الجزء الثاني – لجنة المراجعة القضائية
قبل الدخول في تفاصيل الجزء الثاني اود ان اوكد ان ما أوردته وسأورده من معلومات في هذا الكشف انما هو ما عايشته شخصيا وشاهدته وعاينته. وقصدي ان أقدمه تجربه للمستقبل للاستفادة مما حصل سواء ما كان صوابا او ما يعتبر من أخطاء. ثانيا لاحظ بعض القراء اني ذكرت بعض الأشخاص بالاسم والبعض بالأحرف الأولى، فأما الفئة الأولى فهم من الأشخاص المعروفين حتى بدون ذكر أسماءهم كما ان الكشف لن يكون كاملا بدون ذكر أسماءهم ولايخشى على حياتهم لانهم يتمتعون بحمايات شخصية، اما الفئة الثانية فأما ان يكونوا من الأشخاص الذين لم يكن لهم دور حاسم او انهم مازالوا يعملون داخل العراق ولاحاجة لتعريضهم للخطر.
ننتقل الان الى موضوع هذا الجزء من كشف الحساب وهو الخاص ب (لجنة المراجعة القضائية) ، حيث واجهت جهود إعادة بناء النظام القضائي في العراق بعد عام 2003 أربعة مشاكل تتعلق بالقضاة انفسهم . المشكلة الأولى تتعلق بالعدد ففي ذلك الحين لم يكن في محكمة التمييز والتي هي اعلى هيئة قضائية في حينها والتي تنظر في الطعون من كافة انحاء العراق سوى 19 قاضيا وكذلك كان هناك نقص حاد في عدد القضاة، فحتى ذلك التاريخ كان في العراق (850) قاضي من مختلف الأصناف و (150) مدعي عام. بالإضافة الى العزوف عن العمل في الادعاء العام للفارق الكبير في الرواتب بين القضاة والمدعين العامين ورغم ان كلا من القاضي والمدعي العام يتخرجان من نفس المعهد (المعهد القضائي) وكلاهم يدرسان نفس المواد، الا ان كان هناك فرق كبير في الرواتب والمخصصات الى درجة كان يعتبر العمل في الادعاء العام نوع من العقوبة. المشكلة الثانية كانت تتعلق بموضوع (هيئة اجتثاث البعث) فمن المعروف ان الدخول الى المعهد القضائي قبل عام 2003 كان يتطلب التزكية من الفرقة الحزبية في المنطقة التي يسكن فيها الطالب مما اضطر الكثيرين الى الانضمام الى حزب البعث من اجل ضمان الدخول الى المعهد القضائي، وبوجود هيئة اجتثاث البعث كان لابد من منح القضاة نوع من الحماية للمحافظة على العدد القليل أصلا. المشكلة الثالثة كانت الاتهامات التي كانت توجه الى بعض القضاة في حينها سواء بالرشوة او بمحاباة اركان النظام السابق . المشكلة الرابعة والأكبر كانت ما كان يسمى ب (قضاة الامن) وهم القضاة الذين كان يتم تكليفهم من قبل وزارة العدل بالنظر في القضايا التي تحقق بها أجهزة الامن القمعية للنظام السابق، فهؤلاء وان كانوا قضاة عاديين من حيث المرجع الوظيفي الا انهم كانوا ينظرون في قضايا خاصة جعلتهم عرضة لاحتمال الانتقام من ضحايا النظام السابق.
للتعامل مع المشاكل الأربعة الموجودة ، تقرر بتاريخ 23 /6/2003 تشكيل لجنة باسم (لجنة المراجعة القضائية ) بموجب الامر رقم 15 لسنة 2003 الصادر عن سلطة الائتلاف المؤقتة . بموجب ذلك الامر تقرر ان تتشكل اللجنة من ثلاثة أعضاء عراقيين وثلاثة أعضاء دوليين يرشحهم كبير المستشارين ويعينهم المدير الإداري للسلطة الائتلافية المؤقتة ويعملون بموافقة المدير الإداري للسلطة الإدارية الائتلافية المؤقتة.
