الجزء الأول – البداية
احد أسباب عدم اخذ الدروس والعبر من الماضي هو عدم الاطلاع بصورة كاملة عما كان يجري خلف الأبواب المغلقة ، وفي ظل ما يجري في العراق من احداث وتسابق وتنازع بين الفرقاء أرى ان الوقت قد حان للشعب العراقي ان يطلع على ما رافق إعادة بناء الدولة بعد عام 2003 من جهود وتحركات واتصالات، خصوصا وان الكثير من الوجوه التي كانت بارزه في حينها قد بدأت تختفي بفعل عوامل الزمن او لأسباب السياسة. من هذا المنطلق قررت البدء بتدوين الاحداث التي رافقت إعادة بناء وتشكيل السلطة القضائية في العراق بعد عام 2003 كما عشتها شخصيا محاميا وقاضيا. في البداية أحب ان انوه انني منذ ان بدأت الكتابة قد يكون هذا الموضوع أصعب ما كتبت وقد ترددت كثيرا في كتابته وكذلك ترددت أكثر في نشره، والسبب هو انه لأول مره اكتب عن موضوع انا عشته شخصيا وساهمت في بعض فصوله وانا مصدر توثيقه فلا احتاج للعودة الى مصادر او وثائق. في هذه السلسلة سأعمل على تسجيل ما حصل فعلا كما شهدته عيانا دون النظر في صحة ما جرى من الناحية القانونية او الشرعية لذلك فما سأدونه هو سرد لما حصل فعلا دون مناقشه او تحليل او ابداء راي.
بعد 9/4/2003 ودخول القوات الامريكية الى بغداد انطلقت الجماهير في هجمة متوقعة لإحراق ونهب المباني الحكومية وأصاب بنايات المحاكم وبناية وزارة العدل بحيث فقدت الكثير من السجلات والبيانات الخاصة بالمحاكم وبدوائر التنفيذ ودوائر الإصلاح ودوائر التسجيل العقاري . لم يعد هناك نظام القضائي او نظام إصلاحي لذلك كان هناك شعور بوجوب إعادة بناء النظام القضائي لتستقر الأوضاع .
البداية كانت في الشهر الخامس من عام 2003، دعت نقابة المحامين العراقيين لاجتماع عام للمحامين للقاء ممثلي سلطة الائتلاف المؤقتة التي تشكلت بموجب قرار مجلس الامن الدولي 1483 لسنة 2003 والتي باشرت عملها في العراق بتاريخ 16/5/2003. وقد تم ارسال فريق من السلطة للقاء المحامين وكان نقيب المحامين في حينها الأستاذ (نعمان شاكر). وبالفعل تم حضور جمع غفير من المحامين داخل أروقة النقابة، كان واضحا ان هناك اختلاف كبير في التوجهات بين المحامين حول كيفية التعامل مع الوفد القادم. قبل قدوم الوفد حصلت مماحكة مع مراسل قناة الجزيرة في حينه الأستاذ محمد كريشان الذي حضر بدعوه من السيد النقيب في حينه لتغطية الاجتماع حيث اتهم بعض المحامين قناة الجزيرة بانها تساند النظام السابق. لتجنب أي رد فعل غير مدروس دعا الأستاذ ت
بعد التجمع في القاعة حضر وفد السلطة وجلس على المنصة كل من الأستاذ نعمان شاكر بصفته نقيب المحامين والقاضي الأمريكي (دونالد كامبل) ومحامي عراقي شاب اسمه ( ع. ن) وكان يعمل مستشار لدى سلطة الائتلاف المؤقتة والمترجمة السيدة (فاطمة فليفل ) فيما توزع عدد من أعضاء الوفد بين المقاعد مصحوبين بعدد من المترجمين العراقيين . بعد كلمات الترحيب والتعارف حصل هرج في القاعة بسبب ان عدد من المحامين اعترضوا على وجود النقيب بين الجالسين على المنصة وطالبوا بنزوله واعتبار ان مجلس النقابة الموجود غير شرعي. مما اضطر الأستاذ نعمان للمغادرة وسط احتجاج البعض على الطريقة