قال المتنبي : لايعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يقاسيها ، وبيت الشعر هذا يؤكد على اهمية الخبرة والتجربة والممارسة ، فلايمكن لميكانيكي أن يتعلم تصليح السيارات نظرياً من على السبورة ، ولا يمكن لطالب في الكلية الطبية أن يصبح طبيباً بدون أن يدرس درس التشريح ويمارسه .
مشكلتنا العراقية بعد عام 2003 ، هي وصول أناس مجهولي الهوية والتاريخ السياسي ( بالنسبة لمعظم الشعب العراقي) الى قمة السلطة السياسية وبالصدفة في اغلب الاحيان . جاءوا وهم بلا خبرة ولامعرفة بأمور الديمقراطية أو السياسة أو تنظيم الاحزاب أو ادارة شؤون الدولة ، ولكن قد تم تنصيبهم برعاية واختيار من المندوب السامي الامريكي ومن يقفون وراءه ، ليقودوا عملية التحول الديمقراطي في بلد اغلبية سكانه لم يسمعوا في حياتهم بشئ اسمه ديمقراطية ، ولايعلمون إن كانت الديمقراطية هي نوع من الكليجة أم الكبة ، ولايعرفون من الحرية سوى التسيب والفوضى وخرق الانظمة والقوانين .
أما من جاء بهم الاحتلال الامريكي ليقودوا العملية السياسية ، فهم اصلاً لايعلمون لم جئ بهم ، ولا ماهية الميزات التي يمتازون بها عن غيرهم ليتم اختيارهم ، ومعظمهم قضى اكثر من عشرين سنة أو اكثر خارج العراق ، بحيث انقطعت صلتهم تماماً بالمجتمع العراقي فلم يعودوا يفهموا مايحدث داخله ، وياحبذا لو كشف لنا السفير الامريكي الأسبق بول بريمر الاسس التي تم اختيارهم على اساسها ليشكلوا مجلس الحكم الانتقالي .
الامريكان لم يكونوا يريدون ارساء الديمقراطية أو تأسيس مجلس نيابي في العراق ، بل تركوا العراق لعدة اشهر غارقاً في الفوضى (الخلاقة) ، وتركوا البنوك والمعسكرات عامدين بلا حماية ، لتتمول وتتسلح المليشيات والعشائر العراقية المتنافرة وتتقاتل فيما بينها فيما بعد ، لكنهم وبعد أن فشلوا في العثور على أية اسلحة دمار شامل (وهي الحجة التي استندوا اليها لغزو العراق) ، زعموا امام العالم إنهم جاءوا لأنقاذ الشعب العراقي من ديكتاتورية صدام حسين (أيبآآآآخ) ، وإنهم سينشأوون للعراقيين نظام حكم ديمقراطي حر .
مازال الامريكان ينظرون لشعوب العالم الثالث بعنصرية واستعلاء ، ولا يعتقدون بأنها مؤهلة لحرية الرأي أو الديمقراطية بسبب الجهل والتخلف ، إلا إنهم كانوا يريدون تغيير القوانين العراقية وبضمنها قوانين استثمار الثروة النفطية ، وبما إن القانون الدولي يقضي على دولة الاحتلال عدم تغيير الانظمة والقوانين في البلد المحتل من قبلها مباشرة ، فلقد اضطر الامريكان بعد الضغط الدولي وخاصة من قبل فرنسا والمانيا اللتان اعترضتا على تغيير القوانين العراقية ، الى اجراء انتخابات عامة والمجئ بمجلس نيابي منتخب من الناس للقيام بتغيير قوانين الدولة العراقية .
كانت المشكلة الاولى هي عدم وجود قانون للأحزاب ، وكون الاحزاب الدينية بكل اطيافها محظورة رسمياً ، وتم تجاوز هذا الاشكال حين اصدرت سلطات الاحتلال قراراً يسمح بحرية الرأي والتعبير والتظاهر السلمي بعد حصول المتظاهرين على الآذن من وزارة الداخلية ، كما غضت النظر عن تشكيل الاحزاب رغم عدم وجود سند أو مسوغ قانوني يسمح بتشكيلها .
