(اﻷسماء كثيرا ما تتشابه، لذا لا بد من إزالة الإلتباس، فكريم الذي أقصده هنا، هو ذاك الذي تركته في بلادي البعيدة، التي ما انفكت ترزح ومنذ ما ينيف على العقود اﻷربعة تحت نير أنظمة القمع والتسلط، إبتدءا بدكتاتورية الطغاة والبغاة، وليس إنتهاءاً بإحتلال متعدد اﻷلوان واﻷشكال والجنسيات، وبأدوات ووجوه تنتمي الى قرون سحيقة من التخلف)
بعد أن فرغنا من شخصية مسعود، ما رأيكم لو انتقلنا الى شخصية اخرى لا تقل حضوراً وجمالاً عنه. أنه كريم ويسمونه أبو الحق رغم صغر سنه، هذه كنيته، يحملها معه أينما ذهب، وإن أردت البحث أو السؤال عنه، فليس هناك من علامة فارقة تميّزه عن اﻵخرين ومن غير لبس الاّ بإلحاق إسمه بذلك النعت. قد يوحي إسمه ولمن لا يعرفه بأنه كبير في عمره، أو يظن البعض بأن هناك إشكالاً ما قد حصل، ولو لم يحدث مثل هذا بالفعل لما أعدت التذكير، حيث يتوهمه الكثيرون حين ينادونه أصدقاءه من بعيد، فتراهم يتلفتون يميناً ويساراً، للتأكد من الشخص المطلوب، بعد إستبعادهم في أن يكون المعني هو ذاته المكنى بأبي الحق، بدمه ولحمه، وهنا تقع المفاجئة.
ولعل هناك من يتسائل عن كنيته هذه ومن أين جاء بها والتي لا تخلو من غرابة وطرافة، وكيف إستقر عليها، لذا فلا بأس من الرجوع الى الوراء قليلا والتوقف على أصلها. بإختصار فالقصة لا تحتاج الى كثير جهد وعناء وليس فيها من سر مكتوم، فإسمه أو بالأحرى لقبه هذا هو مَن أحبَّ أن يطلقه على نفسه ومنذ أن نمت في أضافره وتمكَّنَ من بعض من المعلومات، ظنها آنذاك كافية للتسلح الفكري والمعرفي والتصدي لأي منازلة، وكفيلة أيضا للوقوف بوجه أكبر شارب يدعي التمكن من الفلسلفة، وحين مراجعته لما يمتلكه من معلومات وبعد أن وصل به العمر حداً تجاوز فيه مرحلة اليفاعة، راح متندراً على نفسه ولائمها، بسب من فقرها وعدم كفايتها للخوض في نقاش رفيع المستوى، غير انه في ذات الوقت سوف لن يتراجع عن ذلك الإسم، حيث اعتبره ملائما جدا له ومناسبا حتى استقر عليه، بل سيبقى حسب قوله مرافقاً له، لصيقا به ما دام حيا.
وبصرف النظر عمّا كان يصله من نقدٍ هامسٍ أو معلن من هنا وهناك بسبب هذا اللقب، فهو يرى في اختياره له وصفا دقيقاً ومطابقاً لحالته وإسم على مسمى وعنوانا لصراحته، وذلك متأتٍ من عدالة أحكامه على ما يزعم. معاهداً نفسه أن لا يحيد أو يتردد عن قول الحق، ليس ﻷنه قد كنّي به وارتضى أن يحمل وزره ومهما كلفه من تبعات وخسائر فحسب، بل ﻷنه يأتي منسجما ودواخله، حتى لو لم يرق لأقرب المقربين الى طريقة تفكيره وقناعاته، بل حتى لو طال أو جاء على حساب علاقته المتميزة جداً والتي تربطه بصنوه وصديقه الأقرب مسعود، الذي (ينافسه) في التطلع الى ما هو أرحب وأبعد في عالم الفكر والمعرفة.
هادئ في طبعه، بخيلاً بل قُل شحيحاً في طرح أفكاره ويأتيك بها تقسيطا ومن غير أن يكون قد تعمَّد ذلك. ومن صفاته كذلك التي يُمكننا التوقف عندها لأهميتها، هي الحرص الشديد على إنتقاء مفرداته والدقة في إختيإر ما هو مناسب منها ومعبّر، فلكل كلمة كما يقول دلالتها ومكان إستعمالها الخاص بها، لذا لا يمكنك وبحضوره إطلاق أي مفردة على عواهنها، فليس هناك في عالم اللغة من تطابق تام بين كلمة واخرى حتى لو إقتربتا أو تشابهتا بالمعنى العام، وهو في هذه الصفة سيقترب كثيراً من أبو داود الذي يكبره بما لا يقل عن العقد من السنين، والذي يدعي لنفسه بأنه سيد الفلسلفة ولا ينازعه في ذلك أي أحد في المدينة، على الرغم من خلافاتهما المستحكمة في جوانب اخرى.
