار وطنه والحق ان يسافر ويهاجر وان يختار الهوية التي تتلاءم مع طموحاته)، ومن حق العراقي ان يهاجر، ولكنها هجرة قسرية مؤلمة، فالشباب العراقي فقدوا الامل في حياة كريمة وامن وعدالة اجتماعية والحصول على وظائف، فالكثير من اهالي الجنوب والوسط رغم ان محافظاتهم تنعم بالخيرات وتعد المورد الاكبر لخزينة العراق الا انهم يعانون من البطالة وانعدام الخدمات والفساد المستشري، ناهيك عن سيطرة قوى حزبية على مقدراتهم واستشراء العصابات المنظمة وشيوع القتل مما دفع بهؤلاء الشباب الى الهجرة بعد ان ايقنوا من عدم جدوى البقاء في العراق بعد ان تعذر وجود ادوات حاضنة لمنع الهجرة .
يبتعد أمل تحقيق مصالحة وطنية شاملة حقيقية تعتمد المواطنة أساساً لتشكيل الدولة الأم دون تمييز طائفي وعرقي بل يحتضنهم الوطن؛ من خلال دستور جديد تضمن نصوصه حقوق وواجبات كل العراقيين، وترسيم الالتزامات على نحو أكثر وضوحا، وأن يُفَعل القانون ضمن المنظور السياسي الأخلاقي المبني على التسامح الاجتماعي وبعيدا عن إلباس المصالحة الوطنية ثوب الطائفية السياسية.
أن وظيفة الدبلوماسية تتركز بالأساس في محاولة ايجاد السبل الكفيلة والوسائل الاكفأ والانجع لتحقيق المصالح العامة والاهداف العليا للدولة، والشخصية الدبلوماسية المتمرسة وذات الفكر والمهارات العلمية يمكنها أن تسهم في رسم خطط السياسة الخارجية وتشاطر الحكومة الرأي في ايجاد الحلول التي تصب في خدمة المصلحة الوطنية وليس المصلحة التي تخدم خصوصية العرق أو الطائفة فقط.
لا يمكن ان نتلمس سياسة خارجية رشيدة لأي بلاد من بلدان الأرض من دون ان يكون رحمها معافى، وهذا التعافي لا يتوافر الا عندما يصبح العراق دولة وليس كياناً سياسياً في محيطه الداخلي أولاً وفي محيطه الإقليمي والدولي ثانياً.