أما المشكلة الثانية فكانت قانون الجنسية والذي يمنع أي مواطن عراقي من حمل جنسية ثانية بجوار الجنسية العراقية ، وفي حالة حصول المواطن العراقي (ولو بالصدفة) على الجنسية الهندية أو التايلاندية ، فتعتبر جنسيته العراقية ساقطة رسـمياً وبصورة اتوماتيكية ، ولا يتمكن المواطن العراقي من استعادة جنسيته إلا بعد تقديمه طلب رسمي للسفارة أو لوزارة الداخلية (إذا كان داخل العراق ) يعلن فيه تخليه عن جنسيته أو جواز سفره الاجنبي مقابل استعادته للجنسية العراقية .
هناك قصة حقيقية تروى عن مدرسة عراقية كانت منتدبة للتدريس في الجزائر في منتصف الستينيات من القرن الماضي ، اثناء فترة الانتداب التقت بمدرس سوري وتزوجته ، ولأن قانون الجنسية السوري حينها كان يقضي بمنح الجنسية السورية لأي امرأة متزوجة من سوري ، فقد تم منحها الجنسية السورية الى جانب جنسيتها العراقية ، مباشرة قامت الحكومة العراقية بأسقاط جنسيتها العراقية وفصلها من وظيفتها لأنها صارت اجنبية بحكم القانون ، رغم إن حصولها على الجنسية السورية لم يكن بطلب منها .
غضت سلطات الاحتلال النظر عن قانون الجنسية جملة وتفصيلاً ، مع العلم إن ثلثي مرشحي الانتخابات لم يتقدموا اصلاً بأي طلب لأستعادة الجنسية العراقية المسقطة عنهم قانوناً لكونهم يحملون جنسيات اجنبية ، وبالتالي فلم يكن لهم حق الترشيح أو التصويت قبل تعديل القانون ، والكثير من هؤلاء حصلوا على هذه الجنسيات بفعل الاقامة الطويلة والعمل في الولايات المتحدة وبريطانيا وليس بصفتهم لاجئين سياسيين مزعومين ، إذ لم يكن لنصفهم علاقة بالسياسة ولا حتى بالعراق قبل احتلاله ، ولكنهم اكتشفوا فجأة وبعد سقوط تمثال ساحة الفردوس إنهم كانوا معارضين لنظام صدام منذ نعومة اظفارهم أو ربما منذ ايام الروضة والتمهيدي .
مثل البائع المحتال الذي يبيع بضائع مغشوشة للغشمة وولد الخايبة ، فلقد باعتنا الولايات المتحدة وهم الديمقراطية وتعدد الاحزاب وبثمن باهض جداً ، ليس بسبب رواتب النواب ذات الارقام الفلكية ، وإنما لأن الديمقراطية المزعومة قد جاءتنا بالعبوات والمفخخات وكواتم الصوت ، حيث إن اكثر من طرف من اطراف العملية السياسية الحالية ، كانت له سوابق في الاغتيالات ومهاجمة أو تفجير مقرات خصومه الحزبية ، في حين كان العراق عام 2003 بحاجة الى حكومة مركزية قوية ، تفرض الآمن والاستقرار ، وتدرس مفاهيم حرية الرأي والديمقراطية في المدارس والجامعات ، وتنشر الوعي السياسي والثقافي بين العامة ، ثم تجري اول انتخابات محلية بعد ثلاث سنوات ، وعندما يترسخ مفهوم كون المجالس المحلية هي لتوفير الخدمات للناس ، وتترسخ مفاهيم الديمقراطية وحرية الرأي يتم اجراء الأنتخابات العامة ، لكن هذا كله لم يحدث .
