18 ديسمبر، 2024 5:16 م

كلام عن الإغراء الدكتاتوري

كلام عن الإغراء الدكتاتوري

كانت منطقتنا حائرة بين خيارين اثنين لا ثالث لهما: التطرف الديني والاستبداد السياسي. وكان كل خيار من هذين الخيارين يقدم نفسه باعتباره البديل الوحيد الممكن للخيار الآخر.

درءا للمعاندة التي تمنع الإنصات وقد تبعث على التبلد أحيانا، لا بأس بأن نبدأ الكلام من آخر السجال، فنعترف لمن يعنيه الأمر بأن نجاح رجب طيب أردوغان في إحكام السيطرة على مفاصل الدولة التركية بصفة شبه نهائية قد يمثل منذ الآن نوعا من الإغراء التعويضي الجذاب بالنسبة إلى شعوب كان حالها ولا يزال يشبه حال الأيتام في مأدبة اللئام، شعوب تفتش في مشارق الأرض ومغاربها عن “آباء” يَصلحون للاستعارة، من باب التعويض الرمزي عن الشعور بالهزيمة الحضارية والإحباط الجماعي وفقد البوصلة.

وكما يبدو فليس ثمة اليوم من هو أكثر جاذبيّة من الخطيب المفوّه أردوغان الذي عرف كيف يحكم قبضته الحديديّة على الرقاب باستعمال التحدي الخطابي للغرب كما توحي خطبه الهوجاء، وكما كانت لعبة عتاة الطغاة العرب على الدوام. من يزعم بأن العرب وحدهم من يمثلون ظاهرة صوتية؟

أردوغان فَهم نفسية شعوبنا وأدرك المطلوب منه، منذ غضبته الشهيرة على شيمون بيريز في منتدى دافوس عام 2009. بحيث ظهر كما أحبّ الناسُ البسطاءُ أن يظهر لهم: رجل مسلم يخاف الله، ويغضب لأجل الله، فلا تهمّه في ذلك لومة لائم، ولا يقيم وزنا لخسارة بعض المنافع الدنيوية.

سنحاول الكشف عن قوة الإغراء الدكتاتوري، ثم نكشف عن حدوده أيضاً، بل نكشف عن خطورته، قبل أن نعود تدريجيا إلى منطلق التحليل، حيث نبتغي نقض القضية التي نرافع من أجل نقضها.

قبل ذلك دعنا نعترف بأن القيم المرجعيّة في آخر التحليل مسألة اختيارات أكثر ممّا هي مسألة خاضعة للاستدلال العقلي المنطقي. مثلا حين نقاوم تزويج القاصرات أو نرفض تشغيل الأطفال، فإننا ندرك أن الأمر متعلق بمشاعرنا الإنسانية المتحضرة أكثر ممّا هو متعلق بالاستدلال المنطقي.

ولأن القيم ذات بعد وجداني فإن امتلاكها لا يحتاج إلى مجرد ذكاء عقلي، وإلا فالكثير من الأذكياء لا يتورعون عن تبني القيم الأكثر تطرفا. هنا تكمن مخاطر نمط من التعليم يركز على تنمية العقل الأداتي على حساب العقل النقدي. بالعودة إلى أردوغان دعنا نقُل كلاما واضحا:

قد تنجح الدكتاتوريات في تحقيق نسبة نمو اقتصادي قد تكون مبهرة في بعض الأحيان (ألمانيا النازية، روسيا الستالينية، الصين الشعبية)، لكن ذلك ليس حجّة على كفاءة الدكتاتورية.

قد تقود الإرادة الشعبية وصناديق الاقتراع إلى صعود أسوأ أنواع الدكتاتوريات (هتلر مثلاً) لكن ذلك ليس حجّة على مشروعية الدكتاتورية. من المؤكد أن الدكتاتورية تغري مستويات اللاوعي الجمعي للشعوب وذلك لثلاثة اعتبارات عميقة:

أوّلاً، إنها تحيي ذكرى “أب العشيرة البدائية”، وتخفي من ثمة الشعور باليُتم الحداثي. وهو شعور لا يتحمله إلا من كان على درجة عالية من الوعي بالكرامة الفردية.
ثانيا، إنها تمنح الشعور بالأمن، والأمن هنا بمعناه الوجودي. فإن التفكير في المستقبل والمصير ونوائب الدهر وتقلبات الزمن أمر متعب في كل أحواله، لذلك تريحنا الوصاية الدكتاتورية من هذا التعب. وهو تعب لا يتحمله إلا من كان على قدر عال من الشعور بالمسؤولية الفردية.

ثالثا، إنها تساعدنا على استعادة التحكم في أبنائنا المتمردين بحكم أعمارهم. وهو تمرد لا تستوعبه إلا مؤسسات التنشئة التي تعمل بقدر عال من المرونة والفعالية والانفتاح. وهو ما لا توفره إلا القليل من النظم المتقدمة في العالم الحر.

الدكتاتورية تغري لأنها تعفي الإنسان من ثقل الشعور بالمسؤولية. فإن المسؤولية ثقيلة في كل أحوالها لكنها حين تشيع الخوف فهي تقتل الإنسان وتحديدا تقتل ما هو إنساني في الإنسان. ماذا عن أردوغان في آخر المقال؟

كانت منطقتنا حائرة بين خيارين اثنين لا ثالث لهما: التطرف الديني والاستبداد السياسي. وكان كل خيار من هذين الخيارين يقدم نفسه باعتباره البديل الوحيد الممكن للخيار الآخر. وبهذا المعنى كان كل خيار يستمد مشروعيته من ادعاء القدرة على درء الخيار الآخر.

أما اليوم فلعل أردوغان جمَعَ الخيارين معاً وحسم الموقف. ومن يدري؟ لربما يكون هذا الإنجاز هو الخطر القادم من الشرق هذه المرة، لا سيما عقب أفول داعش. سبقت المسلسلات التركية إلى تسطيح العقول وتبلد الأذواق، والباقي لن يكون أكثر من تدابير يتكفل بها الإسلام السياسي على طريقة الحاكمية الأردوغانية.
نقلا عن العرب