على إن يكون أعضاء اللجنة من الحقوقيين المؤهلين في إطار الولايات القضائية في بلدانهم. وتقوم اللجنة بالتحقيق من صلاحية القضاة والمدعيين العامين وجمع معلومات عنهم وللجنة سلطة فصل القضاة والمدعين العامين من عملهم والموافقة على استمرارهم في العمل وتعيين بدائل للقضاة والمدعين العامين الذين يجري فصلهم والبت في شكاوى القضاة والمدعي لعامين الذين من حقهم الطعن بقرار فصلهم. في هذه الاثناء، انتهى عمل القاضي (كامبل) كمستشار اقدم لوزارة العدل وحل محله القاضي (روبيني ) وهو قاضي من ولاية بنسلفانيا الامريكية ، وهو الذي منح حق النظر في الطعون المقدمة ضد قرارات اللجنة .
تشكلت اللجنة من كل من ( مايكل ديتو ) وهو مدعي عام من وزارة العدل الامريكية رئيسا للجنة و (رودي غلانديرز ) وهو مدعي عام بريطاني و ( المقدم بنلاند ) وهو مدعي عام من الجيش الأمريكي ومن الجانب العراقي ( القاضي دارا نور الدين ) و(القاضي راضي حمزة الراضي ) وهو مدعي عام عانى من اضطهاد النظام السابق نتيجة لرفضه الانصياع للأوامر المجحفة و(القاضي عبد الحسين مرزه الحسيني ) وهو قاضي متقاعد وكان يحظى باحترام كبير بين المحامين العراقيين . بداءت اللجنة اجتماعاتها في بناية وزارة العدل قبل ان تنتقل الى بناية فندق الرشيد. في ذلك الاثناء تم تعييني سكرتيرا للجنة لغرض تسهيل الاتصالات والمخاطبات والتواصل مع القضاة وأعضاء اللجنة وكنت حاضرا في جميع المقابلات التي حصلت مع القضاة سواء الذين تم عزلهم او الذين تم تعيينهم.
كان اول موضوع تناولته اللجنة بالدراسة هو موضوع (اجتثاث البعث) حيث تقرر ان لا يكون (لهيئة اجتثاث البعث) صلاحية النظر في موضوع تعيين او عزل القاضي مهما كانت درجته الحزبية وبذلك تم حماية السلطة القضائية من تدخل السلطة التنفيذية. الموضوع الثاني كان موضوع الاختلاف في الرواتب والامتيازات بين القضاة والمدعين العامين، وقد قررت اللجنة في حينها مساواة القضاة والمدعين العامين بالرواتب والامتيازات وأصبح يطلق على الجميع تسمية قاضي.
اما اول قضية نظرتها لجنة المراجعة القضائية فقد كانت تخص قضية ما يعرف في تاريخ محكمة التمييز العراقية باسم ( مجزرة القضاء العراقي) عندما اقدم النظام السابق عام 1993 على إحالة ثمان قضاة من محكمة التمييز لانهم رفضوا المصادقة على قرار اعدام قاتل المرافق الاقدم لقصي صدام حسين وبعد دراسة ملفات القضاة قررت اللجنة بالأجماع إلغاء القرار الصادر قي 10 /2/1993 وإعادة القضاة كل من (القاضي هاشم الحاج إبراهيم والقاضي مصطفى المدامغه والقاضي كريم شريف والقاضي احمد الجليلي والقاضي حامد جمعة والقاضي هشام احمد ضياء والقاضي فاروق السامي والقاضي محمد حسن كشكول مع تعويضهم عن فترة التقاعد الاجباري .
بعد ذلك بدات دراسة ملفات القضاة الموجودين في الخدمة فعليا ووضع المعايير التي يتم على أساسها استدعاء القضاة للمقابلة. كانت اول مجموعة تم تحديدها هي قضاة المحكمة الخاصة، وهي محكمة تم انشاءها في البداية باعتبارها محكمة خاصة بمنتسبي وزارة الداخلية ثم توسعت لتشمل المواطنين العاديين وكانت احكامها نهائية وغير قابلة للطعن، كما ان هناك اقاويل على ان احكامها كانت تصدر من مكتب وزير الداخلية قبل المحاكمة وكان دور القضاة يقتصر على النطق بالأحكام. كان القرار هو ان يتم الاستماع للقضاة الذين عملوا في تلك المحكمة لعل يكون لهم عذر. وقد تقرر بعد جلسات المقابلة عزل جميع القضاة الذين عملوا في المحكمة الخاصة ، بالإضافة الى ذلك تقرر عزل القضاة الذين عملوا في ما يعرف بالحاكمية التابعة لجهاز المخابرات العامة السابق . المجموعة الثانية التي تم دراستها هي ما يعرف باسم (قضاة الامن) وهم قضاة تابعين لوزارة العدل ولكن تم تخصيصهم للنظر في التحقيق في القضايا التي تاتي من مديرية الامن العامة سابقا لذلك كان يجب الاستماع والتحري عنهم لمعرفة من منهم كان يحابي الأجهزة الأمنية على حساب المواطن من خلال الاستماع الى مصادر معلومات موثوقة وقد تم عزل معظم أولئك القضاة .
