أننا اليوم و عبر مشهدية واقعنا الثقافي و الأدبي و النقدي مع عقليات شخوص القراء و العابرين ، لعلنا لا نستطيع تحديد و بدقة أكبر ، ما تعنيه هوية و مقومات و شخصية ( الناقد الأدبي ) خصوصا و أن دور مشاركة القراء و الأدباء المتشككين في ذلك ، بات يشكل معوقات حقيقية امام مقروئية مكونات و سمات هذا الكائن الأدبي و المعرفي ، فهناك من يقول بأن الناقد هو تلك الفعالية التي ترسم المتغيرات الموضوعية داخل خصائص جمالية خطاب النصوص ، و هناك من يقول بأن الناقد مجرد شخص يسرق المصادر و جهود الآخرين ، و هناك من يقول بأن الناقد كائن نرجسي فاشل ، و هناك من يؤكد بأن الناقد بنية نموذجية من تضليل القراءات المفهومية و النسقية ، و آخر يقول الناقد مجرد قارىء كبير و مجتهد . بعد هذه الحقبة الطويلة من الأسئلة : يا ترى أين هو التعريف الصحيح و الجاد من كل هذه الأسئلة و المقروئيات المهجنة لشخصية و دور الناقد ؟ هل أن حقيقة الناقد مجرد صورة حلمية معادلية تعيش و تمضي بداخل تصورات و هواجس و أحلام كل من يحاول تجسيد ذلك الدور من داخل حدود مخيلته الخاصة و قناعاته الشخصية فحسب ؟ أم لعل ذلك الناقد الأدبي هو مجرد صورة كرنفالية يحتفل بحججها و براهينها الأغبياء و الأوغاد من الأدباء و الشعراء ، حيث من خلالها يحاولون أخفاء عيوبهم و ضعفهم عندما لا تحضرهم عندئذ أدلة الأقناع و الحجة في مطارحة
رأي الآخر ؟ فأنا شخصيا كاتب هذا المقال أتذكر جيدا في يوم من الأيام ، بأن هناك شاعرا أو لربما هو مجرد متزلف ساذج، قد قال هذا الكلام عن هوية الناقد و دوره ، في حين أنه قد نسب هذا الكلام المشار اليه قاب قوسين الى شخص الناقد المعروف محمد مندور : ( أن الناقد الذي يقف على عتبة المرحلة التأثيرية فقط مكتفيا بأن يقول هذا جميل و ذاك قبيح ، و هذا أسود و ذاك أبيض ، فأنه في الحقيقة لا يعتبر عندئذ ناقدا على الاطلاق ) . لعل القارىء لمثل هذه المنسوبية الشاذة لشخص الدكتور مندور ، ما يكشف الى ان هناك ثمة مفارقة هائلة في موازين هذه الحكمية الفاترة من لدن الناقد مندور ، لاسيما و الكل يعرف بأن من أكثر مقولات هذا الناقد التطبيقية ، ما تعتمد على أحكام و مبادىء الجمال و القبح و السيء و الجيد من النصوص . من جهة أخرى ليكن فعلا هذا القول هو للناقد مندور ، فما يعني هذا ، هل معنى هذا ان هذا الناقد هو ألهة سماوية في الحكمة و التنصيص القطعي في الاشياء ، أو لربما هذه مجرد وجهة نظر لا أكثر و لا أقل ، أو ربما هي مجرد كيفيات ذاتية من زمن متغيرات حالة معرفية في النظر للأشياء ، خصوصا و أن هناك حقائق ثابتة و متغيرة في سلسلة مؤولات الناقد الأدبي . و هذا هو بالضبط ما قد قصدناه في بداية مقالنا ، أي بمعنى أن هناك ثمة أدباء و قراء يحاولون كسب الحقائق من داخل كفة ميزان اللحظة العابرة و آنية من زمن الفيوضات اللاشعورية و اللامسؤولة أحيانا من حياة النقاد . و لكن المشكلة لدينا الأن ، كما رأينا ، هي ما وجه حقيقة الناقد الأدبي ، و ما هي وجوه صوابية مقوماته التفاعلية و الأنتاجية إزاء النصوص : هل هو فعلا مجرد قارىء غير متوازن ؟ أم هو بمثابة العملية الفراغية ما بين النص و القارىء ؟ أو لربما هو في نظر بعض الأدباء
