22 ديسمبر، 2024 10:37 م

كلب الست وسفير الفقراء

كلب الست وسفير الفقراء

أن يعضَّ الكلب إنساناً ليس خبراً صحفياً بل العكس هو الخبر ! هكذا يدرسون الطلاب في الإعلام.
لكنَّ الخبر الذي تداولته وسائل الإعلام المصرية كان عن عضّة كلب، وأي كلب! إنَّه كلب كوكب الشرق أم كلثوم !
وإليك الحديث :
يُطلق على  شاعر العامية أحمد فؤاد نجم
(١٩٢٩م ـ ٢٠١٣م)، لقب (الفاجومي) ويقال :إنَّه هو الذي أطلقه على نفسه  فيقول في قصيدةٍ له :
أنا الفاجومي مواطن غلبان
شايل في قلبه … وطن
ويعني الفاجومي باللهجة المصرية العامية : (الشخص الصريح) ، وهو ينطبق تمام الانطباق على الشاعر الشجاع الذي عُرفت عنه جرأته، وأنَّه لا يتورع عن نقد أي شخص، مهما كانت مكانته في المجتمع مما أدى به إلى أن يكون نزيلاً شبه دائم في المعتقلات، والسجون المصرية، كما يوصف بأنَّه سفير الفقراء كونه بقي ضميراً لهم في كل مراحل حياته، لكنَّ هذا الوصف أُطلق عليه رسمياً سنة ٢٠٠٧م حين اختارته المجموعة العربية في صندوق مكافحة الفقر التابع للأمم المتحدة سفيراً للفقراء.
ولد الشاعر أحمد فؤاد نجم ، في قرية كفر أبو نجم بمدينة أبو حماد، في سنة ١٩٢٩م وكان ضمن ١٧ ابناً، وبعد وفاة والده انتقل إلى بيت خاله حسين بالزقازيق، وهناك أودع في ملجأ أيتام سنة ١٩٣٦م، وخرج منه في سنة ١٩٤٥م.
التقى سنة ١٩٦٢ مع الفنان الشيخ إمام عيسى (١٩١٨م ـ ١٩٩٥م) وكوَّنا ثنائياً  ناجحاً، ونالا شهرةً عريضةً بأغانيهما السياسية ومنها أغنية (الفول واللحمة) سنة ١٩٧٧م التي أُعتقلا على إثرها، وحُكم عليهما بالحبس سنةً واحدةً.
 تزوج عدة مرات، ومن زوجاته  الممثلة الجزائرية صونيا ميكو، والممثلة المصرية عزة بلبع، وفي  سنة ١٩٧٢م تزوج من الكاتبة صافيناز كاظم(ماجستير نقد مسرحي من جامعة نيويورك /١٩٦٦م، وبكالوريوس صحافة من جامعة القاهرة / ١٩٥٩) واستمر زواجهما حتى سنة ١٩٧٦م إذ انفصلا لكنَّ زواجهما أثمر سنة ١٩٧٣م عن بنت اسمها (نوارة الانتصار) التي صارت صحفيةً وناشطةً في حقوق الإنسان تدعى (نوارة نجم) برزت بعد سنة ٢٠١١م وصارت وجهاً مألوفاً في الفضائيات .
قال  الشاعر الفرنسي لويس أراغون عن أحمد فؤاد نجم : (إنَّ فيه قوة تسقط الأسوار) . ووصفه الدكتور علي الراعي بـ(الشاعر البندقية) ،  أما الرئيس أنور السادات فوصفه بـ (الشاعر البذيء) !! .
 توفي نجم في الثالث من كانون الأول سنة ٢٠١٣م عن عمر يناهز ٨٤ عاما، بعد عودته مباشرةً من عمّان، التي أحيا فيها آخر أمسياته الشعرية برفقة فرقة الحنونة بمناسبة ذكرى اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني، ومن أشهر قصائده: (كلب الست)، و(يعيش أهل بلدي)، و(الخواجة الأمريكان) و(الكلمات المتقاطعة)، و(حسبة برما)، و(نيكسون بابا) ، و(جيفارا) ، و(يا فلسطينية) ، و(بهية) ، و(كلمتين لمصر) .
جسدت حياته في فلم سينمائي روائي سنة ٢٠١١م عنوانه (الفاجومي) من تأليف وإخراج عصام الشماع، وتمثيل خالد الصاوي، ولم يلامس الفلم حياة الشاعر الصعلوك الثائر بعمق، بل انشغل بأحداث جانبية أضعفت القضية المحورية.
حادثةٌ ساخنةٌ واحدةٌ لم يسجن فيها الشاعر مع شدة نقده اللاذع للشخصية التي تمثل السلطة الحاكمة  ألا وهي حكايته  مع كلب أم كلثوم، (١٨٩٨م ـ ١٩٧٥م)التي يكن لها إعجاباً خاصاً ، لكنه انتقدها في قصيدة شهيرة بعنوان (كلب الست) مما أثار غضبها، ولولا حس السخرية العالية فيها لما نجا من العقاب !
لكن ما قصة هذه القصيدة، ولماذا كتبها؟
في كتاب (الفاجومي..السيرة الذاتية الكاملة) للكاتب صلاح عيسى يروي أحمد فؤاد نجم قصة القصيدة، وكذلك تابعتُه، وهو يرويها في بعض اللقاءات التلفزيونية والموضوعات الصحفية، وملخصها أنَّ هذه الحكاية حصلت في أوائل الستينيات في القرن الماضي، فقد نشرت الصحف الرسمية القومية الثلاث في مصر (الأهرام، والأخبار،والجمهورية) خبراً يقول : (حفظ التحقيق في قضية كلب أم كلثوم).