التي تم بها الموضوع، وكنت ضمن المعترضين لان هذه الطريقة غير قانونية وان عزل النقيب يجب ان يكون حسب القانون. بعد مغادرة الأستاذ نعمان شاكر حاولت الخروج محتجا على خرق القانون وكان صوتي عاليا لكني وجدت زميلي في أيام الدراسة في كلية القانون الدكتور سمير العزاوي جالسا في أحد المقاعد الخلفية مع شخص امريكي عرفني عليه باسم (القاضي جلبرت ميريت) قاضي المحكمة العليا في ولاية تنسي الامريكية وكان ضمن أعضاء الوفد الزائر. سألني القاضي مريت عن سبب احتجاجي فأجبته بان هذا خرق للقانون لا يجب ان يحصل في نقابة المحامين وبداءت بشرح قانون المحاماة له. في ذلك الاثناء كان القاضي (كاميل ) يسأل المحامين عن القاضي الذي من الممكن ان يجمع عليه المحامين فكان الجميع يردد اسم القاضي (دارا نور الدين ) وعندما سال القاضي مريت عن الأستاذ دارا اجبته وحكيت له عن الظلم الذي تعرض له في ظل النظام السابق . بالنسبة للاجتماع فقد انتهى بانتخاب لجنة مؤقته من خمسة اشخاص برئاسة المحامي في حينها والقاضي لاحقا الأستاذ (حسين الموسوي) وكان من ضمن أعضاء اللجنة المحامي في حينها والقاضي لاحقا الأستاذ ( حسين ميرزه ) والمحامي سعد يحيى والمحامي هشام مهدي صالح والمحامي برويز.
قبل مغادرة الوفد الأمريكي سال القاضي مريت ان كان بالإمكان لقاء الأستاذ (دارا نور الدين) فتطوعت لترتيب اللقاء كوني اعرف محل سكنه وبالفعل تم الاتفاق على اللقاء في فندق سكمن في ساحة الواثق في بغداد. تم ترتيب اللقاء بين الأستاذ دارا نور الدين الذي حضر مصحوبا بالأستاذ علاء اليعقوبي القاضي السابق وبين القاضي مريت الذي أعجب بالثقافة العالية للأستاذ دارا وبعد نهاية الاجتماع طلب مني القاضي مريت مرافقته الى مقر سلطة الائتلاف في القصر الجمهوري لتقديم تقرير عن الاجتماع للقاضي كامبل.
في اليوم التالي اصطحبني القاضي مريت والدكتور سمير الى مكتب القاضي كامبل وكانت هذه المرة الاولي في حياتي التي ادخل فيها الى بناية القصر الجمهوري داخل المنطقة التي أصبحت تعرف فيما بعد باسم (المنطقة الخضراء).
داخل القصر الجمهوري وجدت اعداد كبيرة من المدنيين والعسكريين الامريكان وعدد كبير من الموظفين العراقيين موزعين حسب الوزارات فكان هناك غرف لوزارة العدل وبجانبها وزارة الخارجية والاتصالات والزراعة …. الخ وكان هذا الجزء من القصر مفصول عن الجزء الاخر الذي كان الامريكان يسمونه (القبة) بسبب وجود قبة القصر الجمهوري الشهيرة فيه وكان ذلك القسم خاص بالسفير الأمريكي (بول بريمر) ومستشاريه.
داخل القسم الخاص بوزارة العدل كان هناك عدد من العراقيين الذين جاؤوا من الخارج اذكر منهم الدكتور (منذر الفضل ) والقاضية السابقة (زكية إسماعيل حقي ) اللذان كانا يعملان ضمن فريق إعادة اعمار العراق برئاسة عماد الخرسان ، بالإضافة الى ذلك كان هناك عدد من المترجمين العراقيين يعملون تحت إدارة محامي امريكي من اصل لبناني يدعى (ارا اوهانيس ) ويساعده المرحوم الدكتور رياض وهو أستاذ جامعي ومترجم لامع اغتيل لاحقا على يد الإرهابيين ، بالإضافة الى عدد من المحامين العراقيين وكانوا تحت إدارة المحامي العراقي (ع. ن) .
