ذات يوم بعيد سمعت دقاً على بابنا المفتوح في حي الأسكان في الديوانية ، توقف شابان يرتديان نفس الملابس البسيطة المتواضعة التي كنا نرتديها عند الذهاب الى المدرسة ونتخلص منها كالعبء حينما نصل البيوت ، وينتعلان الصنادل ،لذلك لم يخيفني منظرهما المباغت ، في زمن بدايات الرعب السياسي آنذاك ، قدما نفسيهما وقالا أنهما أديبان جاءا للتعرف بي بعد أن كتب الشاعر يوسف الصائغ وعبد الرحمن الربيعي عن مجموعتي القصصية الأولى ، كان أحدهما الشاعر علي الشباني بقامة باسقة وجسد قوي ، والآخر بنظرات طيبة ومعان خجولة ، أسمه سعدي سماوي ، قضينا وقتاً ممتعاً ذلك اليوم ، قضيناه في التجوال على الأرجل في شوارع الحي العصري القريبة ، وجلسنا وقتاً على الشاطئ النهري وقضينا ردحاً من الليل في التسكع الطويل بلاهدف كعادة ذلك الزمان في مناقشات مستمرة وأستعراضات شكلية لمعلومات أختزناها من معارف عصرنا والكتب والمجلات المتوفرة في ذلك الوقت . كان حضور أسم كزار حنتوش لافتاً في أحاديثنا كل حين ، وعرفت من كلامهما أنه شاعر شعبي ، دخل السجن مرة وأخرج بكفالة بسبب غريب فهو متشبهاً بأفلام العصابات الفرنسية وقصص أرسين لوبين كتب بخط يده رسائل تهديدية غفلاً من الأسم وجهها الى بعض التجار ممهورة بتوقيع عصابة الكف الأسود يبغي من خلالها الحصول على معونات مالية للحزب الشيوعي
في تلك الأيام كان كزار غائباً عن المدينة فلم ألتق به ، لأنه ألتحق بمعهد المساحة في بغداد ، وفي مصادفة تالية كنت سائراً مع صديقي حبيب مهدي أخ الفنان بشير مهدي على جسر الديوانية فصادفنا شاب أسمر نحيل بملامح قروية وشعر خالطه الشيب ، يمتطي صندله أيضاً ، وأدهشني ذلك الشاب بعشقه الآسر للمطرب عبد الحليم حافظ وسمعت همساً من حبيب أنه يدعي أن عبد الحليم صورة طبق الأصل منه ، وكانت النكتة والتهكم الساخر على طرف لسانه في كل مرة يكون الموضوع بيننا جدياً ، حتى يجبرك أن تأنس له ، لم يكن ذلك الشاب سوى كزار حنتوش بدمه ولحمه وسخريته البارعة
بعدها ، كان زواجاً لأحد أصدقائنا مناضلاً في الحي العصري لاأتذكر أسمه فأجتمعنا في فرحه وضمتنا مائدة حضرها الشاعران شاكر سماوي وعزيز سماوي وكان معنا على المائدة والد علي الشباني أيضا فكانا معاً الأب وأبنه يتبادلان مثل صديقين الأنخاب أما أنا وكزار فلم نترك نعضنا طوال تلك الجلسة وصرنا نتبادل الكتب والمجلات الثقافية نحن الأربعة سعدي وعلي وكزار وأنا مثل مجلة الهلال والكاتب وشعر وحوار التي قرأت فيها لأول مرة رواية موسم الهجرة الى الشمال للطيب صالح
لم يكن كزار قد كتب حتى ذلك الوقت غير أشياء خجولة لم يكن يجرؤ على أن يرينا شيئاً منها خوفاً من قلم سعدي ولسانه اللاذع والذي كان يعرف فاضل العزاوي ويوسف الصائغ ومظفر النواب وصلاح خالص الذين كانوا معه في سجن السلمان فعرفني بهم وكنت أنا وقتها أنشر قصصاً في مجلة الأقلام والآداب وأشتغلت لفترة في جريدة التآخي كصحفي متدرب وأصدر علي الشباني مجموعة مشتركة مع طارق ياسين وعزيز سماوي ونشر مقالات وتحقيقات عن الشعر في مجلة ألف باء ، ذلك الحين لم أظن أن كزار سيكتب شيئاً حتى فاجأنا بقصيدته الطويلة بعد الجبهة في طريق الشعب وأسمها قمر تشيللي أهداها وقتها الى سلفادور اللندي الرئيس الذي أستشهد في أنقلاب رجعي ضده في سنتياغو .
