في النظام الديمقراطي لا تهبط علينا العدالة فجأةً، بل تحتاج لمن يصنعها إدارياً وحقوقياً، وفرصة تحقيق العدالة متاحة رغم الصعوبات، لكنها تحتاج لعمل أجيال متتالية من الناشطين إعلامياً وسياسياً، أكثرها صعوبة ما يفعله الجيل الأول إذ يتوجب عليه دحض المقولات الزائفة المُكرَّسة تاريخياً لتبرير الطغيان وتسويغ نهب المال العام حيث تحل الإيديلوجيا الحزبية أو العقيدة المقدسة محل برامج التصنيع والتعليم المهني وقوانين حماية الاقتصاد الوطني، وهذا ما هو حادث في عراق الأحزاب الدينية!
إن دحض المقولات الزائفة يحتاج إلى تشخيص الظواهر والأدوار التي يؤديها اللاعبون على مسرح السياسية سلباً وإيجاباً، داخل الدولة وخارجها. ويقترن ذلك بترسيخ المضمون الاجتماعي للديمقراطية، فالشعوب لا تختار الديمقراطية من أجل الإنتخابات بحد ذاتها، بل من أجل المضمون الاجتماعي للديمقراطية، أي تحقيق العدالة.
في مراحل تأسيس الديمقراطية يكون الصراع مفتوحاً على مختلف الجبهات فتصبح مواصلة العمل الفكري والسياسي ضرورة لفضح الزيف والكذب الذي يُراد له أن يكون ثقافة رسمية! الزيف الذي يُراد له أن يحل محل القوانين والأعراف نفسها كما هو الحال في حكومتي المالكي الأولى والثانية! فهناك دائماً من يعمل على تفسير القوانين بما يخدم مصالحه الشخصية والحزبية ما يستدعي فضح ذلك باستمرار.
إن كثرة الظواهر السلبية وطغيانها لا تستدعي اليأس، لأن اليأس يعني إعلان هزيمتك أمام لصوص الدولة الجدد: لصوص في كل مكان جاهزون لسرقة كلِّ شيء وهنا تكثر المفارقات، لكن تبقى الفروق واضحة. فإذا كان واجب السياسي هو تطوير الثقافة الحقوقية للدولة لحماية حقوق المواطنين حيث يحقق مكانته السياسية وضرورة دوره الإداري، فإن لصّ الدولة ممثل يرتدي القناع المطلوبة للدور المطلوب، يتحدث كالسياسيين ويزايد على الديمقراطيين. بهلوان يلعب على جميع الحبال حسب مقتضيات الإخرج مستفيداً من الخبرة الطويلة التي تركها اللصوص السابقون الذين حكموا العراق 35 سنة.
لص الدولة يفكّر ويعمل لكي يجعل السرقة (مشروعةً)، وكمثال، فبوسعه عبر قانون الانتخابات أن يصبح عضواً في البرلمان رغم إن المواطنين لم ينتخبوه، وبهذا يسرق دور الآخرين وإرادتهم. هذا ما يتيحه قانون الانتخابات الذي وضعته الأحزاب الطائفية الشيعية والسنية المتنفذة، ففي البرلمان الحالي 325 نائباً لم ينتخب العراقيون منهم سوى 17 مرشحاً فقط!
وعبر المادة 25 من قانون الموازنة ومنذ العام 2004 سرق لصوص الدولة الجدد خمسين بليون دولار! عبر الإنفاق الإضافي الذي يتم من دون وصولات! وفي عراق الأحزاب الدينية أيضاً يتم إقرار الموازنة السنوية كل عام من دون تدقيق الحسابات الختامية لموازنة العام الماضي، وهذا مخالف للقوانين والأعراف البرلمانية في جميع الدول الديمقراطية. وقد أتاح ذلك للمسؤولين سرقة بلايين الدولارات سنوياً، بلايين الدولارات تُفقد سنوياً ولا أحد يعرف أين ذهبت!