طلب مني القاضي كامبل ان اعمل مع فريقه من اجل إعادة بناء السلطة القضائية في العراق ، وكان اول عمل تم تكليفي به هو تنظيم لقاءات مع قضاة محكمة التمييز . عملت على الاتصال بقضاة محكمة التمييز ودعوتهم للحضور الى القصر الجمهوري من اجل عقد لقاءات منفردة وكنت احضرها بصفتي مستشارا لوزارة العدل. حضر جميع قضاة المحكمة للاجتماعات التي كانت تتم بصورة منفردة مع كل قاضي وكان واضحا ان رئيس محكمة التمييز وكالة في حينها لم يكن راغبا سوى بان يتقاعد بصفته رئيسا للمحكمة لذلك كان يجب ان يتم اختيار بديلا عنه بأسرع وقت ممكن.
بعد انتهاء الاجتماعات اتفقت الآراء على ضرورة إحالة الرئيس الحالي على التقاعد، ولكن اختلفت الآراء على اختيار أحد الرجلين (القاضي نعمان الحديثي) الذي كان أقدم النواب بعد الرئيس و(القاضي مدحت المحمود). بعد مناقشات مطولة تم الاتفاق على ترك الموضوع للانتخاب من قبل أعضاء المحكمة ليختاروا بين الرجلين. ولكن المشكلة ان الأستاذ (مدحت المحمود) لم يكن نائبا للرئيس والقانون ينص على ان الرئيس يتم اختياره بالانتخاب من بين نواب الرئيس. للتغلب على هذه المعضلة تم اصدار قرار بإحالة رئيس المحكمة وكالة على التقاعد، وقرار اخر بتعيين الأستاذ (مدحت المحمود) نائبا للرئيس. بالفعل تم اجراء الانتخابات في نفس اليوم وتم اختيار الأستاذ (مدحت المحمود) رئيسا لمحكمة التمييز، كما تم تعيينه مشرفا على وزارة العدل.
في هذه المرحلة المبكرة واجه القضاء العراقي تحدي خطير وهو التحقيق في جريمة قتل السيد عبد المجيد الخوئي الذي قتل في مدينة النجف بتاريخ 10/ 4/2003، أي بغد يوم واحد فقط من دخول القوات الامريكية الى بغداد في 9/4/2003 . بداء التحقيق فيها في الشهر الخامس من العام نفسه من قبل قاضي التحقيق في مدينة النجف القاضي الأستاذ رائد جوحي والذي اصدر قرارات خطيرة في حينها ساقوم بتناول تفاصيلها لاحقا في الجزء الخاص بتشكيل المحكمة الجنائية المركزية.
بالنسبة لنقابة المحامين فقد تم تكليف المحامي (ع . ن ) لاستمرار التنسيق مع اللجنة الخماسية لحين اجراء انتخابات عامة للنقابة ولكنه ترك العمل بعد فترة قصيرة لأسباب خاصة به . كان اول مشروع لذلك التنسيق تكليف المحامين بأعداد ملفات لقضايا الاسر التي عانت من اضطهاد النظام السابق مقابل اتعاب تتحملها سلطة الائتلاف الموقتة الا ان ذلك المشروع لم يستمر بسبب خلافات تقنيه بين المجلس الموقت والسلطة. بتاريخ 14/8/2003 جرت الانتخابات العامة للنقابة وفاز بها المحامي الدكتور مالك دوهان الحسن وبعد ان تم تعيينه وزيرا للعدل في الحكومة العراقية الانتقالية برئاسة الدكتوراياد علاوي عام 2004 حل محله المحامي كمال حمدون ملا علو وكيل النقابة لإكمال المدة المتبقية من الدورة – مقام النقيب .
كانت هذه مقدمات لما حصل بعد ذلك، وان مكنني الله فسوف أقوم بتسجيل ما شهدته شخصيا في المواضيع التالية:
لجنة المراجعة القضائية
انشاء المحكمة الجنائية المركزية
انشاء مجلس القضاء الأعلى
انشاء المحكمة الجنائية العليا
انشاء المحكمة الاتحادية العليا
لاتركها شهادة للمستقبل لنتعلم اين اخطئنا وأين اصبنا.