الصنف الثالث كان القضاة الذين يتهمون بالرشوة والمحاباة، وهذه المجموعة كان التعامل معها أصعب حيث ان اللجنة لم تكن محكمة لمحاكمة جرائم الفساد المالي والإداري بل كان دورها يقتصر على مراجعة المعلومات المتوفرة وتحديد من يصلح ومن لا يصلح لتولي منصب القضاء. لذلك فقد تم الاعتماد على جمع المعلومات من سجلات الاشراف العدلي، المعلومات من المواطنين، المعلومات من المحامين والمعلومات من القضاة الذين عملوا عن قرب معهم.
كان أسلوب المقابلات يتم عن طريق تحديد القضاة الذين تحوم حولهم شبهات او معلومات سواء كانوا عملوا مع الأجهزة الأمنية او ان يكون هناك معلومات عن فساد مالي او اداري وبعد ذلك يتم ارسال رسالة استدعاء لكل منهم مع تحديد تاريخ ووقت المقابلة ومكانها . كان عدم حضور القاضي للمقابلة يعتبر دليل على الإدانة مالم يبين القاضي السبب خطيا برسالة الى مجلس القضاء . في اليوم المحدد يتم استدعاء القاضي امام اللجنة ويتم مواجهته بالمعلومات المتوفرة عنه للاستماع الى ردوده واجاباته وبعد ذلك تقرر اللجنة مدى الاقتناع او عدم الاقتناع وكان لابد ان يبين كل عضو وجهة نظره قبل اتخاذ القرار الذي يتم ارساله الى القاضي المعني عن طريق مجلس القضاء.
كانت قرارات اللجنة تتخذ بالاجماع وليس بالتصويت حتى في حالة عدم حضور عضو اللجنة للمقابلة كما حصل على سبيل المثال مع القاضي دارا نور الدين الذي اختير عضوا في مجلس الحكم وانقطع عن حضور المقابلات فقد كانت اللجنة تنتقل للاجتماع معه في مكتبه او في بيته لاطلاعه على مجريات المقابلة واخذ صوته بعزل او إبقاء او تعيين القاضي . بعد اخذ الأصوات يتم رفع النتائج الى المستشار الاقدم لوزارة العدل والذي كان في حينه القاضي (روبيني ) لاخذ موافقته على القرارات وهو بدوره كان يلتقي بصورة منفردة مع احد القضاة الكبار في العراق ومحامي عراقي بارز لايمكن الكشف عن اسميهما الان لانهما مازالا يعملان في العراق للتشاور معهما قبل ان يصادق على القرار الذي كان يصدر بتوقيع رئيس اللجنة (مايكل ديتو ) .
بالنسبة للمعلومات وطريقة جمعها فكانت تعتمد أولا على ملفات الاشراف العدلي وملفات المعهد القضائي بصورة أساسية بالإضافة الى لقاءات مباشرة مع قضاة ومحامين يعملون في الدائرة القريبة من القاضي موضوع المقابلة ولكن حرصت اللجنة على عدم الكشف عن أسماء أولئك القضاة والمحامين حفاظا على سرية المعلومات بل ان كل من أعضاء اللجنة كان له مصادر خاصة لم يكن ملزما بالكشف عنها لبقية أعضاء اللجنة .