وقبل شهور كشف عضو لجنة النزاهة البرلمانية النائب جعفر الموسوي عن وجود أكثر من ثلاثين الف موظف شهاداتهم مزورة، بضمنهم خمسة آلاف يحملون دكتوراه وماجستير! ومن بينهم الفي شهادة مزوّرة تخص نوابا ووزراء ومدراء عامين واعضاء مجالس محافظات! وقال الموسوي ان لجنة النزاهة توصلت إلى ما يفيد بان نحو مائة وسبعة مرشحين للانتخابات البرلمانية 2010 وثلاثمائة وخمسين مرشحاً لانتخابات مجالس المحافظات شهاداتهم مزوّرة! (وهذا يتم طبعاً بعلم وتدبير الأحزاب الدينية نفسها) وأوضح إن اللجنة لن تكشف عن اسماء المزورين في الوقت الحالي خشية ممارسة ضغوط سياسية على القضاء لعدم محاسبتهم. فعندنا قوانين تُعطّل عمل القضاء أحياناً! أو نواب يعملون على عرقلة استجواب المسؤولين المتهمين بالفساد كما فعل نواب (كتلة دولة القانون) مراراً حيث ميّعوا استجواب وزير التجارة الأسبق (راهب حزب الدعوة كما كانوا يسمونه قبل سقوط النظام) الذي أصبح بعد هروبه من العراق، صاحب عقارات بلندن ويتاجر بالسيارات مع المغرب!
إنهم الصوص الجدد، رسميون وأهليون معاً، أفندية ومعممون ولابسو عقال، خطورتهم لا تكمن في سرقة حقوق المواطنين والمال العام فقط، بل وأيضاً سرقة أدوار الآخرين. إن سرقة فرص الآخرين في تحمل المسؤولية، تعني سرقة حريتهم ومستقبلهم، أي معنى مواطنيتهم. يسرقون منك وطنك وأنت عائش فيه، فتشعر وكأنك تعيش في منفى! يسرقون مكانتك العلمية وخبرتك إذ يواجهك أصحاب الشهادات المزورة أينما حللت بدءاً من وزيرك وليس انتهاءً بمديرك العام! وهكذا اضطربت الدولة وساءت الخدمات الصحية والتعليمية والأمنية والبلدية!
صدام حسين حكم 35 سنة، فعل كل ما يفعله لصوص الدولة لكنه لم يفكّر بالعواقب! صنع أشياءَ كثيرة لكنه لم يصنع مستقبلاً لنظامه لأن ضمان المستقبل يكمن في تكريس مفهوم المواطنة، أي ضمان حقوق المواطنين المدنية والسياسية، حيث تصبح الدولة هوية لجميع المواطنين ويصبح النظام السياسي صمام أمان للدولة والمجتمع لذلك يحميه المواطنون أنفسهم، هنا يكمن ضمان المستقبل وليس بالقوات الخاصة وأجهزة المخابرات التي تُديم حالة القلق وتعمّمها على المواطنين كي لا يحتجّوا من أجل حقوقهم!
إن أخطر ما سرقته الأحزاب الدينية بعد 2003 هو لحظة الخلاص التي صنعها العراقيون بتضحياتهم الرهيبة لأكثر من أربعين سنة متواصلة، لحظة الخلاص والأمل بتحقيق العدالة التي أُتيحت للعراقيين غداة سقوط الديكتاتور، والتي كان يمكن أن تتطور لتصنع مستقبلاً مضموناً للدولة والمجتمع. لقد سرقت الأحزاب الدينية تلك اللحظة بكاملها. اخترقوا الدولة بدستور مختلّ ثم أحلوا المحاصصة محل مبدأ المواطنة وتكافؤ الفرص فأصبحت العمالة موهبة والخيانة وجهة نظر وسرقة المال العام عملاً بطولياً!!
هكذا سرقوا حلم العراقيين بتحقيق العدالة، سرقوه من صناديق الأقتراع ذاتها، فأخرجوا لنا أطروحة (المكونات الثلاثة) التي ألغت مبدأ المواطنة ومفهوم تكافؤ الفرص. ثم سرقوا التحول السياسي والحقوقي النوعي المتمثل بالحكم المحلي للمحافظات، فمارسوا نفس التعبئة الحزبية والطائفية في الانتخابات المحلية ليتقاسموا المناصب، فعمّت وتوطدت منظومة الفساد المالي والإداري، والنتيجة هي فضيحة شاملة، اختصرها أحد الوزراء خلال مؤتمر بالقول (إن المشكلة تكمن في فشل المشاريع التي تتبناها مجالس المحافظات، لأنها غير مدروسة وتفتقر للخبرات التنفيذية) لكن الوزير لم يقل إن هذه هي نتيجة تسلط أحزاب الجهلة وتقاسمهم المناصب دون مؤهلات، فتبدّدَ الأمل وكُسرَ القانون فبقي المواطنون دون أمن أو خدمات! وفي نفس المؤتمر حين بادر أحد وجهاء الريف لشرح أسباب تدهور الزراعة قائلاً (المشكلة إنهم يبعثون إلينا مهندساً زراعياً لا يفهم شيئاً في الزراعة) تدافعوا عليه وأسكتوه كي تستمر حفلة الأكاذيب الرسمية التي شارك فيها عدة وزراء ونواب، حدث هذا في مؤتمر عُقد في مدينة الناصرية عام 2007 وشاهدناه عبر فضائية العراقية، وبعدها تطور الفساد والكذب ليصبح سياسة عامة للدولة!