أبو الحق وقبل الإستعجال في الحكم على طريقته في الحوار، لابد من القول والإيضاح، إذ هو لا يستهدف من وراء أسلوبه هذا وعلى طريقة البعض الإستعانة أو الإتكاء على تلك اﻷساليب الملتوية كالمراوغة والإلتفاف وأخواتها، وبالتالي قد يأخذك التفكير بعيدا لتظن به سوءا وتعتقد بأنه يبيت لك أمراً ما لا ينوي الكشف عنه الاّ بميقات وحين تحين لحظته.إنَّكَ يا عزيزي القارئ وبإختصار ومع هذه الإفتراضات التي سُقناها، ستكون واهما بكل تأكيد إن رأيت فيها ماهو معقد وصعب على الفهم، فشخصيته أبسط من ذلك بكثير.
ولِمنْ لم يسبق له أن التقاه وعندما تحين الفرصة للتعرف عليه عن قُرب فسيخرج بمحصلةسريعة، تُنبئ بأنه متروٍ جداً في إصدار أحكامه وفي بناء تصوراته التي قد تطال حتى المواضيع والحالات التي لا تستدعي منه كل ذلك الجهد والمبالغة، فتجده وفي الكثير من المرات وقد استغرق وقتاً لا بأس به قبل وصوله مرحلة النطق والإدلاء برأيه وبأحكامه، رغم بساطة وعدم أهمية الموضوع الذي يجري التحدث عنه، فما يهمه بشكل أساسي هو التركيز على الفكرة، أية فكرة حتى لو بدت ساذجة طالما بُنيت على قناعة ورضاصاحبها بها، أو حتى لو ترتب عليها اختلافاً في الرأي، ولكن، وهنا الأمر الأهم في طريقة تفكير أبو الحق، فلكي تستكمل شروطها (الفكرة) وعلى حد رأيه، فلابد من مراجعتها قبل الإقدام على تبنيها والنطق بها، فهي في محصلتها النهائية مسؤولية عظمى، تُحسب لك أو تُردُّ عليك، وهي لا تقل شأنا وأهمية عن قراري الحرب والسلام.
ولتسليط الضوء أكثر على طريقة تفكير أبو الحق فهو مؤمن بأسلوب أحدهم ومن غير التطرق الى إسمه، ولشدة إعجابه به راح حافظا بعض من عباراته اﻷثيرة والشهيرة، من بينها وعلى سبيل المثال: ربما ستعتقدون بأن عملية إصدار اﻷحكام معقدة جداً، فما بين الفكرة والإفصاح عنها هناك برهة من الوقت وفسحة من التروي والتفكير. ثم يمضي مضيفا: كل هذا صحيح ولكنكم ومع مرور الوقت ومع الرضا عما تحملوه وما يرافق ذلك من قناعة وإطمئنان بها، سوف تجدون أنفسكم وقد إختصرتم الكثير من الكلام وأخذتم لبّهُ أو جوهره، وبذا تكونوا قد إختصرتم أيضا من الوقت والجهد لتكتفوا بما يلبي ويستجيب للغاية المبتغاة. في كل الأحوال ليس لي من حيلة، فلست من النوع المناور أو المراوغ. وكي يدعّم أبو الحق رأيه فسيستعين ببعض المفاهيم التي استقاها من كاتبه المفضَّل، فمنها على سبيل المثال: هذه هي موضوعة الفلسفة وفي أهم جوانبها وقوانينها، وهذا هو عالمها ورسالتها، وهكذا أفهمها، وقد لا تتفقون معي أو تجدونني مبالغاً في رؤيتي هذه، فلكم في هذا شأنكم ولي شأني. وكي لا يصادر أحدنا حق اﻵخر في إبداء ما يراه مناسبا، فلكم مذهبكم ومنهجكم في التفكير، ولي مالكم وبذات القدر، وتبقى الحياة وبكل ما يحيط بها من حركة وتغيّر، كفيلة ومقياس وفيصل كذلك، يُعتد به ومجرب والى حد كبير، لتمييز وتزكية صحة هذا الرأي من خطله.