لا يزال العالم يشهد التداعيات والتطورات الاقتصادية وغيرها الناتجة عن الانخفاض الكبير في أسعار النفط ، وفي مقدمتها انخفاض إيرادات الموازنات المركزية أو الاتحادية في الدول أحادية التمويل ، وفي الدول المتقدمة المنتجة للنفط إنعكس انخفاض سعر النفط إيجابيا على حياة مواطنيها لكون هذه الدول لا تعول على النفط وإنما تعتمد في تمويلها على تنوع الإيرادات ومنها الناتج المحلي والضرائب والرسوم على السلع والخدمات المنتجة محليا وليس على الاستيراد فحسب ، وبالتالي فان انخفاض الإيرادات المتحققة من إنتاج النفط تقابلها زيادة في الإيرادات المتحصلة من النشاطات الأخرى وانخفاض تكاليف الخدمات العامة التي تقدمها هذه الدول نظرا لانخفاض أسعار الوقود ، أما في الدول ( الشمولية ) التي تمتلك حكوماتها النفط مثل روسيا وفنزويلا ودوّل الخليج والعراق فقد أصابها الضرر بدرجات متفاوتة حسب ظروفها واحتياطياتها وأرصدتها ومقدرتها الإنتاجية ، والعراق واحدا من أكثر الدول تضررا اقتصاديا بسبب وضعه الأمني وقلة خياراته وأرصدته الاحتياطية والاضعاف المتعمدة في قدراته الإنتاجية المحلية , وقد جاءت الموازنة الاتحادية لهذا العام بنفس أخطاء الموازنات السابقة من حيث رهن اقتصاد البلد بالإيرادات النفطية ودولرة الموازنة والإنفاق ، وفي الوقت الذي نسمع الأحاديث المتواصلة والشعارات البراقة عن تطوير قطاعات الإنتاج المحلي العاطل عن العمل في حقيقته ، فان المناقشات التي تدور في الأروقة المعنية تميل اغلبها لتخفيض الإنفاق العام وإقرار ضرائب وأعباء إضافية على الشعب تؤدي إلى زيادة الفقر وارتفاع معدلات التضخم وضعف القدرات الشرائية لنسبة مهمة من الشعب ، وهي إجراءات من شانها أن ترفع التكاليف وتتلاشى من خلالها فرص التنافس الضئيلة المتبقية لقطاعات الإنتاج المحلي أمام الطوفان المتوقع للسلع المستوردة منخفضة الأسعار , وبالتأكيد إن الحكومة ومجلس النواب لديهم الكثير من الخبرات بشأن تنويع الاقتصاد الريعي ، إذ يتطلب ذلك تفعيل القطاعات الحكومية والمختلطة والخاصة للإنتاج وهذا التفعيل يتطلب إجراء تحولات كثيرة لإحداث الإصلاح الحقيقي وعدم الإبقاء عليه كشعار ومنها على سبيل المثال :
– التحول من سياسة الدولرة النقدية باتجاه سياسة العرقنة ( استخدام العملة العراقية للإنفاق المحلي بدلا من الدولار ) فالدولار يثير شهية الفاسدين والسارقين لسهولة عبوره الحدود .
– الانتقال من سياسة الاستيراد إلى استخدام المنتج المحلي من خلال دعم المنتج المحلي .
– التوقف عن التدخل في سعر صرف الدولار والتحول إلى سياسة ترشيد استخدام الدولار وزيادة الأرصدة الاحتياطية من خلال إعادة النظر بسياسة مزاد الدولار لمنع هدر الثروات .
– التحول من سياسة التصدق على العاطلين والفقراء إلى تفعيل المشاريع المحلية التي توفر فرص العمل لتشغيل الطاقات لزيادة الناتج المحلي لكي يكون الإنسان منتجا للدخل بالفعل .
– إلغاء سياسة تجاهل الإنتاج المحلي والتحول إلى سياسة الدعم الواسع بالمنح والقروض الميسرة المقترنة بالضمانات لرفع معدل دوران الدينار وزيادة المعولية على العملة الوطنية .