كان كزار ذو نفس رحبة وبسيطة ، وفي لحظات النكتة يبدأ بالسخرية من كل شيء حتى من أسمه ، يذكرك أحياناً بالحطيئة ، فلما يتندر عليه المرحوم عزيز سماوي ويقول له ، هم كزار وهم حنتوش قل لي كيف ستشتهر ، فكانت تملأ الضحكة وجهه منكساً رأسه بأسف ليقول ، المشكلة أن أسم جدي خديم كحط ، يعني منين ماتجيها متصير الها جارة ( من أين تأتيها فلافائدة ) .
بعدها بفترة قصيرة وأثر تخرجه من معهد المساحة العالي حصل على وظيفة مساح لطريق البصرة سوق الشيوخ وهناك بدأ الأدباء البصريون ومن الناصرية يتقربون الى شخصيته المحببة ويستأنسون بنوادره ، ويتعودون على لياليه المملحة بالضحك والنوادر والمزاح وتعود هو على لياليهم ، وفي أحد المؤتمرات الشعرية تعرف بالأديبة رسمية محيبس زاير وكانت بوادر تعارفهما أنهما في بداياتهما كانا ينشران خواطرهما وأشعارهما الأولى في مجلة المتفرج وجريدة الراصد التي كانت تهتم بأدب الشباب الذين لم تواتهم الفرصة للنشر في مجلات العاصمة الرسمية والغريب أن من ينشرون فيها صاروا يعرفون بعضهم بعضاً رغم أبتعاد المسافات بينهم في محافطات شتى ، وقد خصصت الراصد صفحة من صفحاتها للشعر الشعبي الذي كان كزار مغرماً به ، حتى لم تعد تفرق في قصائده التي نشرها في تلك الفترة والفترات التي تلتها بين قصيدته النثرية المقفاة وبين الشعر الشعبي حتى أنه صار يلجأ لبناء بعض قصائده القصيرة بأيحاءات أو أمثولات شعبية متداولة وساخرة لجذب القارئ ، وفي جلسات السهر كان كزار يذكر أمامي أسم رسمية وميله الشديد اليها منذ تلك السنوات ، وكان كزار يكره لبس الجوارب ، وأن تكرم وأرتداها فسيختار ألواناً غريبة أو لاتتناسب مع ألوان ملابسه ، ولاأتذكر أن لملابس كزار ألواناً ، مثلاً جوارب صفراء على بنطلون أخضر ، حتى بعد أن أشتهرت صفته كشاعر ولفت اليه الأنتباه فلم يهتم يوماً بمظهره وسرعان مايتخلى عن ملابس غالية الثمن تهدى له من قبل متنفذين في مجال الثقافة أستمالتهم شخصيته الشعرية وعفويته أو تسرق منه في حالة سكر وثمالة لايهمه بعدها أين قضى ليلته حتى لو توسط مصطبة حديقة عامة ، يتعرض فيها لسرقة آخر درهم في جيبه ، وتركه اللئام ذات يوم عارياً بعد أن أغرتهم ملابسه الغالية والتي لم تتناسب أحجامها مع ضئالة جسده المنهك من الشرب المتواصل وقول الشعر والضحك على الحياة .
ومعروفة تلك الحادثة في مهرجان المربد ، حينما جاء دور كزار لقراءة قصيدته فأرتدى جاكتة أحد الأصدقاء ليظهر فيها أمام الضيوف الزائرين العرب على المنصة ، وحين بحث عن قصيدته في جيوبها تذكر أنه نسيها في جيب جاكتته الأخرى التي تركها في الفندق ،بعدها كتب هذه الأبيات :
بكت الجريدة من أقاصي الصفحة الأولى
وخيبتنا بما حملت في صفحة الأموات أسمال الجريدة
هي ربما عرفت بخيبتنا الجديدة
خيبة شاعر قرأ المنصة ، حين لم يجد القصيدة
وفي المناسبة الفريدة في حياته للقاء رسمية وذهابه الى الخطوبة من بيت عمها في سوق الشيوخ ، لم يخلع كزار حذاءه من دون الموجودين كعادة الزائرين في أحترام البيت الذي يدخلونه ، وجلس بيننا بحذائه فوق الأفرشة ، ولما نبهناه لذلك تغافل عن تنبيهنا أياه ، فعللنا ذلك برائحة الحذاء بعد السفر الطويل وقد قدمنا من بغداد الى الناصرية ، ولكنه فاجأنا بصراحته المعهودة أنه لم يخلع حذاءه لأنه بلا جوارب أصلاً
أثناء دراستي في الكلية ، كنت في زياراتي المتباعدة الى الديوانية ، أبكر منذ الساعات الأولى لأصطحاب كزار الى أفطار كباب صباحي عند مطعم هلال ، بسبب تباعد مناطق السكن بيننا ، وكنت أدخل بيتهم دون أستئذان من والدة طيبة تعرف أمي كانت تعيش كأنها غائبة عن العالم ، فتطلب مني أن أوقظه لأنها لاتجرؤ أن تفعل ذلك ، وكان شقيقه هادي يومها يكمل دراسته في العاصمة ، فما أن ألمس كتفه وهو نائم حتى أراه يقفز كالغزال الشارد الى الثلاجة ليرتشف كأسه الأولى ، ومرة لم يخرج من البيت الا بعد أكماله سماع أغنية الجو بديع والدنيا ربيع التي كانت تشتهر
بها سعاد حسني وتذاع كل صباح جمعة فأكمل على ماتبقى من زجاجته في الصباح كأنما يواصل سهرة الليلة الماضية في نادي المعلمين القريب من بيته ، وحين قضى فترة في مصحة علاج الأدمان في ساحة الأندلس كنت أزوره يومياً فيحكي لي بأعجاب عن كتاب ماريو بوزو (العراب ) الذي قرأه في المصحة لما أكتشفه صدفة في مكتبتها الصغيرة ، وقد وجدته قد تآلف مع كل النزلاء بسرعة عجيبة .
