19 ديسمبر، 2024 12:19 ص

لم يكن إقرار الموازنة العامة في مجلس النواب حدثاً مهماً في حد ذاته , ولم يكن الأكثر الإثارة في تلك الجلسة حذاء “سندريللا” الذي طار من قدمها ليطبع وشماً على جبين أحد زملائها , لكن وجه الإثارة الحقيقي كان في المعاني السياسية القوية التي تمخضت عنها تلك الجلسة و التي كشفت بوضوح حجم النخب السياسية وقدراتها ؛ فقبل بدء تلك الجلسة الخطيرة كان النائب حيدر الملا يروح ويجيء ما بين مقهى المجلس حيث قبع معظم نواب القائمة العراقية التزاماً بقرار قادتهم بمقاطعة الجلسة , وقاعة الاجتماع  ليرصد أعضاء قائمته المتواجدين فيها و يبلغ أسماءهم بهاتفه النقال للسيد إياد علاوي الذي قام بالاتصال بهم واحداً بعد آخر طالباً منهم المغادرة و إفشال النصاب متعللاً بأن مشروع الموازنة يجب أن يُقرّ بتوافق كافة الكتل وكان يقصد هنا الأكراد تحديدا , وفيما يبدو أن نواب العراقية من كتل ” الحوار ” و “الحل ” و “متحدون ”  لم يكونوا مستعدين للتجاوب مع زعيمهم الشكلي لأن التعليمات كانت قد صدرت إليهم من زعمائهم الفعليين أسامة النجيفي و صالح المطلك وجمال الكربولي بضرورة حضور الجلسة و التصويت الايجابي على مشروع الموازنة , ولما شعر حيدر الملا بتجاهل زملائه لتعليمات ” الزعيم ” رجع إلى المقهى ليبلغ النائب سلمان الجميلي بما يحصل , وفيما يبدو أن ضغط الحدث وحساسية الموقف قد تسببا بتوتر هذا النائب الذي طالما تميّز بهدوئه , وكذلك بادر إلى التحدث مع زملائه في قاعة الاجتماع بنبرة عالية تناشد فيهم الالتزام والولاء ومعرّضا بمن سبق أن انشق عن القائمة , فاعتبرت “سندريللا ” أن كلامه تعريضاً بقائمة البيضاء فتصدت له بنبرة أعلى لينحدر الجدال بينهما من الأفواه إلى الأقدام !
كانت الكتلة المقتدائية تتصرف بحرج ظاهر , فهي مرتبطة مع قائمتي العراقية والتحالف الكردستاني بعد فشل مشروعهم بسحب الثقة عن رئيس الوزراء باتفاق يقضي بعرقلة عمل الحكومة ومشاكستها بحيث ينتهي الأمر بإسقاطها وتمهيد الطريق أمام الدكتور قصي السهيل لتشكيل حكومة بديلة , ولكن تعليمات طهران كانت واضحة بلا لبس إلى جميع مكونات التحالف الشيعي بأن الوضع الاقليمي لا يسمح باللعب مع حكومة السيد المالكي , وكذلك جرى قبل ثلاثة أيام تسيير مظاهرة خجولة للمقتدائيين أمام مجلس النواب تطالب بإقرار الميزانية باعتباره مطلباً لتيارهم , ثم وحفظاً لماء الوجه تم تخصيص مبلغ مالي في الموازنة قيل أنه سُيصرف نقداً للشعب العراقي نزولا عند رغبة النواب المقتدائيين !
كان الغياب الكردي عن جلسة إقرار الموازنة تاماً  , وكان ظن الأكراد أن حلفاءهم جميعاً سيلتزمون بالاتفاقات وبالتالي فإن النصاب القانوني لن يكتمل , وقد صدّقوا بأنهم بيضة القبان في السياسة العراقية وبأنهم إذا لم يملكوا فرض إرادتهم فإنهم قادرون على شلّ إرادة الآخرين , وأن لا شيء في العراق عقب 2003 يمكن أن يتم بلا رضاهم , وقد وضعوا منذ شهرين في اجتماع موسع جرى في أربيل تصوراً للمساومات التي سيجرونها مع المالكي مقابل مشاركتهم في إقرار الموازنة , وقد عزز إفشال النصاب في مجلس النواب لمرتين سابقتين ظنونهم هذه , ولكن الأكراد كانوا هذه المرة بعيدين عما يجري في بغداد من صفقات بين المالكي وبعض حلفائهم , ولم يقدّروا حجم التنافس والصراع الصامت بين السيدين أسامة النجيفي وإياد علاوي , وكذلك تحول ابتزازهم المسلّط على رقبة الحكومة إلى مقلب شربوه مشدوهين غاضبين !
من دروس تلك الجلسة – التي أظنها تاريخية – أن الرابط الطائفي في العراق الجديد يتقدم بحسم على التحالف السياسي , وأن الإسلام السياسي الشيعي منصاع تماماً لرغبات إيران حتى في مسائل شديدة الخصوصية مثل إقرار موازنة الدولة , و أن الروابط بين مكونات القائمة العراقية واهية ومؤقتة , وأن الوازع المصلحي والمالي لبعض أقطابها يعلو على أي شيء آخر , فهموم السيد صالح المطلك على سبيل المثال تتمحور حول كسب مزيد من المال من خلال السلطة  , و هوس السيد أسامة النجيفي بمنصب نائب رئيس الجمهورية على سبيل المثال أيضاً قاده إلى هجر صاحبه طارق الهاشمي في عالم النسيان , والسعي الصامت الحثيث لإزاحة السيد إياد علاوي عن زعامة القائمة العراقية باعتبارها قائمة سنية خالصة .
ومن تلك الدروس أيضاً أن الشروال الكردي منفوخ بهواء يوهم بحجم يفوق الواقع , لكن ثبت الآن أن أية حكومة عراقية عازمة تستطيع إلزامه حدوده , وأن الكيان الكردي لا يربطه بالعراق إلا الأتاوة التي فرضها الاحتلال الأميركي  والتي لا تتناسب وتعداد سكانه , وأنه يعمل وفق معادلة مؤداها إما نحن أو دولة عراقية موحدة وقوية .
بكل تأكيد لم يكن عراقي وطني واحد يتمنى أن يتم إقرار شأن داخلي خاص ببلده كالموازنة بضغط من دولة أجنبية , حتى وإن نتج عن هذا القرار لأول منذ احتلال العراق كسر للتسلط الكردي على مقدرات البلد , ولعلي واحد ممن يظنون أن السيد المالكي قد أقدم على هذه المغامرة المحسوبة بدقة لتعزيز رصيده الانتخابي وقد أفلح في ذلك , لكن مغامرته هذه للأسف ليست سوى بيضة الديك لأن المالكي لن يقوى على تحقيق أماني العراقيين بدفع قوات البيشمركة إلى ما وراء محافظات كركوك ونينوى وديالى , ولا على كبح جموح الأكراد في مسألتي النفط والتسلح الثقيل , ورفض تسنمهم مناصب حكومية رفيعة بأكثر من استحقاقهم , و منعهم من إقامة علاقات خارجية رسمية تتعارض ومصالح العراق , والوصول في خاتمة المطاف إلى منحهم طلاقاً بائناً يبعد شرّهم عن العراق حتى لو كانت قيمة المهر المتأخر دولة مستقلة لهم .