في أبجديات العمل السياسي، أن القيادة تأتي من أختيار القاعدة، إذا كانت العملية ديمقراطية مبنية على أختيار جمهور الناخبين، وليس بالوراثة كما في النظم الدكتاتورية أو الملكية، وهي غالبا ما تعيش في بروج عاجية خلف أبواب مقفلة، وفي أحسن الأحوال فإنها تشكل مؤسسات شكلية للتواصل مع الجمهور.
غالبا ما تعاني مجتمعاتنا العربية من الهوة الواسعة بين رأس الهرم والقاعدة، فترى التشريعات والقوانين والممارسات السياسية والاقتصادية والأجتماعية للقيادة، تختلف عن طموحات ورغبات وإحتياجات الجماهير، فترى غالبية الشعوب العربية معزولة عن أصحاب القرار وغير مؤثرة فيه وناقمة عليهم، وغير مدركة لما يجري حولها من أحداث في دهاليز الغرف السياسية، بينما أصحاب القرار عزلوا أنفسهم خلف مكاتبهم الفخمة، ويتصرفون كانهم ملكوا البلاد والعباد دون العودة الى قواعدهم، الا حين الحاجة لهم عند وضع ورقة في صندوق الانتخابات.. هذا إن حصلت.
كسر الأسوار بين الجمهور والطبقة السياسية خلال الفترة الماضية أصبح معدوما، خصوصا بعد خيبة الأمل الكبيرة التي تعرضت لها شرائح كثيرة من الشعب العراقي، بعد الأداء الهزيل للطبقة السياسية على الصعيدين الخدمي والإقتصادي، وتعرض العملية السياسية الى هزات كبيرة خلال الفترات الماضية، مرورا بالحرب الكبيرة على الأرهاب وإنتهاء بمظاهرات تشرين، التي أجبرت الطبقة السياسية المتصدية للجلوس خلف الأبواب المغلقة، بعد رفض الشارع لكثير من الوجوه ولإدائها السياسي بالمطلق، وإنتهاء الدعاية الإنتخابية للأحزاب السياسية، فإنقطعت العلاقة بين رأس الهرم والقاعدة.
لكن الجمود يجب أن لا يستمر وأن لا توصد الأبواب، فالعملية السياسية في العراق مبنية على التواصل بين الطبقة السياسية وقواعدهم الشعبية، وأي جفاء بينهم سوف يؤدي الى منزلقات كبيرة شهدنا بعض تداعياتها في الفترة الماضية، ويجب أن يستشعر صاحب القرار هموم ومعاناة الناس ويتعرف على احتياجاتهم ورغباتهم، ويبني قراره وخططه المستقبلية إستنادا الى متطلبات الواقع والحقائق على الأرض، كما أن الطبقة الشعبية يجب أن تبقى قريبة من القرار السياسي وتعطي رأيها وتشارك فيه، كي تكون واعية للتحديات ومدركة لما يجري في الغرف السياسية.
على هذا المفهوم إستند السيد عمار الحكيم، إضافة الى إرثه العائلي المبني على العلاقة الترابية بين أسرة ال الحكيم ومختلف شرائح المجتمع، دون تمييز لطائفة معينة أو فئة دون أخرى، وبعيدا عن الحسابات السياسية أو الحزبية، وبعد أن إنتهى الصراع الإنتخابي، ودخلت المكونات السياسية في صراع تشكيل الحكومة والفوز بمغانمها، فإنطلق في زياراته الى المحافظات العراقية لردم تلك الهوة بين القائد والقاعدة الشعبية، ليعطي رسالة واضحة أن المغنم الأكبر هو مدى العلاقة بين الجمهور والقيادة، وأن القيادة الناجحة تكون بحجم علاقتها مع الجمهور، وليس بحجم مقاعدها وتمثيلها الحكومة، فالاولى ثابتة والثانية تتغير في كل مرحلة إنتخابية.
كانت البصرة أولى المحطات، وأعطت صورة بهية عن حاجة الناس الى التواصل مع القيادة، ورغبتها أن تكون حاضرة معها، تسمع منها وتستمع إليها، وأن الفجوة الموجودة هي بسبب المناكفات السياسية التي أثرت سلبا على الجميع ولا بد من ردمها، وأعطت هذه الزيارة درسا لكل الساسة يجب أن يسارعوا الى تطبيقه، وأن يفتحوا الابواب مع جمهورهم، يجلسون في مضايفهم، ويأخذون من أيديهم القهوة، يلبون إحتياجاتهم، ويعيدون لهم الثقة في مسار الوضع السياسي الذي تعرض الى هزات كبيرة.
في المحطة الثانية كانت زيارة السيد الحكيم الى الديوانية، ومنها أطلق مشروعا مهما يتناسب مع متطلبات المرحلة القادمة، التي تعاني وضعا مرتبكا على المستوى الدولي، وهو مشروع ” الديوانية عاصمة العراق الزراعية” ، وذلك لخصوصية المحافظة في زراعة المحاصيل المهمة من القمح والرز والتي يمكن أن يحقق العراق منها الإكتفاء الذاتي، دون الحاجة الى الاستيراد بعد ارتفاع الاسعار عالمية، وصعوبة توريده بسبب الحرب الروسية – الاوكرانية.
دروس مهمة ورسالة واضحة بعثها الحكيم الى الساسة وأصحاب القرار، المنشغلون منذ فترة في عقد جلسة إنتخاب الرئيس، لا تبقون حبيس كراسيكم ولا تغلقون أبوابكم، وكونوا على قدر المسؤولية التي وضعتها قواعدكم فيكم، وإطرقوا أبوابهم فقلوبهم مفتوحة لكم قبل بيوتهم.