18 ديسمبر، 2024 11:15 م

كلام عن الحرية في العراق

كلام عن الحرية في العراق

يمُن القادة السياسيون العراقيون على شعبهم بنعمة الحرية التي أكرموه بها، ويلومونه على تقصيره في تقدير قيمتها، وعلى جهله بأن دولا كثيرة في المنطقة تحسده عليها، وينصحونه بعدم التفريط بها، وبحمايتها من الزوال.

المعمم همام حمودي، رئيس المجلس الإسلامي الأعلى، وهو أحد قادة العملية السياسية الكبار، ظهر في حوار تلفزيزني على قناة (حرة عراق) ليتحدث عن الحرية في العراق،ويباهي بها ويطلب دوامَها. وإليكم أهم ما قاله في ذلك الحوار، (وسامحوه على ركاكة التعبير ومخزونه اللغوي الفقير)، قال:

” أسقطنا الطاغية وحققنا الحرية، هذه الحرية التي تعيشونها، هذه التي تتابعون أكبر مسؤول في الدولة، رئيس جمهورية أو رئيس وزراء، وتحاسبونه كم يستلم من الراتب، ونُقلل من هذا، ونضيف هذا الجانب.

” هذه فرصة تاريخية للعراقيين ليعطوا من إبداعهم لبناء هذه الدولة”.

” لا دولة مثلكم في المنطقة”.

” أيها العراقيون عليكم أن تكونوا أهلا لهذه النعمة، فأنتم تعيشون نعمة ما بعدها نعمة، وقد تذهب منكم إن لم تكونوا عارفين، وشاكرين لها”.

نعم، في العراق حرية، ومن نوع فريد ليس له شبيه في المنطقة، وبلا حدود وبلا قيود،ولكنها حرية الفوضى، وهي ليست الحرية الحقيقية التي ظل الشعب العراقي يحلم بها عشرات السنين، والتي ظن أن حكام العهد الديمقراطي الجديد الذين يضعون عمائمهم البيض والخضر والسود على رؤوسهم، أو الآخرين الأفندية الذين يخبئونها في عقولهم وأرواحهم، سيَصدُقون في وعودهم، ويحققونها له، جنبا إلى جنب مع الكفاية والعدل والديمقراطية الحقيقية غير المغشوشة.

ولابد من الاعتراف هنا بأن أساس نشأة الحرية القائمة حاليا في العراق هو وجود هذه الخامة من الحكام الذين يؤمنون بأنها لا تتعدى حرية الراعي في التصرف برعيته، وحرية الإمام في إدارة مسجده أو حسينيته. أما المباديء التي نصت عليها وثيقة حقوق الإنسان فهي بدعة مستوردة من بلاد الاستكبار العالمي الكافرة، (وكل بدعة في النار)، ومن يدعو لها ويروج لمبادئها إنما يحارب الله ورسوله والمؤمنين.

أما الفوضى السياسية والأخلاقية والثقافية والأمنية والاقتصادية الضاربة أطنابُها في العراق، والتي يسميها حكام المنطقة الخضراء حرية، فهي نتاجٌ طبيعي ومتوقع لنظام المحاصصة الذي منح الأحزاب والشخصيات المتشاركة في السلطة قدرةً مطلقة على توظيف السلطة لجمع المال والسلاح، وثم على توظيف المال لضمان استمرارها فياحتكار السلطة.

ثم، وتبعا لذلك، اقتضت مصالح السادة الكبار أن تنشأ حولهم شلل وعصابات تحمل سلاحهم لتخيف به خصومهم، ولكي تدير لهم به أموالهم، وتحمي قصورهم واستثماراتهم، وتقاتل من أجل ضمان بقائهم في الحكم إلى أن يشاء الله.

وطبيعي أن يغضَّ هؤلاء السادة الكبار أنظارهم عما تفعله حماياتهم وأحزابهم ومليشياتهم بالمواطنين. وما جرى في البصرة وساحة التحرير ببغداد وفي محافظات أخرى من خطف وتعذيب وقتل لبعض المتظاهرين السلميين المطالبين بالحرية مثالٌ على ذلك لا خلاف عليه.

وهذا ما جعل العراق يتفرد بين دول الجوار والمنطقة في الحرية المنفلتة العابثة الخارجة على العقل والمنطق وسلطة القانون.

وحين تجادلهم حول هذا المَسخ الذي يسمونه حرية يرد عليك وُعاظُهم وأزلامهم بأنهم “منتخبون من قبل الجماهير في انتخابات حرة نزيهة ديمقراطية تعترف بها حكومات لا تعد ولا تحصى، وأمريكا وإيران أهمُها وأكثرُها دفاعا عنها.”

ويغيب عن هؤلاء أن عملية الانتخاب وحدها ليست ديمقراطية، حتى لو كانت انتخابات صحيحة، غير صورية، وغير مزورة، ولم يقرروا هُم أنفسُهم نتائجَها قبل أن تبدأ، بإرهاب ناخبيهم بخناجر كتائبهم المسلحة وسيوفها، أو بفتاواهم المضللة، أو بسطوة القضاء المُدجَّن، أو بشراء الناخبين بوظائف أو بأموال مسروقة من خزائن الأمة، أو واردة من وراء الحدود.

والحقيقية أن للاحتلال الإيراني نصيبا كبيرا جدا في إنبات هذه الفوضى وسقيها ورعايتها وتجذيرها في الثقافة العراقية الجديدة، والحفاظ عليها، وحماية كبار المرتزقين بها، والعائشين على نعمتها، والخائفين عليها من زوال.

والخلاصة أن أهلنا في العراق لن يذوقوا طعماً لحريةٍ حقيقية إلا إذا خرج هؤلاء من حياتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وإلا إذا تم فصل الدين عن الدولة، تماما ونهائيا، وإلا إذا دخل الوطن العراقي السيدُ الحر عوالم العصر العلماني الديمقراطي الذي يضمن المساواة لجميع أبنائه في الحقوق والواجبات، ويرفع عنهم سيوف القهر الديني والعنصري والطائفي، ويغسل عقولهم وقلوبهم مما علق بها من أوهام وخرافات وأساطير، ويجعل رجال الحكومة موظفين لدى المواطنين، ولا يجعل المواطنين عبيدَ حكومة، فهل هذا على شعبنا كثير؟؟