منذ عام 1940 عرف المجتمع الكركوكلي دور العرض السينمائي، وربما ازدهرت تلك الدور وعاشت حقبتها الذهبية في المدّة ما بين خمسينات القرن الماضي الى السبعينات منه، وشأنها شأن أي شيء حديث، كان رواد تلك الدور قلّة قليلة بسبب الانتقادات التي كانت تُوجّه لمرتادي السينما آنذاك.
تلك الدور التي كانت علامات فارقة في مدينة كركوك أمست اليوم مجرد أطلال تحكي قصة زمن البهجة والمتعة لجمهورها، بعد أن تحول معظمها إلى مواقف للسيارات!
أهم دور العرض
احتوت كركوك على العديد من دور العرض السينمائي التي كانت تتميز بأنها صيفية وشتوية، ومن أهمها سينما أطلس في شارع أطلس، صاحبها الحاج طيّب الذي يسكن قرب روضة الفتوة بجوار المحافظة، وسينما العالمين في شارع الأوقاف قرب بناية المحاكم الجديدة، وبعدها انتقلت إلى فرع باعة الزجاج مقابل المحاكم الحالية، وتعود إلى الوجية أمير أوجي، وسينما الحمراء في شارع الحمراء، صاحبها المرحوم أنور وهو وكيل توزيع الأفلام، وسينما صلاح الدين وهي من الدور الحديثة، تقع في شارع الجمهورية، أصحابها نوزاد أوجي وأشقاؤه، وسينما غازي قرب جامع عبد الرزاق التحافي، أزيلت عام 1957، وسينما الخيام في الجانب الكبير في نهاية جسر الطبقجلي، شارع القلعة الذي يؤدي إلى جسر الشهداء، وقد شيدتها البلدية عام 1975 وأزيلت في السبعينات، وسينما القلعة في شارع أطلس خلف سينما أطلس سابقاً، وصاحبها نوزاد أوجي، وسينما السندباد قرب المصرف الزراعي، وسينما النجوم في أحمد آغا، قرب محال بيع الأسماك، وسينما دنيا قرب المحاكم القديمة. وكانت لتلك الدور صالات لعرض الإعلانات ومحال لبيع الأطعمة الجاهزة والمرطبات.
منذ أن وعيت، كانت كركوك تمتلك أربعة دور للسينما : غازي، الحمراء، العلمين، أطلس. ثم أضيف لها بعد سنوات سينما الخيام وسينما صلاح الدين.
كانت لكل دار مناد وعربة خاصة تحمل ملصق الفيلم. وكان أشهر مناد على الإطلاق في كركوك هو (رزوقي) الذي كان يصرخ بصوته الجهوري : سينما العلمين. برت كستر. فيلم الأباشي. بوكسات، معارك، ملون اسكوب.
في ذلك الزمن الجميل الذي لم يكن عالمنا قد تحول بعد إلى قرية بائسة، كان الجمهور يعبر عن تفاعله مع البطل وانفعاله بالأحداث بشتى الطرق. فحينما كان (الكابوي) يظهر مسرعا على حصانه لإنقاذ البطلة، كان الجمهور يشجعه مصفقا.
في أيام العيد كانت السينمات في طفولتنا ملاذنا الجميل، وكانت تعرض صباحا أفلام الكابوي أو طرزان أو هرقل أو شمشون الجبار، بينما كانت عروضها المسائية التي تحضرها العوائل، تكون غالبا فيلما مصريا أو هنديا . وكان من الطبيعي أن نشاهد أكثر من فيلم في تلك الأيام السعيدة. في نهاية النهار حينما كنا نجتمع في الحي كان كل منا يتحدث بالتفصيل عن الأفلام التي شاهدها.
.
في تلك الأيام كانت السينمات المتعة الوحيدة لنا. كنا نحس كلما ظهر محمود المليجي أن شرا لا بد أن يلحق بالبطل محسن سرحان وعماد حمدي وكمال الشناوي الذي كانوا رموزا للطيبة والأخلاق والتضحية. تجلت نفس الرموز فيما بعد في شكري سرحان وعمر الشريف ومحمود ياسين ونور الشريف وغيرهم فيما بعد.
.
كانت لكل دار للسينما من سينمات كركوك متخصصة في عرض نوعية معينة من الأفلام تقريبا. فسينما الحمراء كانت لها شهرة في أن أغلب أفلام فريد الأطرش في الخمسينات كانت تعرض فيها. . بل بدأت كانت تعرض في الستينات حتى أفلامه القديمة. وكانت سينما الحمراء تضع قبل عرض الفيلم أو أثناء الاستراحة (فترة) أغان لفريد الأطرش وخاصة أغنية (حبيبي). أما سينما العلمين فان أغنية عبدالوهاب (خي. . خي) كانت علامة مميزة لها إلى جانب أغنية عبدالحليم حافظ (فوق الشوك مشاني زماني. . قاللي تعال نروح للحب).
بينما سينما أطلس لم تكن تضع أية أغنية وكذلك سينما الخيام التي بنيت في بداية السينات وكذلك سينما صلاح الدين التي بنيت في أواخر الستينات. أما سينما العلمين فكانت تعرض بشكل عام الأفلام الأجنبية والأفلام الهندية ثم بدأت في الستينات بعرض الأفلام الهندية
من الأفلام العربية المتميزة التي عرضت في سينما اطلس الصيفي والشتوي في بيتنا رجل، لعمر الشريف وزبيدة ثروت واستمر عرضه لمدة ثلاث أسابيع وفيلم (ألمظ وعبده الحمولي) لعادل مأمون ووردة الجزائرية. إضافة إلى أفلام أجنبية قيمة مثل : زوربا، لأنطوني كوين وامرأتان، لصوفيا لورين وفيلم روما مدينة مفتوحة.
