حتى وقت قريب، كان الجميع على دراية واقتناع تام أن الأموال يمكن جنيها بسهولة وبطريقة شرعية من خلال مسارين لا ثالث لهما؛ إما عن طريق التعليم الرفيع لامتهان الطب مثلًا، أو أي مهنة أخرى تتطلب شهادة عليا وتعليم رفيع المستوى وتدر دخل وفير، كالمحامي أو المهندس في بعض الأحيان. أو على النقيض، نبذ مسار التعليم والتعلُّم برمته؛ للعمل بمجال التجارة. وبعد الألفية الثالثة، بدأ نصاب تلك المعادلة يتغيير شيئًا فشيئًا؛ حيث بدأ العلم يفقد عرشه المهيب، ومعه فقدت الوظائف القيادية التي تتطلب تعليم رفيع المستوى ريادتها كوظائف تدر دخلًا وفيرًا؛ حيث تم استبدالها بوظيفة مهندس البرمجيات. أما بالنسبة للتجارة، فمع تقلبات السوق صارت دورات الأرباح غير مضمونة. ومن ثم، نافسها على عرش التربع على الريادة التجارية مهنة بائع الكلام، أي مهنة المذيع الذي يعمل في برامج الإعلام. وكلما استطاع المذيع أن يسوِّق لنفسه من خلال المادة التي يقدمها، تنهال عليه عروض بعقود مالية ضخمة قد تصل للملاين من شتى المحطات التليفزيونية، لطالما يستطيع المذيع إثارة الجدل بموضوعاته وطريقة تقديمه كلما ظهر على شاشة التليفزيون.
ومع العقد الثاني من الألفية الثالثة، علم المواطن البسيط أن دراسة البرمجيات ليست يسيرة ولا يستطيع أن يعمل بها إلا من لدية قدر رفيع المستوى من الذكاء. أما مهنة رجل الإعلام فهي مسألة حظ بحت؛ فهناك الكثيرون يحاولون بإصرار ومثابرة لبلوغ منصب المذيع، أو حتى الظهور لمرة واحدة على شاشة التليفزيون، لكن لا يواتيهم الحظ أبدًا. فالنجومية في مجال الإعلام تعتمد قبل أي شئ على الحظ وتكوين شبكة متينة من العلاقات العامة، وخاصة مع كبار الشخصيات وأصحاب المحطات التليفزيونية، أو حتى الإذاعية التي لا تدر على أصاحبها دخلًا وفيرًا، عند المقارنة بمحطات التليفزيون.
وعلى هذا، لم يهدأ بال الإنسان العادي إلا بعد أن استحدث وسيلة يدمج فيها بين الرغبة العارمة للدخول في عالم البرمجيات والرقمنة الذي بات يدر أموال طائلة، وبين عشقه للشهرة والنجومية وقبل أي شئ الأموال التي يدرها العمل في مجال الإعلام، وتلك المهنة الهجين المستحدثة هي: “صانع محتوى على تطبيق اليوتيوب” Youtuber.
استقطب اليوتيوب تقريبًا جميع الفئات العمرية في جميع المجتمعات بجميع دول العالم المختلفة، والسبب أن صانع المحتوى على اليوتيوب يصير نجمًا بأبسط التكاليف وأسهل الطرق، ألا وهي: فتح الكاميرا الأمامية للموبايل لتسجيل فيديو قصير محتواه جذاب. وبالرغم من أن هناك فئة لا بأس بها تقدم محتوى جدير بالمشاهدة؛ لما يحتويه على معلومات قيِّمة ومفيدة، تضع الإنسان العادي على الطريق السريع للثقافة، لكن أغلب الفئات تقدم محتوى فارغ مُسف، قد يكون وصمة عار لأحدهم ما إذا سجله لآخر على نحو مفاجئ على حين غرة في الواقع. المشكلة هنا أن كل من يعمل حاليًا على تسجيل تلك المقاطع يتباهى بغرابة ما يقدمونه من محتوى، وفي بعض الأحيان سخونة مشاهده أو احتواءه على ألفاظ خارجة أو مشاهد مقززة. ومع انتشار تطبيق التيك توك Tik Tok صار تسجيل مقاطع الفيديو أسهل، لدرجة أنه قد تشترك عائلة بأكملها في تقديم مقاطع شديدة الجرأة أو الإسفاف، ناهيك عن استخدام الأطفال في بعض الأحيان كعنصر جاذب للمشاهدة، بحيث يظهرون في المقطع يتحدثون بطريقة سيئة أو سوقية من أجل حصد أكبر كم من المشاهدات والليكات والتعليقات. ومن أسوأ ما رأيت من تلك المقاطع هو استغلال أبوين لطفلهما حديث الولادة في تسجيلاتهم، ومعاملته بطريقة متوحشة، ولو كان ما تم تسجيله من مقاطع يحدث على أرض الواقع، لتم الإبلاغ عنهما والزج بهما في السجن للإساءة إلى رضيع. لكن العالم الافتراضي لم تُخَطط له بعد منظومة القوانين التي تنظم الحياة على أرض الواقع، ولذلك ينجو من هم على شاكلة المسيئي إلى الأطفال، ومقدمي المقاطع الساخنة، وكذلك مقاطع المشاهد المقززة من المساءلة القانونية.
