عند قرائتي لكتاب الشاعرة رسمية محيبس (كزار حنتوش – الشعر مقابل الحب!)* حاولت ان اوجد مقاربة بين رأيين او رؤيتين تناولتا اسلوبية كتابة السيرة، أول تلك الاراء كان لـ(أندريه موروا) الذي يقول (إن كل كاتب مذكرات هو مؤلف شاء ام أبى، والأنا التي يضعها في ورقة الكتابة تصبح كياناً منفصلاً يتأمله عن بعد، برعب احياناً، وبأعجاب أحياناً، ولكن في كلتا الحالتين بتجرد جمالي يضفي على الكثير من المذكرات اليومية قيمة أدبية عليا)، وبهذا الرأي يضعنا موروا في زاوية معاكسة للنظرة التقليدية لكتابة السيرة، والتي تتعالق فيها ذات الكاتب بالنص تعالقاً واضحا، حيث يؤكد على تجريدية النظر الى النص السيري، والتعامل معه كنص أدبي منفصل عن (أنا الكاتب)، مندمج ربما أكثر بـ (أنا النص) التي تعبر عن النص المكتوب وآلياته الاجرائية، والتي ربما تجعل نص السيرة متوزع في ثلاث مستويات بنائية؛ هي تاريخ الشخصية السيرية، والنص السيري، والنص القرائي، والتي توجد تعالقا بنائياً في افق النص، وخاصة إذا كانت الشخصية معروفة للقارئ كأن تكون لـ (شاعر او عالم او شخصية تاريخية او اجتماعية معروفة … الخ).
أما الرأي الثاني فهو للكاتبة (جين هاريسون) التي تقول ( لكي نرى شيئاً ونحس به كعمل فني ينبغي ان نصبح مؤقتاً لاعمليين، أن نتحرر من خوف الحياة العملية، أن نكون متفرجيين. (…) لو راقبنا صديقاً يغرق، لن يتسنى لنا ان نلاحظ الأنحناءه الواضحة في جسده اثناء غطسه في المياه ولا مداعبة اشعة الشمس تموجات الماء عندما يختفي تحتها. (…) لن نؤذي صديقنا لو تمتعنا بمشاهدة الأنحناءات واشعة الشمس، بشرط ان نرمي له حبل الانقاذ. لكننا غير قادرين على النظر الى تلك الانحناءات والى اشعة الشمس لان اهتمامنا كله قد انصب على الفعل، على انقاذه.)، وما أعنيه من هذا الاقتباس الطويل لجين هاريسون، هو إيضاح ان فعل الشخصية السيرية يكون مهيمناً على النص السيري، إذا كان الكاتب مقرباً من الشخصية المعنية بالسيرة، والذي يؤدي الى التركيز على ذلك الفعل دون النظرة الجمالية في حياة الشخصية السيرية – أي مسيرته كشاعر وأرهاصاته الحياتية المقترنة بهذه الصفة- والتركيز على جانب الفعل السردي لتلك السيرة، وربما يبدو الجزء المعنون بـ (شاعرية كزار) من الامثلة التي توضح ذلك، فبعد ان يقدم هذا الجزء رؤيتة عن شاعرية (كزار حنتوش): ( يحتاج الحديث عن شاعرية كزار الغوص بعيداً مع هذا الشاعر الخصب والعفوي حتى في الكتابة فهو لا يزوق نفسه بل يطرحها على الورق كما هي، ينثر أجزاء منه على الورق، يضحك، يسخر يتمرد، يرفض، يحتفي باليومي تجد كزار بأخطائه وعيوبه وفقره وطيبته بالقصيدة)، نراه سرعان ما يرجع الى الاحتفاء بالفعل وتأثيره في حياة الشخصية ( وتشبثت به مثل صداقاته العجيبة والتي تشمل رجل الشارع البسيط ووكيل وزارة مثل الشاعر حميد سعيد الذي عشق عفوية وصدق كزار وكتب عنه قصيدة حسده عليها الاخرون وتفجرت كالقنبلة في الوسط الثقافي وهي قصيدة الأمير الفقير)، اما في باقي اجزاء الكتاب، فأن قيمة تأثير الفعل في بناء الشخصية السيرية ربما يبدو أكثر وضوحاً من خلال عنونة تلك الأجزاء مثل ( أسفاره، مع الجيران، رحيل فاجع… الى اخره).
كتاب (كزار حنتوش – الشعر مقابل الحب!) ركز في أكثر جوانبه على ذلك الفعل، الذي مثل أهم مظاهر العلاقة بين الشاعرة رسمية محيبس والشاعر كزار حنتوش، لانه مثل أحد أوجه العلاقة الانسانية والاجتماعية التي كانت تربطهما، لذلك من غير الممكن لنا نحن ايضاً ان نتجرد من هيمنة ذلك الفعل وبنيته السردية، محاولين القبض عليه ضمن دائرة العلاقات النصوصية كنص سيري، واغفال سطوة ذلك الفعل الذي مثل صورة التاريخ لشخصية كزار حنتوش كما ترويها لنا رسمية محيبس، وهي تمثل إحدى زوايا النظر الى هذه الشخصية الاشكالية، إذ يخضع بناء الشخصية السيرية الى عدة اعتبارات، منها وجهة نظر(انا الكاتب) ووعيه بالشخصية، ومساقط رؤيته، ومدى قرب وبعد علاقته بها، والتي تظهر من خلال زاوية النظر، العاكسة لتلك العلاقة وتلك الرؤية، وربما من خلال ذلك تظهر لنا صورة أخرى مغايرة عن تلك الشخصية التي ألفناها، لذلك فلا يمكن بأي حال من الأحوال ان نحاكمها من منطلق مطابقتها او مخالفتها لتصوراتنا، (هل أكمل الشاعر قصيدته؟ الكل انتابته الدهشة ولم يتحرك أحد وحدي أحسست بالفاجعة كنت اركض في كل الإتجاهات).
إن هذه التجربة للشاعرة رسمية محيبس هي محاولة للقبض على الزمن، والتحايل على ظرفية الكتابة وزمنيتها، بظرفية الذاكرة وزمنيتها المستعادة، والتي ظهرت لنا هكذا، مبنية على تمثلات وتمظهرات الفعل السيري، دون النظرة الوصفية التحليلية للشخصية وصورتها في نص السيرة.
* كزار حنتوش الشعر مقابل الحب! – رسمية محيبس – دار ميزوبوتاميا – بغداد 2013