.أصر كزار على تسمية ديوانه الأول الغابة الحمراء ، أو أتذكر عنواناً آخر له ( آه من البنفسج ) الا أن الرقابة وقتها رفضت تلك التسمية المؤولة ، وكان هو لايحب الدخول في المناقشات العميقة ، ووقتها تحداه أحدهم أن يكمل النقاش حول مسألة ما معه الا أنه وعده بأكمال المناقشة بعد أن يسكر ، فذهب معه المناقش حتى مائدته وبعد كؤوس ذكره بأعادة الحوار فتعلل كزار وقال للسائل ، الآن أنا قد سكرت فلنرجئ الحديث لوقت آخر . وحينما يقرأ كزار شيئاً كان الكتاب يتملكه حد الشغف ، فنراه دائماً بين يديه لايفارقه لحظة في الشارع او في المقهى او في البار لعدة أيام ، وبعدها يتحدث عنه لمدة شهور ، هكذا فعل مع كتب قرأناها سوية ، أشتهرت تلك الفترة مثل عشرة أيام هزت العالم لجون ريد وداغستان بلدي لرسول حمزاتوف ، وأشهد أنني قد عشت لنيرودا وثرثرة فوق النيل لنجيب محفوظ ، ولم أعرف له ميلاً لقراءة الدراسات المنهجية في النقد الشعري ، لكنه بعد فترة سرعان مايتخلى عن الكتب التي أحبها لأصدقائه . مثلها حين ميله لشخصية تاريخية او فردا بسيطاً من مدينته أو من الحزب الشيوعي فيجد لها مكاناً ويضمنها في قصائده ، مثل شخصية تروتسكي وزكي خيري وعبد الله حلواص ومقهى صنكور ، وكان يعشق كل ماهو غير مألوف في الحياة .ويردد دائماً حينما ينتشي ( ليلتنا فل يجدعان ) أو يتمتم حينما ينتهي من ضحكته ( يارب أجعلها ضحكة خير وشرها على جبار أسمير ) وجبار من أصدقائنا الشعراء الذين هاجروا من المدينة الى المحافظات الآخرى بسبب العوز المادي .
بعدها تسنت لكزار فرصة نشر ديوانيه ، الغابة الحمراء كما أراد ، وأسعد رجل في العالم ، وفي عينيه هوس الأقتراب من شاعرين كان يحب حياتهما ويتمثل بهما ، هما يسنين الذي يدعوه بالشاعر القروي ومايكوفسكي شاعر السريالية الأول بثوب الأشتراكية الطليعية ، ولكن قصيدة كزار التي لم تكن تنتمي لجيلها الشبابي وقتها ، وقت ظهور التيارات الحداثويةبين جيلي السبعينات والثمانينات من القرن الفائت أفرزت له موقعاً شعبياً خاصة في نفوس القراء المتطلعين الى نغمة جديدة بين ركام التعبيرات المملة والغموض الطاغي على قصائد النثر الحديثة والعموديات الهائلة المقرفة للمداحين الحزبيين حتى ظننا أن قصيدة كزار كانت هي كزار نفسه ، الا أن كزار في شاعريته الصادمة كان نسيجاً وحده كطائر خارج الأسراب ، وكانت أبيات أشعاره وأسلوب حياته تلفت الأنتباه ، وكان من الممكن أن يقترب من الشاعرين الذين أحبهما وجعلهما هدف مسيرته الشعرية الا أنه آثر الطريقة السهلة للعيش بسبب تراكم الأعباء العائلية وفصله بما يشبه التقاعد لعدم أهتمامه بشؤون وظيفته التي تساعده على العيش ، وكثرة سفراته وتنقله بين أصدقاء يسكنون محافظات متباعدة كان يختارهم ممن يعيشون لهواياتهم كشأنه ، مما جعله يرتكب خطأ أضر بشاعريته في فترات القصيدة المادحة ، وجعل البعض ينظر الى شاعريته الكبيرة بعين حذرة أخرى .