لعل أول صدمة تعرض لها محبو الأفلام المصرية، كان عند اتخاذ حكومة عبدالكريم قاسم قرارا، بمنع استيراد وعرض الأفلام المصرية في العراق في عام 1960 ، كنتيجة للصراع السياسي الدائر بينه وبين عبدالناصر. وقد ظل الحظر قائما حتى سقوط عبدالكريم قاسم.
وكان أول فيلم مصري يعرض في سينما أطلس بعد سقوط نظام عبدالكريم قاسم هو فيلم (يوم من عمري) لعبدالحليم حافظ وزبيدة ثروت. وكان الزحام خرافيا لا يصدق في سينما أطلس.
وعرض بعد فترة قصيرة فلم (يوم بلا غد) لفريد الأطرش ومريم فخرالدين في سينما العلمين. وهو أول مرة يعرض فيها فيلم للأطرش، كما عرض الفيلم في نفس الوقت في سينما الخيام. وكان بذلك أول فلم يعرض في دارين للسينما بكركوك في آن واحد.
في تلك الأيام الجميلة وحينما كانت المنافسة على أشدها بين فريد الأطرش وعبدالحليم حافظ. وكان الخبثاء من جمهور الجانبين يحضرون هذه الأفلام فمثلا عندما يظهر فريد الأطرش على الشاشة في أول لقطة من الفيلم يقابل من جمهوره بالتصفيق والتهليل. لكن الأمر كان لا يخلو أحيانا أن يرتفع (زيك ـ عفطة) قوية بين أصوات التصفيق فيعلم الجميع أن صاحب (الزيك) هو أحد أنصار عبدالحليم حافظ . وقد يحدث عكس ذلك في فلم لعبدالحليم. أتذكر عند عرض أحد أفلام فريد الأطرش في سينما الحمراء، حدث وان قابل أحدهم موال فريد الأطرش بـ (زيك) فما كان إلا أن رأيت رجلا ضخما يندفع في الظلام وفي يده منفاخ دراجة (بامب) رفعه ليضرب به على رأس المتفرج الذي لم يبد الاحترام لفنانه المفضل صارخا في وجهه :
ـ يا كلب هل (عفطت) للأستاذ ؟
تخاذل صاحب (الزيك) قائلا :
ـ لا يا أخي أنت غلطان.
وبعد أن أقسم أنه ليس بالفاعل، انزل الرجل المنفاخ وذهب وهو يتمتم متذمرا.
السينمات الصيفية
كانت لكل دار سينما شتوية دار صيفية ملحقة بها. ولكن كانت هناك دور للسينما صيفية فقط من أقدمها سينما : ديانا التي كانت تلاصق سينما العلمين وسينما والنجوم (تحولت إلى مرأب للسيارات) وظلت شاشتها البيضاء زمنا طويلا تذكر عشاق السينما بالأفلام التي عرضت فيها في الزمن الجميل : النمرود ورصيف نمرة 5 لفريد شوقي وهدى سلطان وغيرها. كما كانت هناك سينما السندباد التي كانت تعرض أفلاما هندية وعربية ولعل من أغرب الأفلام التي عرض فيها فيلم إيراني اسمه (أبو جاسملر) شهد إقبالا منقطعا رغم تفاهة موضوعه. لكن الإقبال كان بسبب دبلجة الفيلم باللهجة العراقية التي كانت تضحك الجمهور، ومنها ما تحول إلى لازمة للمراهقين في شوارع كركوك مثل (الزم بريك لا توكع بالساكية !).
وكانت السينمات الصيفية ممتعة حقا، حيث السماء بنجومها البراقة تطل على الجالسين في هذه الدور المفتوحة على الفضاء، الذين يبحثون عن متعة روحية ونفسية ترفع الظلام عن نفوسهم، وكان أحيانا يتردد بخفوت صوت بائع البارد وهو يتجول بدلوه المملوء بقناني البيبسى والكوكا كولا بين الجمهور. وكان يرفع صوته خلال الاستراحة. أو يضرب بطرف فتاحة القناني على الدلو ليجلب انتباه الحاضرين.
أول سينما هدمت في كركوك كانت سينما غازي، كما هدمت فيما بعد سينمات الخيام التي كانت تقع في نهاية جسر الطبقجلي، في الشارع المقابل لقلعة كركوك. وهي تعود لبلدية كركوك لاسباب توسيع الشارع ومبررات غير مقبولة
ومثلما سقط كل شيء نبيل وجميل في وطننا، سقطت دور السينما من ذروتها إلى الحضيض. فقد كانت تعكس نفوسنا التواقة إلى الحب والحرية والعدل، كل ما أحببناه من قيم جمالية وإنسانية أمام العنف والغدر والخراب الذي عم العراق والان اكتب هذه الرسالة عندما تري كركوك والعراق بلا سينيما ت تاسف لحال كان احدي محطات الثقافة وتحولت كل السينمات الي محلات ومعامل نجارة ومواقف للسيارات ولم تبقي الا ذكريات علما ان الأجيال التي ولدت بعد التسعنيات لم تتعرف علي السينما وتاريخها بالمطلق مجرد احاديث تذكر او تسميات تطلق علي شوارع معينة تحمل اسم السينما شارع اطلس وشارع الحمراء والعالمين وجسر الخيام فقط الشوراع احتفظت لنا الأسماء بالذاكرة