23 ديسمبر، 2024 6:14 ص

كركوك اليوم، والسليمانية أمس، وغدا أربيل

كركوك اليوم، والسليمانية أمس، وغدا أربيل

لم يحصل إجماعٌ محلي عراقي وعربي ودولي، من قبل، على أمرٍ مثل الذي تحقق في الحكم على مسعود البارزاني بالعمى العنصري، وقلة التدبير، والنفخة الكذابة، وتحدي الأقوياء وهو لا يقف على أرض ثابتة، ولا يملك غير الوهم وغرور القوة الفارغة، تماما كما فعل قبله قادة صعاليك أصابتهم لوثة الغرور وعمى البصر والبصيرة فوضعوا أنفسهم وأسَرَهم وشعوبَهم على سنادين الكبار وتحت مطارقهم التي لا ترحم.
وإذا كانت حملة استعادة كركوك ضربة له، شخصيا، ولدولته التي كانت مستقلة، فهي طعنة نافذة للقضية الكوردية ذاتها.
فهو، بمعركة كركوك الخاسرة، لم يحقق شيئا لشعب كردستان سوى أنْ ذبح حلمه القومي بالاستقلال، من الوريد إلى الوريد، ودفنه لخمسين، أو لمئة سنة قادمة، ثم أخرج كركوك من خارطة الدولة الموؤودة، من الآن وإلى زمن آتٍ بعيد.
كما زرع في أعماق كل مواطن كوردي شعورا بالخيبة والفشل حين استفز أنقرة وطهران وبغداد ودمشق، معا، وأستخرج أقصى ما لديها من حقد مزمن ومتأصل على أية محاولة استقلالٍ كوردية، حتى قبل أن ترى النور.
وقد أضاع على الشعب الكوردي، في ساعات، ما كسبه، في سنين، من الثروة والاستقلال والأمن والأمان.
كما أنه، ومعه حاشيته المتكبرة المتجبرة، فتح على الشعب العراقي كله، بكل طوائفه وقومياته وأديانه، أبواب جهنم جديدة من الفرقة والتناحر والاقتتال، وأهدى لإيران ووكلائها العراقيين فرصةً من ذهب لاستكمال احتلال الوطن العراقي، وإلحاق ما تبقى من مدنه وقراه وثرواته وحدوده بدولة المليشيات وشبكات الخطف والاغتيال والاختلاس.
ثم أعطى خصومه الطالبانيين والإسلاميين فرصة الانتقام من البارزانيين ومن لف لفهم بالاتفاق مع إيران ووكلائها العراقيين على طرد مسعود وتنصيب واحد منهم رئيسا للإقليم، لتبدأ صراعات دموية في كردستان لا تنتهي.
وجعل العرب والأمريكان والترك الكارهين للتمدد الإيراني في العراق يقبلون بكارثة احتلال الحرس الثوري الإيراني لكركوك، خوفا من كارثة أكبر وأخطر وأكثر عنفا ودموية قد تتسبب فيها مغامرة مسعود الانفصالية.
ثم إنه نسي، أو تناسى، أن إيران تريد (مستعمرة) العراق كاملة غير منقوصة، من زاخو لحد الكويت، ولن تقبل بـ (باختلاس) أية مدينة أو قرية، كبيرة وصغيرة، قريبة وبعيدة، من أملاكها، سلما أو حربا، وعلى من يتمرد ويعاند تدور الوائر.
ولعل أكبر خطايا مسعود وأبشعَها هو اتخاذُه الحقَّ القومي الكوردي سلعة في سوق السياسة، وسلاحا أرأد به أن يلوي به ذراع غريمه حيدر العبادي، المحمي إيرانيا وأمريكيا، ووإرهاب الحشد الشعبي، وكسر أنف الولي الفقيه، ثم يخنق به إخوته (الأعداء) في السليمانية، ليفرْضَ نفسه، في النهاية، وأبناءه وأبناءَ أعمامه وأخواله، ملوكا لكردستان إلى أبد الآبدين.
كل هذا مفهوم ومعلوم، ولا يمكن لمراقب محايد إلا أن يضع الحق كله عليه فيما جرى في كركوك، وما سوف يجري في غيرها عن قريب.
ولكن لو كان الذي دخل إلى كركوك هو جيش الدولة العراقية، فقط، لإستعادة هيبة الحكومة، وإحلال الأمن والقانون، ولفض احتلال آبار النفط والمنشآت الحكومية الأخرى، لكان الأمر مقبولا، ومبررا، ولا يحق لأحد أن يعيبه، أو يعترض عليه.
ولكن الذي غزا المدينة هو الحشدُ الشعبي المُجاهر بتبعيته لقيادة الحرس الثوري ولقاسم سليماني، (مرفوقا) بجيش الدولة الذي دأب غلاة المعممين الإيرانيين على التصريح أحيانا، والتلمحيح أحيانا أخرى، بأن الحشد الشعبي هو حرسهم الثوري العراقي، وهو الأقوى والأهم من كل رئيس ووزير وقاضٍ وسفير في العراق، وهو القائد الحقيقي لجيش الحكومة وشرطتها وقوى أمنها، دون منازع.
أما وحدة التراب العراقي، وأما حرمة الدستور، وأما سلطة القانون فـ (كلٌ عن المعنى الصحيح مُحرَّفُ).
نعم، إن رفع العلم الكوردي على دوائر الحكومة في كركوك كان فعلا تمرديا عنصريا غبيا، لم يكن له معنى ولا مبرر. ولكن إقدام المليشيات الملحقة بالحشد الشعبي على اقتحام المدينة، وقيام مجنديها، بحضور قادتها الكبار، بإنزال العلم الكردي، بالغوغائية التي شاهدناها على شاشات التلفزيون ووسائل التواصل الاجتماعي، وبالرقص فوقه بالبنادق والرشاشات، ورفع الرايات الطائفية مكانه، إهانة لملايين المواطنين الكرد العراقيين الذين يعتبرونه رمزهم المقدس، وحماقة، ومهزلة يتحمل جريرتها رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة وقادة الجيش الوطني، دون ريب.