يشكل استفتاء إقليم كردستان ومعركة السيطرة على دير الزور السورية الحلقات النهائية في الصراع الدائر بين المحاور الدولية (والذي تتزعمه كلاً من الولايات المتحدة والاتحاد الروسي) التي تتنافس فيه على تقسيم مناطق النفوذ في الشرق الأوسط. فهنالك خلل في توازن القوى الإقليمي، بين كل من إيران وتركيا وإسرائيل، دفع كل من امريكا وروسيا أن تتدخلا بصورة مباشرة في الحرب السورية. وفي صراع النفوذ هذا، فإن تركيا تمثل بيضة القبان – كما يقال، في هذه المعادلة، فإنحيازها الى أي من الطرفين يخل بميزان القوى بين المحاور، فهي الدولة العضوة في حلف شمال الأطلسي (الناتو) ولكنها متعاونة مع المحور الروسي ومشارك أساس في الصراع السوري. هذا ما يجعل الصراع الإقليمي في هذه المنطقة التاريخية لحوض الرافدين وبلاد الشام بصورة محتدمة بين ايران وإسرائيل على وجه التحديد. ومع أن التدخل الإسرائيلي يكاد يكون بصورة غير مباشرة من خلال الدعم اللوجستي لبعض قوى المعارضة السورية، ولكن التدخل الأمريكي المباشر في الصراع في سوريا هو الذي يكمل المعادلة لصالح اسرائيل.
من مظاهر الصراع الاقليمي هذا هو أن تكون منطقة بلاد الشام (وتشمل ساحل البحر المتوسط الشرقي والمناطق المترتبطة بها) تحت تأثير وسيطرة اسرائيل بدون منازع، فهي منطقة نفوذها، وهي عمقها الستراتيجي العسكري والثقافي (فتاريخ بني اسرائيل والديانة اليهودية يكاد يكون جله في الشام)، وبالتالي يتحتم على إسرائيل بأن تجعل بلاد الشام عمقها الستراتيجي السياسي أيضاً. ولهذا عملت جاهدةً على تغيير النظام السوري أو على الأقل تغيير بوصلته لكي تصب نحو هدف نفوذها الستراتيجي المنشود. ولكن المعضلة هنا هو تواجد قوى المقاومة في لبنان وفلسطين (وبصورة خاصة حزب الله) الواقعة تحت التأثير الايراني. إن الصراع في سوريا ودخول حزب الله في خضم الحرب الأهلية هناك جعل منه ليس حركة مليشيا مقاومة في لبنان فحسب، بل أصبح جيشاً بخبرة قتالية عالية ومشارك رئيسي في العمليات العسكرية النظامية وغير النظامية (حرب العصابات والمدن) في المسرح السوري. هذا إذا ما أضفنا تدخل المليشيات الشيعية من العراق وإفغانستان وباكستان تحت قيادة حزب الله والحرس الثوري الإيراني في الحرب السورية، فالحصيلة هو إن هذه المجموعات العسكرية مجتمعة أصبحت تشكل قوة جيش منظم تحت إمرة ونفوذ ايران بصورة مباشرة.
في الوقت نفسه، فإن الصراع العسكري في العراق ضد تنظيم الدولة (داعش) أبرز قوتين عسكريتين لا يستهان بها تحسب في النظام الدولي بأنهما خارجة عن نطاق الدولة، وهما البيشمركة والحشد الشعبي. الأولى هو إن قوات البيشمركة، بعد أن كانت منذ عام 2003 تشكل قوات حرس حدود رتيبة لحفظ كيان إقليم كردستان، إلا أن خوض البيشمركة المعارك ضد قوات دولة داعش جعلت منها قوة عسكرية نظامية حصلت على الدعم العسكري الدولي وأصبح ذا خبرة قتالية عالية يشكل بمثابة جيش نظامي لإقليم كردستان. في الجانب المقابل هو أن مشاركة الحشد الشعبي في العمليات العسكرية المباشرة في العراق جعل منه بمثابة جيش موازي يماثل الحرس الثوري الإيراني، كما أن الولاء العقائدي له، بالإضافة الى أن تسليحه، بوصلته ايران، فجعل هنالك توازن قوى عسكرية في داخل الدولة في العراق تابعة لمحاور دولية متصارعة في الشرق الأوسط.
