الى الفنان العراقي المبدع الكبير الاستاذ يوسف العاني , الذي كتب مقالة في صحيفة المدى البغدادية الغراء بعنوان – ( كلمة متأخرة عن الدكتور كمال قاسم نادر).
علمت الان فقط برحيل المرحوم الدكتور كمال قاسم نادر , وقد هزنٌي الخبرمن الاعماق , رغم اني سمعت بمرضه في الفترة الاخيرة بالاردن , وتذكرت كيف التقينا لاول مرة في اروقة قسم اللغات الاوربية بكلية الاداب في جامعة بغداد عام 1974 , وكيف كنا ننظر اليه باحترام شديد , وكيف كان يتعامل ببساطة وتواضع مع الجميع رغم تلك الهالة الكبيرة التي كانت تحيط به نتيجة مسيرته التاريخية في جامعة بغداد منذ بداية عمله فيها في خمسينيات القرن العشرين وما عاناه في مسيرته العلمية منذ ذلك الحين , وتذكرت نشاطه الرائع وحيويته الجميلة وبساطته واناقته وابتسامته غير المصطنعة ونظافته الروحية, وحب الطلبة له , والذي كان واضحا من تصرفاتهم تجاهه ومن تصرفاته هو نفسه تجاههم , واتذكر كيف اجتمعنا مرة في غرفة رئيس قسم اللغات الاوربية وكنت انا امثٌل فرع اللغة الروسية في اللجنة العلمية للقسم , وكان د. كمال عضوا اصيلا فيها طبعا , وتكلمنا عن بحوث الترقية العلمية للتدريسيين , فاشار الى ان بعض تلك البحوث مكتوبة باللغة العربية وليس بلغة الاختصاص ولهذا فانه لا يؤيد الأخذ بها واعتبارها بحوثا تصلح للترقية العلمية , ولم يكن هذا الامر عندها محسوما على وفق تعليمات محددة وانما كان اسلوبا او منهجا تقليدا متبعا في الاوساط الجامعية ليس الا . لم اتفق انا معه حول ذلك , وذكرت ان التعليمات لا تنص على كتابة البحوث باللغة الاجنبية حصرا , وان اللغة
اداة تعبير عن الافكار في تلك البحوث ليس الا , واذا يرى الباحث ان اللغة العربية تستطيع ان تعكس افكاره في البحث فليكتب بها . اعترض د. كمال على هذا الرأي و لم يوافق على ذلك وقال ان ذلك الرأي غير وارد في مسيرتنا بالجامعة , فحكيت له كيف اني استلمت من بغداد نسخة من مجلة الاديب العراقي عام 1962 على ما اتذكر ( عندما كنت طالبا في كلية الاداب بجامعة موسكو ) وفيها مقالة جميلة له عن شكسبير بعنوان – ( اوتيلو ) , وكيف اني عرضتها على استاذ الادب العالمي في جامعة موسكو, الذي كان بالذات يتحدٌث لنا عن شكسبير , وترجمت له الفحوى العام لتلك المقالة , وكيف تقبٌلها الاستاذ باحترام وسألني عن كاتبها , و ذكرت له كيف تعجب هذا الاستاذ من عمق افكارها وكيف اندهش من معرفة متخصص عراقي بشكسبير , وطرحه لمثل تلك الامور حول شكسبير في العراق في تلك الفترة , وكيف كنت انا منتشيا واشعر بالفخر من ردود فعل هذا الاستاذ الروسي تجاه مقالته المنشورة في مجلة عراقية , وطرحت على الدكتور كمال سؤالا محددا , وهو – لو انك كتبت هذه المقالة بالانكليزية فكم من القراء العراقيين كانوا سيطلعون عليها ؟ وهل كنت تستطيع ايصال افكارك عن شكسبير الى مجتمعك العراقي ؟ وبشكل عام , هل يطلع القراء على بحوث الترقيات العلمية للتدريسيين في الجامعات العراقية و المكتوبة باللغات الاخرى , ام انها تبقى محصورة بين مجموعة صغيرة من الخبراء ليس الا نتيجة كتابتها بلغة اخرى غير اللغة القومية السائدة ؟ اندهش د. كمال من كلامي هذا وطرحي للموضوع , والذي لم يكن يتوقعه ابدا من عضو شاب جديد في اللجنة العلمية لقسم عريق في كلية الاداب مثل قسم اللغات الاوربية بجامعة بغداد , وبقي صامتا , وقرر المجتمعون آنذاك – بعد هذا النقاش – تاجيل البت بالموضوع , وعلى الرغم من ان الرأي الذي ابداه د. كمال هو الذي كان سائدا في فرع اللغة الانكليزية , الا ان الرأي الآخر انعكس – مع ذلك – على فروع اللغات الاخرى في القسم المذكور , ومنها فرع اللغة الروسية , اذ كتب بعض التدريسيين ( و اذكر منهم المرحومة الدكتورة حياة شرارة
مثلا , و التي قدمت بحثا علميا رائعا بالعربية عنوانه – يسينين في الربوع العربية وغيرها من الزملاء الاخرين ) بحوثهم بالعربية جنبا لجنب مع بحوث علمية اخرى بلغة الاختصاص .