عرفت كزاراً صديقاً ومحباً للجميع حتى أن كل منهم صار يدعي صداقته معتقداً أنه صديقه الوحيد ، لكن أصدقاء كزار كانوا ثلاثة ،يتذكرهم دوماً في حله وترحاله ، هم الروائي علي حسين ، الذي رحل الى لبنان وبعدها الى النرويج فصار يتذكره بأستمرار ، والشاعر جان دمو الذي رحل عنا وهو في منفاه الأسترالي ، والآخر هو الشاعر أبراهيم البهرزي ، الذي يعيش في بعقوبة وأتذكر دعواته لنا في بساتين بهرز الغناء بفاكهتها الفريدة ومناظرها الخلابة . هذا بالرغم من أن كزار لايظهر أستياءه من بعض الأشخاص مباشرة وأنما يكتفي بالتندر همساً بعد مفارقتهم ، ولما كنا أنا وهو الوحيدين في المدينة ننشر في جريدة طريق الشعب ، أسرني ذات مرة أنه كان يغار حينما تنشر لي الجريدة فيؤثر المكوث في البيت ذلك اليوم ، لكنه حينما يزعل يكون من الصعب مصالحته ،
ومرة كنت أقوم بأعداد صفحة للأطفال في جريدة الجمهورية بالأشتراك مع الزميل الشاعر عبد الزهرة زكي ، حمل لي كزار وريقات تضمن مطلعها الأبيات التالية
أنا هيفاء
من الديوانية ..
أبي صدام ، وأمي بعثية .
فمزقتها ورميتها بعد خروجه ، وهذه الحادثة يعرفها الصديق عبد الزهرة زكي والشاعران سلام دواي ومكي الربيعي ،ولما نصحته أن هذه الكتابات تسيء الى سمعته الشعرية وتؤثر على محبي أشعاره ثارت حفيظتة ، وشكى حاله الى حميد سعيد وكان يومها وكيلاً لوزارة الثقافة فلفلف يومها حميد الأمر ، لكن كزار لم يودعني بسببها حينما سافرت الى الديوانية وعندما جئتها لكي أودع الأصدقاء فيها
بعد أن انتويت الرحيل والهجرة الطويلة فقضيت الوقت في ضيافة صديقي الشاعر رحمن غركان ، رغم أنني قد أفتقدته بعد أفتراقنا .
• وفي أيام هجراتنا كان تذكره زاداً لغربتنا بمواقفه وقفشاته وأخباره وذكرى ضحكاته الرائقة ، في مواطننا الجديدة، أنا وعلي حسين والدكتور سعدي سماوي الذي يعيش في ولاية أيوا في الولايات المتحدة منذ الثمانينات . وبعد دخول الجيش الأمريكي الى العراق سمعت أنه أستعاد خطه القديم ومد صلاته من جديد مع الذين فارقهم أيام كتاباته التي لم يكن راضيا هو نفسه عنها ، وهو أول المبادرين في سياسة الأعتذار عما بدر منه من كتابات سابقة ، وأرسل الي عدة رسائل تضمنت شوقه الدائم ، لكنه كان بلاعنوان حتى سمعت برحيله المحزن وأنه غفا أغفاءته الأخيرة بين مصطبات وكراسي مكتبة الديوانية المكان الذي أحببناه معاً ، حتى أنا وهو كنا نقضي الوقت عند بابها المغلق أيام بدء أنتفاضة الديوانية ضد الحكم في التسعينات حتى ندرأ خطر مهاجمتها ونهبها من عصابات السلب التي أستغلت وقتها فوضى الأحداث .
أخيراً ، لايسعني ، الا أن أرسل طيات الشوق معبقة بالحنين لتلك المدينة الوادعة التي تربينا على صفاء الحياة وهدوئها ونشوتها فيها ، سلامي ، الى نهرها المسرع في الرحيل مع دوران لون القصب ، وأعشاب منحناه الذابلة في قيضها اللاهب وقت أنطفاء المساء . سلام على من بقي حياً وفياً لترابها ، سلام على كزار حنتوش ورحيم ماجد وعلي الشباني الذين ماتوا وهم يتأملون تضاريس أرواحهم الغائرة على أديم سمائها .الأوفياء لأشجارها ، وأسحارها ، وغبارها ، وأمطارها ، لكزار الذي كان يذوب عشقاً في كل لحظة من أجل مائها وظلامها وهوائها ، حتى لم يجسر أن يموت الا مع البيت التالي من عطر الغابة الحمراء فيها .سلام عليه وهو يلفظ أنفاس قلبه مع الشطر الأخير من قصيدتها ، على صهيل خيول الختام ، كأنه الجاحظ في مكتباتها