منذ البداية خططت الولايات المتحدة لتخريب العملية الديمقراطية من اساسها ، وذلك لجعل بقية شعوب المنطقة تتيقن بأن الديمقراطية ستؤدي حتماً الى خراب وتدمير البلاد ، فتجربة العراق ادت الى التفجيرات والاغتيالات وارغام بعض الناس بالقوة على ترك منازلهم ، وادت كذلك للفساد الاداري واختلاس اموال الدولة وانتشار عصابات اللصوص وقطاع الطرق ، وهذا مما سيجعل بقية شعوب المنطقة تتمسك بحكامها الفاسدين المستبدين وترفض الفكر الديمقراطي من اساسه .
قررت سلطات الاحتلال الامريكي الحاكمة في العراق المجئ بأناس مطيعين ومخلصين لها ، لايمثلون احداً من سكان العراق ولا يعبرون عن أراء العراقيين أو افكارهم ، وهي من اعطتهم وفرضت لهم رواتب ومخصصات فلكية الارقام بعد احتساب قيمة رواتبهم بالدولار ، وذلك ليتحولوا الى طبقة ارستقراطية مترفة لاعلاقة لها بالعراق واهله ، والديمقراطية المزعومة والبرلمان والدستور كان لخدمة الاحتلال الامريكي وليس من اجل سواد عيون الشعب العراقي ، فلقد كانت اميركا تبحث عن سبب ما تبرر به غزوها للعراق امام الرأي العام الدولي ، بعد أن دخلت بجيوشها بدون موافقة من مجلس الأمن الدولي .
لقد تم اعداد قانون الأنتخابات على عجل وبطريقة عبثية عشوائية وغير منصفة لاصحاب الكفاءات والمثقفين ، وتعمد معدوه أن يأتي فارغاً من المحتوى والمضمون الديمقراطي ، ومفصلاً على مقاس السادة الاجانب الذين كان اجدادهم قبل خمسين عام يحملون الجنسية العراقية ، أو لأبناء العشائر الذين يعتبرون حكومة بغداد المركزية هي حكومة لدولة اجنبية محتلة لاراضي عشائرهم ، وإن الامريكان سيساعدونهم على طلب استقلال عشيرتهم عن العراق أو تحويلهم الى اقليم فيدرالي يتفضل متكرماً بالاتحاد مع حكومة بغداد المركزية ، والطرفان يتعاملان مع خزينة الدولة كبقرة حلوب ، فالعراق ليس موطنهم الاصلي ، وبالتالي فهما غير مهتمان بما يحصل لشعبه من مآسي أو نكبات .
لو اجرينا مقارنة بين فوائد واضرار البرلمان طوال السنوات العشر الماضية ، لوجدنا إن مساوئ النواب اكبر بكثير جداً من الخدمات التي يزعمون إنهم قدموها للشعب ، وعندما يطالبوننا اليوم برواتب تقاعدية ، يذكرونني بأجهزة امن النظام السابق التي كانت تستوفي ثمن الطلقات من عوائل المعدومين ، والمفروض أن لايقدم لهم الشعب العراقي أي راتب ، بل الجهات التي جاءت بهم وفرضتهم على الشعب العراقي بالخديعة والقوة العسكرية المسلحة .
واخيراً فحسب نظرية الدكتور ادلر في علم النفس ، إن كل إنسان يتهرب من عقدة النقص الكامنة في داخله فيتصرف بطريقة معاكسة لعقدته النفسية محاولاً ايهام نفسه والآخرين بتغلبه عليها ، فأصحاب النفس القصير يصبحون سباحيين وعدائي مسافات طويلة ، وقصار النظر يميلون لرسم الاجزاء الدقيقة والمنمنمات ، أو للحياكة بالسنارة بالنسبة للبنات ، وحسب هذه النظرية يصبح من اختار نشيد موطني كسلام جمهوري للعراق ، هو إنسان لا وطن له ، أو ربما ليس له وفاء أو ولاء أو إنتماء لوطن ما .