لقد همّشوا الكفاءات العلمية والإدارية، عوّقوا عوامل إعادة الحياة للمجتمع المدني فأسسوا ميليشيات ليعيدوا أمجاد (الحرس القومي) أي السيطرة على المواطنين بالرشاشات! وهكذا فكلما فازت الأحزاب الدينية في الانتخابات يخسر المجتمع حريته!.
لقد كان من الواضح إن صعود هذه الأحزاب سيُفسد كلَّ شيء، فبعد إعلان نتائج الإنتخابات العامة 2010 وفقاً لقانون القائمة المفتوحة، كان الذين حصلوا على أصوات توصلهم إلى العتبة الانتخابية أقل من عشرين مرشحاً بينما قام رؤساء الكتل الذين حصلوا على عدد كبير من الأصوات يفيض بكثير عن حاجتهم لدخول البرلمان بحكم الاستقطاب الطائفي والمال السياسي بالإضافة للتزوير، قام هؤلاء بتصعيد أكثر من 300 مرشح لم ينتخبهم سوى عشرات أو مئات، وذلك بإضافة الأصوات المطلوبة للمرشح الفاشل كي يصل العتبة الانتخابية وفقاً لفبركة (قانونية) دبرتها أحزاب المحاصصة لصناعة مجلس نواب يأتمر بأوامر رؤساء الكتل الانتخابية الذين يتقاسمون السلطة عبر دفع ضريبة التبعية لإيران وأمريكا!
وبهذا المقلب، أصبحنا أمام نواب لم ينتخبهم أحد! يقبضون أعلى الرواتب والامتيازات (أكثر من 30 ألف دولار شهرياً) وذلك لخلق طبقة سياسية مرتشية خاضة لأولياء النِعم! إنهم يعملون بطريقة الاستزلام السياسي ولذلك تجدهم يطلون عبر الفضائيات وقد بُحت أصواتهم بالكذب والتدليس. سياسيون نكرات فشلوا في الانتخابات لكنهم احتلوا مواقع غيرهم في أعلى سلطة في الدولة، السلطة التشريعية! فهل هناك سرقة للمناصب أغرب من هذه؟
لقد تصرفت هذه الأحزاب بما أملته عليها ثقافتها الرخيصة المتخلفة، ولسان حالها يقول (لقد فزنا بالانتخابات الشرعية، ومن حقنا أن نشكّل الحكومة، وهذا يعني أن الدولة أصبحت مُلكنا، ومن حقنا العمل بما تقتضيه مصالحنا، أليست هذه هي الديمقراطية؟!) كلا طبعاً، ليست هذه هي الديمقراطية، بل هذه هي ثقافة لصوص الدولة الجدد، ثقافة من لا يشعرون بالمسؤولية إزاء معاناة شعبهم المريرة! إذ تلبّستهم أوهام السلطة ومغانم السحت الحرام فنسوا العواقب! نسوا إنهم مازالوا يراوحون بين موقع الصنم المهزوم في ساحة الأندلس وبين الحفرة العميقة التي مازالت تنتظر من يختفي فيها، أو يفر إلى أوربا ولكنه لن يخلص من حفرة العار التي سيجدها تنتظره في كل مكان.
إن إنتخابات 2014 تقترب وإذا فازت الأحزاب الدينية أيضاً سنخسر حريتنا وحقوقنا من جديد، فبعد استفحال سلطة الفساد والشهادات المزورة أصبحنا أمام دولة فاشلة يهزمها الإرهاب يومياً وهي تهزم شعبها بالقمع والفساد!! فهل نبقى صامتين أم نتحرك لصناعة ربيع عراقي مختلف عبر صناديق الأقتراع وربما خارجها ؟!