حدثني شيخي حسن بن حمدية دشداشة، عن شيخه طارق ترچّية، عن الكذاب بن الكذاب سعيد خبالو، أنه ..
لمّا وقّع أبو إسراء، مرسوم إعدام الطاغية الجبار، ونفذوا الحكم به فجر ذلك النهار، وأتوا برأسه له، أخذه ودخل حجرته، وأمر الحاجب أن لا يدخل عليه أحد. وضع الرأس أمامه وظلّ يتفكّر به، وهو يقول : ذهبَ المُلك منكم، وقد منّ الله علينا وأرثناه بعدكم، وتلك الأيام نداولها بين الناس ..
واستمر في حديثه حتى اهتزّ الرأس وتمتم بكلام غريب لم يفهمه الخليفة، فصاح بالحاجب ودعاه للدخول، ليحمل الرأس بعيداً عنه ويجلب له شيفاً من الهندباء وقليلاً من البقول، وأن يطفأ السراج خلفه أسوةً بالفقراء والكهول
مع الصباح، أرسل أبو إسراء في طلب أهل بيته والوزراء من أعوانه وحاشيته، وحكّام الولايات والأمصار، من نينوى إلى سرّ من رأى، فاجتمعوا واجتمع الناس في باحة قصره بعد ثلاث ليالٍ بقين من رجب، فصلّى بهم الظهر والعصر جمعاً تماماً ولم يكن على سفر أو مطر، ثم اعتلى المنبر، بعدما عدّل طربوشه، وتفل على نظارته المباركة ثم مسحها بطرف جلبابه. حمد الله وأثنى عليه، ومدّ إصبعه المبارك ليُخرج من فتحة منخاره شيئاً يضايقه وقال لهم
: يا بني عمومتي ويا أخوتي وربعي، هذه الدنيا قد طابت لنا، وفتح الله أبوابها بنا، ونجونا من حكم الجبّارين، بعدما أزيحوا إلى جهنم وبئس المصير، وها هي الأمصار قد سكنت فوراتها، وانتهت ثوراتها، وطابت أيامها، وبارك الله لنا ولكم في خراجها، فاعملوا آل الخلّفوني شُكراً ، وقليل من أرض السواد الشكور
أيها الناس، إنّما جمعتكم اليوم لأدعوكم وأهل بيتي والصحابة الذين قاتلوا معي في معارك قرة تپـّة وحضروا وثبتوا كالأبطال في واقعة ذات القناني، وولاة الأمصار من حلاوة خوز إلى چايخانة خوداداي، أدعوكم جميعاً على بركة الله إلى تجديد بيعتي كخليفة عليكم
فلما سمع الناس هذا القول منه، هاجوا وماجوا، وتهامسوا بينهم، حتى علت أصواتهم، فأومأ إليهم بكفّه الشريف، أن اسكتوا فسكتوا، ثم قال لهم، أكتبوا فكتبوا ، ارسموا فرسموا، وسطّح عليهم ماكنوا يبغون أول الأمر
لكن كبير الخورنق طلب الإذن بالكلام، بعدما حيّاه بالتحية والسلام، وقال له فيما قال : أصلح الله الأمير ومتّعه بحكم العراق. لكنها بلّية وقعت، وعذاب نزل. وإني رأيتك زهوت وطغوت ولبستك الفتنة وركبك الشيطان ونفث في صدرك ونطق على لسانك.
فهّم أصحاب أبي إسراء وأهل بيته إلى سيوفهم وجرّدوها، وإلى تواثيهم فدهنوها. وكادت الفتنة أن تقع بين آل أبي إسراء وآل أبي علاء ولولا تدخل بعض الوجهاء لكادت تتكرر داحس والغبراء . فما كان من شيخ التمسلت إبراهيم بن الأشيقر إلّا أن يقوم من مقامه، ويطلب الإذن من الأمير، كيما يخطب بالناس ويعالج هذا الخطب الخطير. فقال أبو إسراء للناس، قد قلتُ قولي صادقاً فكنتم معرضين. فليستلمنّكم شيخ التمسلت ولسوف تكفرون. وليجعلنّكم تعلسون جواريبكم وتنتفون من الغيظ حواجبكم
نزل الأمير وطلب من حارسه أن يجلب له أسياخ الحياكة وكوكلة الصوف، فقد كان يقضي جُلّ وقته في حياكة الكلاوات. ولما رأى كبير الخورنق مابيد الخليفة، سأله عنه، فأجاب الخليفة بهدوء الحكماء، هذا الكلاو لك، ستلبسه لتخفي صلعتك البهيّة. وعندي منها الكثير الكثير فقد عملت لكل فرد من الرعية والبعران الحرامية كلاواً على مقاسه
صعد الشيخ الأشيقر المنبر، وسرح قليلاً، ثم أنّ أنّةً طويلة، ثم تثآب، واستعاذ بالله من الشيطان الرجيم وعاد وأنّ أنّةً أخرى وشرع بالخطاب
: أمّا قبل، فيا أيها الناس، حين خلق الله الزرافة، وأعطاها حق الخلافة، كانت الدنيا كعنق الزجاجة. والخبز يُصنع من الشعير، فكان حقاً على الأمم التي من قبلكم أن تكون كما البعير. ومن نافلة القول ذكر بني تطوان، الذين طبخوا لضيفهم البيتنجان، فضرّگت عليهم الطيور ومعمعت الخرفان. والشروع بالهزيمة أقسى من الشروع بالشروع نفسه، لأن بواطن المرء على شفا حفرة من نار. أيها الناس إن دائرة الشكّ أوسع لكم من المربع الأول ولعمري إن تربيع الدائرة خير من تدوير المربع ..