وكانت اول مقابلة تقرر عقدها مع احد قضاة محكمة التمييز في حينها وعند مواجهته باعضاء اللجنة تم سؤاله ان كان لديه اعتراض على أي من الأعضاء فكانت اجابته صادمة لانه اعترض على وجود القاضي دارا نور الدين باعتبار وجود خلافات بينهما تعود الى عام 2001 عندما تم الحكم على الأستاذ دارا بالسجن ، والعجيب ان الأستاذ دارا نور الدين كان هو الوحيد الذي ابدى معارضة لاستدعاء ذلك القاضي باعتباره قاضي تمييز ويجب ان يكون له وضع خاص ولكن بعد ان انسحب القاضي دارا نور الدين من المقابلة وتم عدم احتساب صوته تحقق الاجماع على عزل ذلك القاضي .
كانت المقابلات بالفعل كاشفة عن قدرات القاضي فقد شهدت شخصيا بعض القضاة الذين اشتهروا بالصرامة والرغبة بإصدار احكام الإعدام وهم يتصببون عرقا امام اللجنة وكذلك شهدت كيف ان بعض القضاة تقودهم السنتهم للوقوع في الغلط فعلى سبيل المثال حضر امام اللجنة قاضي كان هناك معلومات تقول بانه مرتشي ولكن تلك المعلومات لم تكن موكدة ولكن عندما سأله رئيس اللجنة عن رأية بالقضاء العراقي أجاب نصا ( القضاء العراقي أصيب بنكسه منذ 1400 سنة منذ ان دخل الإسلام الى العراق ) فكان رد رئيس اللجنة الأمريكي كيف تكون قاضيا بقانون احد مصادره الدين الذي تعتبره نكسه وقررت اللجنة عزله رغم ان التوجه كان ابقائه في المنصب . اما الموقف الذي لايمكن ان انساه فهو موقف القاضي (صباح عبد الحسين عطيفه ) فهذا القاضي كان براي اشجع من واجه اللجنة من القضاة وخرج وهو يتمتع باحترام كافة أعضائها . حيث انه ما ان نطق رئيس اللجنة بالاتهامات الموجهه له حتى ضرب الكرسي الذي امامه وقال له اذا لم تحيل هذا الكلام الى محكمة الجنايات ساقوم بالشكوى ضدك بتهمة التشهير عندها قام كل من الأستاذ راضي الراضي والأستاذ عبد الحسين ميرزه بتقديم شاهدتهما بحقه وخرج مرفوع الراس .
كانت اللجنة بالإضافة الى اجراء التحريات عن القضاة تقوم كذلك بالتحري عن محامين يصلحون للتعيين بصفة قاضي لسد النقص في عدد القضاة لذلك عمدت الى الاستعانة بقضاة متقاعدين لاعادتهم الى الخدمة بعد اجراء الفحص الطبي عليهم وكان من ضمن الذين تمت اعادنهم القاضي عبود التميمي عضو المحكمة الاتحادية حاليا والقاضي حسين مرزه والقاضي نبيل ادهم بالإضافة الى عدد اخر من القضاة ولكن العدد المطلوب كان اكبر من ذلك لذلك تم الاستعانة بعدد من المحققين العدليين لتعيينهم بصفة قضاة وكذلك عدد من المحامين من مختلف الاعمار .
استمرت اللجنة في اعمالها لغاية الشهر الثالث من عام 2004 وبلغ عدد القضاة الذين تم عزلهم 200 قاضي ومدعي عام اما القضاة الذين تم تعيينهم فقد بلغ 350 قاضي . في الشهر الثالث كان المستشار الاقدم القاضي روبيني قد غادر وحل محلة القاضي (شتاينباخر ) وبدء بمراجعة الطعون المقدمة من قبل القضاة المعزولين حيث تم قبول طعن (20) قاضي تمت اعادتهم الى الخدمة .
استمرت قرارات لجنة المراجعة القضائية بالعزل نافذه لغاية الشهر الأول من عام 2005 حيث تقدم النائب بهاء الاعرجي بطلب الغاء قرارات العزل وإعادة القضاة المعزولين الى الخدمة وهو ماتم فعلا عام 2005 . ولكن تم الإبقاء على بقية قرارات اللجنة في التعيينات ومساواة الادعاء العام بالقضاة وحماية القضاة من الخضوع لولاية هيئة اجتثاث البعث .
بهذا اسدل الستار على لجنة المراجعة القضائية ولكن اعمالها ستبقى أساسية في جسد القضاء العراقي بعد 2003 . وفي الجزء القادم سوف نتحدث عن انشاء المحكمة الجنائية المركزية .