تعمقت العلاقات بيننا بعد هذا الاجتماع , واخذنا نتبادل اطراف الحديث في الممرات ونتوقف لتبادل الآراء حول مختلف الامور , وقد فهمت ان الدكتور كمال لا يرفض هذا الاسلوب بالكتابة بشكل قطعي وان المهم في البحث بالنسبة له هو النهج العلمي السليم والالتزام بضوابطه العالمية المتفق عليها من الخطة والعرض والاستنتاج والخلاصة واستخدام المصادرالمعتمدة وترتيبها…الخ , واكتشفت ايضا اننا كنا نمتلك نفس التصورات والافكار تقريبا تجاه الكثير من المواضيع الثقافية والاجتماعية .
لقد كنت معجبا جدا بتواضع هذا الرجل الكبير واخلاقه وثقافته المعمقة في مجال المسرح وابتعاده الواضح عن اي شكل من اشكال الادعاءآت والفخفخة والتباهي والثرثرة …الخ , وهي صفات كانت واضحة لدى البعض من التدريسيين حولنا مع الاسف , وكان الدكتور كمال شديد الحرص جدا على موقفه السياسي والفكري المستقل في ذلك الزمن الصعب والمتشابك , و كان من الواضح تماما ابتعاده عن (الهرولة !) وراء المناصب والاحتفاظ باحترامه لشخصه وللاخرين ايضا , وربما يمكن القول ان هذا التحفظ هو الذي أدٌى به حتى الى عدم المشاركة الفعالة في الحياة الثقافية آنذاك , وعدم المساهمة بالنشر والترجمة في الصحف والمجلات الثقافية والذي كان هو جديرا جدا بتلك المساهمة فيها بلا شك وكان يمكن له ان يؤدي هناك دورا متميزا وبارزا فعلا , وكان يلمٌح لي – وبشكل حذر جدا وغير مباشر- عند احاديثا السريعة في ممرات القسم الى توجسه من ذلك , وهو موقف ناتج طبعا بعد تجربته المريرة في معمعة الستينات الرهيبة المعروفة , وما عاناه من انقلاب 8 شباط الاسود الدموي مع زملاء له , ولا اريد تكرار امور معروفة ومعلومة لكل تلك المعاناة التي مرٌ بها هو وزملاء له نتيجة تلك الاحداث التراجيدية , والتي أدٌت الى فصله مع
اساتذة آخرين من الجامعة واضطراره للانتقال الى العربية السعودية للعمل في جامعاتها مع مجموعة من اشهر الاساتذة العراقيين عندئذ مثل الدكتور شاكر خصباك والدكتور خالد الجادر وغيرهم , واتذكر الان – عندما كنت في جامعة صنعاء استاذا زائرا في كلية اللغات هناك لمدة شهر واحد فقط في بدايات القرن الحادي والعشرين – ان رئيس جامعة صنعاء آنذاك الاستاذ الدكتور عبد العزيز المقالح ( الشاعر والاديب المعروف في عالمنا العربي ) قال مرة وهو يبتسم – ( مصائب قوم عند قوم فوائد ) , معلقا على هجرة الاساتذة العراقيين الكبار- علما واخلاقا – الى اليمن وغيرها من الدول العربية الاخرى .