وظل الشيخ في خطابه ساعة من النهار، والناس أصابهم الدوار، وكلٌ يقول لصاحبه : أصاب الرجل مسٌّ من الشيطان، حتى سمعوا من آخر الفسطاط رجلٌ وهو يعلس خشبة اقتلعها من عمود الخيمة يُردد : بوية سعد يابوية .. الگعدة طالت ياسعد يابوية
قَبلَ الناس بيعة الخليفة، لينجوا من هول الخطبة المريعة، وتقدموا بين يدي أبا إسراء، ليعلنوا البيعة والولاء ويلبسه الخليفة الكلاو كأول عطاء. فكانت كل قبيلة تتقدم وتقسم عليه : بشرفك ابو اسراء لا تچـّلب بيها
حتى جاء بنو علاوي وأمامهم كبيرهم، فطلب منه الأمير أن يجلس في حضرته، فجلس. ألبسه كلاو الصوف الذي انتهى منه للتو، وقال له : بشرفي لا يگلك هذا الكلاو أياد، ونقل بن علي شيش في كتابه المناقل والفحم في الفصل الخاص بالمبعورين، أنّ العلاوي أياد ظل لابساً ذلك الكلاو سنين طوال بعد أن زينه بعبارة عفلق الله يرحمو، وكلما يسأله أحد عنه يقول : والله ما أدري، بس هذا الكلاو لبّسنيّاه أبو أسراء
ثم تفرق الناس وفي رقبتهم بيعة للخليفة، وبقى قادة الجُند والشَرَطة وزعماء القبائل وشيوخ الصحراء، فقال لهم جميل الوجه والملامح، المعروف بدهاءه ومكره، الشيخ حليم الزهيري: ما تريدون من الرجل وقد بايعه الناس وأقسموا له بالولاء ؟ فقالوا نريد حصتنا من حكم العراق، وأن يعدل صاحبكم ولا يكون كما كان الرفاق، فدعاهم الخليفة إلى ديوانه المبارك، وأشعل لهم ناراً وشوى جدياً !
جلسوا في حضرة الخليفة بعد الغداء، بعدها شربوا عصير الليمون بالنعناع، وكلهم ترقبٌ ورجاء، بما سيتكرم به عليهم الخليفة أبا إسراء
قال الخليفة بعدما طابت الأجواء .. لي الخلافة على كل الأمصار، ولي رئاسة الجُند لدرء الأخطار، والشَرَطة لي أديرها كما أختار، وديوان المتربصين بالناس لي، أحكمه بالحديد والنار، وجنود الخفاء والسوات وقوات دجلة والفرات، ووزارة الزيت أوكلها لحفيد رسول الله، وديوان المال لنا وخراج الولايات
فقال له أسامة وبصوت حزين : صفيحة جيّدة ! فلم يفهمها الخليفة، وقال لأبن عبد صخيل وكان واقفاً على يمينه وبيده ريش النعام: ما قَصَدَ الرجل ؟ فقال له ابن عبد صخيل وكان ضليعاً باللغة وأسرارها : إنه يقول ( خوش تَنَكة ! )
فرد الخليفة عليه بكلامٍ أثلج صدره، إذ نصبّه لإمامة الجمعة والجماعة، وتولّي شؤون العامة. وزع بعدها الخليفة الدواوين والمناصب، وأقنع الحضور بالقبول لما شرع، حينها أدمعت عين صهره الميمون، وتعالت تنهداته بالشجون، وقال لعمه الحنون : لم يبق لي شيء يا عمّاه، فابتسم الخليفة ودعاه للجلوس على فخذه، وهزّ به وهو يربّت على ظهره، وقال له : والله كبرتْ ياحسين وصرتْ زلمة، وخنينتكْ چانت تشبه النسمة، تميل ويه الهوى لو مال، إنما تركتك لنفسي لتكون حاجبي وحامل أختامي، وتحرسني في يقظتي ومنامي. فبكى ابن عبد صخيل حين سمع وعد عمه لعديله، فالتفت اليه الخليفة، وهزّ له رأسه المبارك، وقال له ..
: صبراً آل عبد صخيل .. فإنّ موعدكم البرلمان
يتبع ..
[email protected]
خاص بـ كتابات