– ولوج سياسة الخصخصة فعليا وتقليل حجم الملكية الحكومية لتشجيع الاستثمار المحلي .
– تحديد صلاحيات الوزارات من الاستيراد وتوفير احتياجاتها محليا وحصر الاستيراد بجهة عليا واحدة وللمواد التي يستحيل توفيرها محليا والعمل على إنتاجها في المستقبل القريب .
– إلغاء أية نوايا للاقتراض بما يضمن عدم إعادة التجربة المريرة في مديونية العراق ولعدم فسح مجال إضافي للفساد وجعل الاقتراض مقترنا بمصادقة مجلس النواب أو الاستفتاء العام .
وهذه التوجهات تتطلب بالتأكيد زيادة الإنفاق العام وليس تقليصه لان تقليص الإنفاق يقلل من فرص حصول الشعب على احتياجاته ويترك المجال مفتوحا للمحتكرين والمتحكمين ، ولو راجعنا أسباب تقليل الإنفاق العام لوجدنا إن السبب هو التقيد بسعر صرف الدولار رغم إن المواطن ( الاعتيادي ) لم يكن في يوما ما مستفيدا من هذه السياسة لان أسعار الصرف لا يتم التحكم بها بما يوازي خسارة المواطن من بيع حصته بالدولار بالمزاد لعدد محدود من الأفراد والشركات ، ولا نعرف السبب الحقيقي لإصرار الجهات المعنية على تجاهل جميع الدعوات المخلصة بتغيير أساليب إعداد وتصميم الموازنة من المنهج الشمولي الموروث إلى منهج علمي يعتمد على احتياجات البلد وقدراته الحقيقية ، والغريب في الموضوع إن العديد من الجهات والمؤسسات المعنية والإعلامية تكرر وتعيد الدعوات الداعية إلى تخفيض الموازنة والإجراءات التقشفية ، في الوقت الذي يعلم فيه الكثير من المتخصصين إن البلد يمر بحالة انكماش حادة وان تجاوز هذه الحالة يتطلب دعم المنتج المحلي ، وهذا يحتاج إلى زيادة الإنفاق وليس التمسك بالشعارات أو التمنيات وجعل اقتصاد البلد بيد مجموعة تتحكم بكل شيء من أموال الشعب ، حيث تتم تغطية الاستيرادات ببيع الدولار لهم بالأسعار المعلنة في البنك المركزي العراقي .
فالمطلوب هو توظيف الإمكانيات المحلية لمعالجة أزمات البلد بما في ذلك الاعتماد على الخبرات غير الزائفة التي تمتلكها الوزارات والجامعات الحكومية والعاملين فيها وطاقات الشباب ، وربما التعليم التقني هو الأفضل لحل المشكلات كونه الأقرب للواقع ويمتلك أفكارا متفتحة ورغبات وطنية بهذا الخصوص على أن يترك هامش المرونة المطلوبة لتبني الأعمال المتقدة والابتكار والإبداع ، وإسناده بشكل صحيح من قبل الأجهزة المعنية في مجال التشغيل وليس التنظير سيما وان البلد يمتلك أربعة جامعات تقنية وجامعة تكنولوجية ، وهو ما يتطلب استخدام أساليب مرنة بدلا من التعبد بالتعليمات الموروثة والقيود التي يضعها الفاسدون لكي تستمر سياسات الاستيراد وبقاء البلد طاردا للثروات والاستثمارات ، فتفعيل الأفكار الإبداعية من قبل الوطنيين والمخلصين المجربين وتحويلها إلى قطاعات التطبيق يتطلب تخليصها من القيود لبلوغ الأهداف الايجابية بعيدا عن التشكيك والتخوين ، وقبل كل هذا لابد من تحرير البلد من الفاسدين والحيتان لأنهم أكثر خطرا على السيادة والسياسة والاقتصاد وجميع مفردات الحياة فهم استعمار حقيقي يجيد لعبة الاختفاء والادعاء .