وبالتساؤل عن السبب الحقيقي الذي يجعل هؤلاء وغيرهم قد يقدمون محتوى مثير وجدلي وغريب قد يدمر سمعة أي شخص عادي، نجد أنه ليس فقط الشهرة التي ينالها هؤلاء من خلال عدد الليكات والتعليقات والمشاهدات وإعادة المشاركة، بل هو بالأساس المال الذي تدفعه إدارة اليوتيوب بسخاء لمقدمي المحتوى. ذاك المال الطائل السهل الذي جعل أشخاص قد يكونوا غير موهوبين، أولا يتمتعون بآية كاريزما. بيد أن موهبتهم الوحيدة هي جعل من أنفسهم أضحوكة رخيصة؛ من أجل حصاد عائد سنوي وصل في كثير من الأحيان إلى 10 مليون دولار أمريكي من جراء تقديم محتوى في أغلب الأحيان عديم القيمة ومسيئ ليس فقط لمقدمه، بل لمتابعيه الذين ينتقلوا من مرحلة السخرية من المضمون والمقدِّم، إلى مرحلة التلهف على مشاهدة المزيد من مقاطع هذا الشخص، يليها مرحلة انتظار المقطع القادم الذي ينشره. وخلال ذلك، تصير حتى أكبر الشخصيات والأكثرها ثقافة آلة لترويج المحتوى المُسِف من خلال الحديث عنها لآخرين بطريقة تجعل الآخر مهتمًا بمشاهدتها؛ أو إعادة مشاركتها مع آخرين بغرض الضحك والتسلية. وبسبب المال الذي صار عماد الحياة الحديثة، نبذ النشء حلم اعتلاء المناصب القيادية والحصول على تعليم رفيع المستوى. بل، وصار حلمهم المأمول هو أن يصيروا نجم يوتيوب ذو تأثير على الجماهير.
بيد أنه يجب الأخذ في الاعتبار أن إدارة اليوتيوب قد حددت ضوابط لتقديم الأموال لصنّاع المحتوى. ومن أهم هذه الضوابط أن يكون لدي صانع المحتوى أكثر من 1000 مشترك لقناته على اليوتيوب، وأن يبلغ إجمالي عدد ساعات مشاهدة محتواه 4000 ساعة على مدار العام السابق. وبرنامج المشاركة مع إدارة اليوتيوب يجعل صانع المحتوى يعرض إعلانات جوجل المدفوعة أثناء إذاعة محتواه، بالكيفية التي تراها إدارة اليوتيوب مناسبة، وفي المقابل يكون يتلقى صانع المحتوى 55% من قيمة النقود المدفوعة للإعلان، في حين يكون نصيب إدارة اليوتيوب 45%، مع اعتبار عدد اللايكات والتعليقات.
وأما الدخل الوفير، فيتم حصاده عند الإعلان عن سلع عينها، أو تخصيص مقاطع لتسويق منتج ما. وهذه المنتجات لا تقتصر على السلع المنزلية، أو الملابس أو حتى مستحضرات التجميل، بل تخطت ذلك إلى المنتجات الدوائية والأجهزة الطبية، بل وأيضًا الأسلحة.
ومع تزايد كم ساعات المشاهدة وأعداد المشتركين، يجد صنَّاع المحتوى على اليوتيوب رعاة لمقاطعهم، والذين يسبغون الأموال على مقدم المحتوى. ومن الوسائل الأخرى التي يستطيع بها صانع المحتوى حصد الأموال من خلال تمويل مشاهدي البرنامج له، أوكذلك منحه هبات مالية، وقد يكون ذلك في مقابل إرسال بادج القناة لهم، أو عمل محادثة معهم على الهواء، أو تقديم حلقات خاصة معهم، أو حلقات حسب اختيارهم للموضوع.
مع ملاحظة أن إدارة اليوتيوب قد تمنع الأرباح عن صنّاع المحتوى إذا احتوت مقاطعهم على ألفاظ نابية أو محتوى جنسي أو استغلال الأطفال – في حين الإيحاء بها ليس مجرَّم، وكذلك استخدامها لمرة أو عدة مرات كوسيلة لاستقطاب المشاهدين وتحفيز المشاركات. وكذلك ينطبق الحال عند تناول المقطع أخبار جارية حساسة، وعندها يستثنى صاحب المحتوى فورًا من الأرباح.
العالم الافتراضي صار أكثر جاذبية وجذبًا عن الواقع؛ فهو العالم الذي يستطيع فيه الجميع الخروج عن المألوف، وتحطيم جميع الأخلاقيات والعادات التي تعوَّد عليها المجتمع دون وجود ضوابط، بل ومَيْزَتُه الإضافية أنه نبع فيَّاض من الأموال التي لم تُكتشَف بعد.
كسب مال لا يعد دون جهد
كسب مال لا يعد دون جهد
نعيمة عبد الجواد
د. نعيمة عبد الجواد: أكاديمية مصرية، وأستاذ أدب وترجمة، لها عدة أبحاث علمية منشورة دولياً، وكذلك لها العديد من المؤلفات الأدبية والصحفية، بالإضافة لأنشطتها الثقافية. وعلاوة على ذلك، فهي كاتبة دائمة في عدة صحف ومواقع عربية.
مقالات الكاتب