مجرد حقيقة مجهولة على سطح خارطة الأبداع ؟ أم أنه مجرد وسيلة تمجيد عند الآخرين و مدح لسفاهات نصوص أنصاف الشعراء ؟ . أنه لمن الصعب وصف العملية النقدية و الناقد مهما كانت أشكالها و مضامينها و مناهجها ، بأنها بعيدة عن حدود التقويم و القيم و الشرائط الأساسية في دلالات و دلائل مبادىء الجمال و القبح و ثنائية الأسود و الأبيض ، فهذه الأمور لربما يعدها أنصاف المثقفين و الأدباء و المنحدرين في صناعة الأبداع مجرد شكليات و مظاهر قشورية على حد قول أحدهم ، فإذا كان دور الناقد الأبي على حد رأي مندور هو بعيدا عن أحكام ما هو جميل و قبيح ، فإذن ما هو دوره بالضبط ، هل أن دوره مجرد منسق في هيئة اتحاد الأدباء و الكتاب ، و مشرف متملق في احتفاليات الأدباء المشاهير ، أم ان دوره مقصورا على فعل المجاملات على طاولات الخمر الأبيض و الويسكي و أطباق الباقلاء و اللبن المملح ، أم ان دوره هذا الناقد مجرد التبويق و التصفيق لأنصاف النصوص الشعرية ، التي هي مجرد عمليات تناصية شبه مسروقة من نصوص الخرافات و الملاحم و الأنساق الشعرية القديمة ، فأنا شخصيا لربما لا أدرك جيدا دور الناقد الأدبي خارج حدود الجمال و القبح و النص السيء و الرديء . لعل ذلك الشاعر المسكين ، الذي تراه يحاول تنسيب ما يحلو له من كلام و افتراءات الى اسماء مشاهير النقاد و المفكرين ، جاهلا هذا الشاعر في الوقت نفسه ، لأهم ما عليه دور الناقد الجاد و الأمين و الصادق مع نفسه و مع نصوص الآخرين ، أم لربما ان هذه الأصناف من الأدباء و الشعراء ، هم من لا يعتادوا على مرأى ناقد جريء و بليغ ، يكشف لهم في نصوصهم عن مدى ما هم عليه من أوهام و مكابرات الابداع الزائف . و قبل أن أقول وداعا لقارىء
مقالي هذا ، أود الأشارة البسيطة لذلك الشاعر الذي هو في قاع النسيان و تركات الأهمال و الانكسار : ان التأمل الأنطباعي للنصوص كنقد أو قراءة ، قائمة بذاتها و موصولة بحقيقة ذاتية مصدرها الرؤية و الحدس و الذوق و الثقافة ، حيث تبدو عادة مجهولة النموذج لدى القراءة ، و لكنها تبقى تشكل مقروئية ذاتية مستندة على إشتراطات موضوعية ثاقبة التأثير و المؤثر . فإذن الناقد الأنطباعي في هذه الأحوال لا يجبر أحدا ما على أن يقبل ما يقوله ، و ليس أيضا يقبل أن ينكر أحدا ما يقوله ، و لكن للقارىء الحق في النظر و القراءة، فإذا كان هذا المقروء قد وافق هواه ، فهذا خيرا ، و إن لم يوافق هذا المقروء ذائقة القارىء ، فله أولا و أخيرا ذوقه الخاص . إن لهذه التساؤلات و الأجوبة خاصية مهمة جدا ، لأنها تثير في الأخير لوعي القارىء ، ثمة تحديدات نهائية و مفيدة لمقومات الناقد الأدبي ، خصوصا و إن مجال كتابة النقاد ، ليس محصورا فقط في نطاق المنهجيات و البحوث الأكاديمية المملة ، فضلا عن هذا أجدني من الضروري الإشارة الى إن الفكرة الأساسية التي قادت مقالنا الى هذه النقطة من البحث ، هو القول إن النقد و الناقد الانطابعي ، يمتاز بخاصية فريدة ، هي كونه غير مرتبط ببنية قولية مرجعية ذات أصول ثابتة ، بالأضافة الى إن القراءة الانطباعية دائما هي ذات مداليل تحمل في مقولاتها صحة مدلولها الذاتي و الحدسي و الذوقي و ليس المنهجي العلمي . و في الختام أقول من جديد ردا على كل الخطابات الأخرى ، التي من شأنها أولا ، تشويه موقعية الناقد الأدبي و أحكامه الذوقية ، بيد إن الأدباء القراء للأعمال النقدية بشكل عام ، عندما يحاولون فهم المقولات التي هي بشأن نصوصهم ، لربما لا يلجأون سوى الى الأعتقاد بأن هناك إشكالية ما في
موقعية هذه الأحكام الذوقية ، كما و إنهم لا يتفاعلون مع ما يقرؤه من تأويل و مقاصد موضوعية هي من جهة الناقد . مع الأسف أقول ، باتت المهمة النقدية و النقاد إزاء المصنفات العلمية و المنهاجية الجديدة المستوردة من المناهج الغربية ، كما لو إنها مناقشات في غرفة المراحيض أو في عراء الصحراء ، بل أن قراءات الناقد الأدبي في نظر بعض حثالات الأدباء ، أصبحت تشكل عادات و تحفظات من أذيال الطائفية العرقية ، لربما هذا بدوره ما دفع ( بول ريكور ) الى مثل هذا القول : ( لا يمكن أن يبق النص النقدي قابلا لفهم و أستجابة كل طبيعة قارىء و أديب ، و ذلك لأن الذوات القارئة نفسها تختلف من ناحية التأويل و التفاهم و التفهم مع إنجازات الدلائل المتحكمة في صدد خالقية دلالة الناقد نفسه )