من هذا كان لا بد من تحجيم أو ازالة النفوذ الإيراني الذي تضخم تأثيره في مناطق نفوذ اسرائيل. فكان بإمكان اسرائيل مثلاً الحد من تأثير حزب الله في داخل لبنان بتوريطه وتكبيله في الدخول في معترك العملية السياسية المعقدة هناك، ولكن تحول هذا الحزب الى لاعب إقليمي- دولي أصبح يشكل تحد استراتيجي مصيري لنفوذ اسرائيل في المنطقة. هذا ما جعل من معركة السيطرة على دير الزور من أهم المعارك المصيرية في الحرب الأهلية السورية. فما تشكله دير زور من منطقة تواصل مع العمق الجغرافي في العراق وإمتداداته الى ايران، فإن سيطرة قوات الجيش السوري وحزب الله على تلك المنطقة يشكل حلقة امتداد لسيطرة ايران ووصول نفوذها المباشر الى بلاد الشام وإطلالتها على البحر المتوسط عبر سوريا ولبنان. ولهذا يمكن تفسير إعادة رسم الاولوية العسكرية للقوات الخاصة الامريكية في السيطرة على مناطق دير الزور وعلى مناطق الحدودية بين سوريا والعراق بدلاً من السيطرة على الرقة. وهنا يمكن تفسير التصميم الامريكي في فرض سيطرتها على منطقة الحدود السورية الشرقية ومجازفتها حتى في ضرب مواقع الجيش السوري والسيطرة على قاعدة التنف المطلة على الحدود السورية العراقية الإردنية قبل أشهر. هذا الإندفاع العسكري الامريكي للسيطرة على شرق سوريا قد أودى بمقتل الجنرال الروسي قبل اسبوع أو حتى المخاطرة بقتل مجموعات عسكرية لحزب الله كما حدث قبل أيام. فالمسألة بالنسبة للمحور الامريكي-الاسرائيلي هو الإسراع في بناء هذا الجدار العازل بين ايران وبلاد الشام قبل فوات الأوان.
إن دعم الولايات المتحدة لقوات سوريا الديمقراطية الكردية (قسد) على حساب تركيا هو من أجل حجب التدخل التركي في مناطق النفوذ الاسرائيلية في بلاد الشام. ويتضح من هذا بأن الولايات المتحدة واسرائيل لا تأمن من توجهات القيادة التركية وخاصة من خلال تعاونها مع المحور الروسي-الايراني ومشاركتها الفاعلة في المفاوضات لإنهاء النزاع السوري.
يمكننا هنا أيضاً تفسير مسألة استقلال اقليم كردستان ضمن نظرية توازن القوى الدولية، فهو سيشكل جزءً من هذا الجدار العازل بين ايران وبلاد الشام. فالكيان الكردي في كل من العراق والشام يبدو على أنه يمثل حلقة ضمن الخطة الاستراتيجية الامريكية لتوزيع مناطق النفوذ بين ايران واسرائيل في قلب الشرق الأوسط. وقد يترتب على هذا إن استمر الصراع في المستقبل القريب نقطة عدم السيطرة الى استعمال ورقة إنسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق الاستراتيجي النووي الدولي بين ايران والدول الست الكبرى، أو قد يتطلب الأمر الى توجيه ضربة قاصمة الى حزب الله في لبنان، لأن تجاوز حده وأصبح يشكل الذراع الكبرى للوجود الايراني في المنطقة، وهذا يشكل تهديداً وجودياً لإسرائيل. ومن هنا نفهم مغزى الخطاب الناري التعبوي الذي وجهه امين عام حزب الله، حسن نصر الله، الى جماهيره في ذكرى يوم عاشوراء الذي صرح فيه الى قرب ساعة الحسم بين اسرائيل والحزب، وأشار في تهديده بأن أي مواجهة عسكرية سوف تكون مصيرية ولن يكون بمخيلة أحد توقع عواقبها على مصير المنطقة بكاملها.
هذا التحليل يمكن أن يعطينا تفسيرا مختلفاً لسير الأحداث في الساحة الاقليمية بدون اللجوء الى فرضية المؤامرة. فهنالك صراع على النفوذ بين القوى الاقليمية المتصارعة في الشرق الأوسط (وبالتحديد بين ايران واسرائيل) وهنالك دور للقوى الكبرى في السيطرة على الأوضاع وإعادة التوازن بينها بما يخدم مصالحها.