يقول أحمد فؤاد نجم : كان طلبة معهد التربية  قد عملوا يوماً رياضياً مع طلبة كلية الفنون الجميلة بالزمالك- وراء فيلا أم كلثوم- وفي هذا اليوم ذهب بعض الطلاب سيراً على الأقدام، ومروا أمام فيلا أم كلثوم، وإذا بكلب الست ويدعى (فوكس) يقفز من سور الفيلا، وينّقض على الطالب (إسماعيل خلوصي) ويعضه عضات مؤثرة في ساقه أدت إلى إحداث عاهاتٍ مستديمةٍ قضت على مستقبله تماماً في أن يكون مدرساً للتربية الرياضية.
اجتمع البوابون، وتشاجروا مع إسماعيل، وذهب الجميع إلى قسم الشرطة، وجرى تحرير محضر بالواقعة، واحتجز إسماعيل وأفرج عن الباقين، وفي السّجن ذاق الأمرين من السّجناء والسّجانين، وعند التّحقيق أقرّ بأنّه ارتكب خطأ وقال للمحقق: مَنْ يدري لعلّ الكلب تسمم مني !
وتم تحويله إلى النيابة، ثمَّ القومسيون العام، وإذا بمكالماتٍ هاتفيةٍ كثيرةٍ تأمر وكيل النيابة بسرعة حفظ التحقيق، ويضطر وكيل النيابة لكتابة الحيثيات، التى نشرت مع الخبر: (إنَّ الخدمات التي أدتها أم كلثوم للدولة كفيلة بأن تعفيها وكلبها من المسؤولية الجنائية) !
وأشار نجم إلى أنَّ أكثر ما استفزه في الموضوع هو الموضوع الصحفي الذى نشرته جريدة (الجمهورية) وقتها، وكان عبارةً عن تقرير مع الطالب “المعضوض”، والذي جاء عنوانه: (أنا سعيد لأن اللي عضني كلب أم كلثوم) !
ويتابع نجم الحديث في حوارٍ مع الإعلامية ليلى الأطرش في تلفزيون قطر سنة ١٩٩٥م(على موقع اليوتيوب) فيقول:
ذهبتُ إلى بيت الطالب إسماعيل فوجدتُ أنَّه الولد الوحيد مع ثلاث بنات مصابات بفقر الدم، وكان منتظراً أن يتخرج الشقيق، ويتعيّن، ويعيل العائلة، فأصبح معوقاً مدى الحياة ويحتاج إلى الرعاية.
وسألته المذيعة عن موقف أم كلثوم من القضية، وهل عوضته؟
قال : أبداً لم تلتفت لإسماعيل ، لكنها حين سمعت بقصيدة (كلب الست) وقرأتها قالت:  هاخرب بيت اللي كاتب القصيدة.
فقال لها الكاتب الصحفي جليل البنداري:  اللي كتبها معندهوش بيت !
فقالت له : أنا هاشرده.
وردَّ
 عليها :هو مشرد أصلاً !
وسألته المذيعة عن شتمه لكوكب الشرق
فرد : أنا لم أشتم أم كلثوم، بل القانون الذي تعامل به وكيل النيابة مع الواقعة، وخاصةً بعد ما نُشر على لسان الواد الغلبان، أنه سعيد جداً أن كلب الست أم كلثوم عضه، وهو ما استفزني وكتبت القصيدة التي تسببت في بلاوي كثيرة لي، بعد انتشارها بشكل سريع، ومن كلمات القصيدة :
انت فين والكلب فين
انت قده يا اسماعين
طب دا كلب الست يا ابني
وانت تطلع ابن مين
بشرى لصاحب الديول
وللي له أربع رجول
بشرى لاسيادنا البهايم
من جمايس أو عجول
اللي صاحبه يا جماعة
له أغاني ف الاذاعة
راح يدوس فوق الغلابة
والنيابة
بالبتاعة !
أضاف أنَّه يعشق أم كلثوم ولا يوجد رجل في مصر لا يحبها، وأنَّه كان يتمنى أن يكتب لها أغنيةً مشيراً إلى أن ثقافته الموسيقية تلقاها من أم كلثوم نفسها، وأحب وكرّه على أغانيها، ككل المصريين، وأنَّ ما أغضبه فى قصة “كلب الست”، هو قرار الإفراج عن الكلب، مشيراً إلى أنه كان يعرف المحقق بشكل شخصي حيث حقق معه سابقاً في قضايا سياسية.
وتابع :أنقذني من الدمار أنَّ القصيدة دمها خفيف، وعندما قرأها الشاعر والكاتب كامل الشناوي، كان يهتز من الضحك، وقال لي: لو مش عامل القصيدة دي بخفة دم، كان الجمهور قتلك !
ونقول : لو لم يُخلد الشاعر هذه الحادثة في قصيدة، هل كان يمكن أن تصل إلينا، ونتعرف إلى جانب من شخصية أم كلثوم، وطبيعة علاقتها مع السلطة المستبدة؟

ويبقى السؤال : هل هناك تناسب طردي بين النجومية والعنجهية ؟