23 ديسمبر، 2024 8:42 م

كربلاء وجمالية الموت

كربلاء وجمالية الموت

الموت حقيقة غارقة في اعماقنا وهي الحقيقة الاكثر يقينا ، فانها اكثر يقينا من الحياة نفسها لاننا لا نعي  بدايات الحياة التي تضيع في ادراج طفولة قد رفع الله تعالى فيها عنا التكليف ، ولكننا نعي تمام بدايات الموت ، بل نحن مكلفون منه تعالى بان يكون الموت احسن عواقبنا ، فنحن عندما نولد لا نرفع اذانا ولا اقامة للصلاة ، ولكننا في لحظات الموت مطالبون بالتشهد ، وحياتنا لم تسبقها اسئلة ، اما موتنا فمسبوق بالاف الاسئلة ، سواء عند المؤمنين الذي يرونه انتقال من حياة الفوها التي اخرى لم يالفوها او عند غير المؤمنين الذي يقرون انه انتقال ، ولا يستطيعون ان يجزموا انه من الوجود الى العدم ، فهكذا انتقال مستحيل ، ولكنهم يقرون انه انتقال من وجود الفوه الى المجهول ، ولكن لا احد ، من المؤمنين ومن غيرهم ، ينكر حقيقة ان لا مفر من الموت ، تلك الحقيقة التي جلاها قوله تعالى { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ }
   فالموت هو وجه للوجود الذي تمثل الحياة وجهه الاخر ، فهو معادل الحياة الوجودي ، وكلاهما ، اي الموت والحياة ، من تفاصيل الوجود التي لا نلاحظها حسا على صعيد الحياة الانسانية ، وان كانت ملاحظتها معنى من آكد الامور ، وتلاحظ حسا على مستوى الحيوات الاخرى وخصوصا الحياة النباتية ، فدور البذرة والثمرة يؤكد الانتقال المستمر بين الوجودين الموت والحياة ، وهو يمكن ان يقاربه دور التناسل في الانسان ، ولكن مسؤولية الانسان الشخصية عما يفعله يجعل التناسل مغايرا لدور البذار والثمار وان قاربه في وجه من الوجوه كما يقول المناطقة .
   ونحن عندما تاخذنا لجج الحياة لا توقظنا الا جمالية الموت ، وادل شئ على ذلك ما يصدر عنا من مرثيات ، قد تبلغ مرهفات حسنا وهي تلامس الموت بشعور جارف من الاعتزاز ، شعور تتصاغر امامه كل مشاعر الحياة ، ففي رثاء محمد بن حميد الطوسي الطائي ، يقول ابو تمام:
فتًى مات بين الضرب والطعن ميتةً … تقوم مقام النصر إذ فاته النصر
وقد كان فوت الموت سهلاً فرده … عليه الحفاظ المر والخلق الوعر
فأثبت في مستنقع الموت رجله … وقال لها من تحت أخمصك الحشر
تردى ثياب الموت حمراً فما أتى … لها الليل إلا وهي من سندسٍ خضر
   فان ابا تمام قد اعطى الموت معنى الانتصار ، والبقاء الاجمل ، وجعله الخطوة الاولى نحو الحشر ، اما ثيابه الحمر المضرجة بالدم فتصورها تخضر سندسا ، في اشارة الى لباس اهل الجنة ، في قوله تعالى (عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ ) ، ولكن حقيقة الموت ، كما يقول فريد بن الحسن الأنصاري في كتابه جمالية الدين ، ستبقى اللغز العجيب في حياة البشر ، لانها حقيقة ذوقية لا تدرك ماهيتها إلا بتجربتها ، وذوقية هذه الحقيقة يؤكدها قوله تعالى ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ) وهي حقيقة تنقل صاحبها الى من دائرة الغفلة الى دائرة الانتبياه ( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ).
   وعليه فان للموت وجهين ، وجه جميل لا يمكن ان يرى الا في الميتات العملاقة ، هذا الوجه ماثل امام صاحب التجربة ، وهو في الوقت نفسه موصل بعض تجلياته الى الاخرين خاصة اولئك الذين يقاربون شعور الميت الجميل بشعور المفجوع الذي يجعلهم يلمحون بعض تجليات ذلك الشعور الجميل ، الذي لا يرى في الموت ، كما يرى الانصاري ، سوى باب دخول إلى وعد الله الكريم لا خوف فيه على من آمن بالله ثم استقام يعتمر فيه عمقه الرجاء من ذلك الوعد الكريم الذي نجده في قوله تعالى (إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ ألاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ. نَحْنُ أوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ. وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ. نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ).
   ولكن الموت كاي حدث وجودي يجمل ويقبح بالقرائن ، فليس كل موت جميل ، فثمة ميتات قبيحة ، كفانا الله شرها ، كميتة الجبان ، التي صورت في امثال العرب بالمثل الشهير ( انَّ الجبَانَ حَتْفُهُ مِنْ فَوْقِهِ ) الذي نظمه عمرو بن امامة في قوله 
لَقَدْ حَسَوْتُ الموتَ قبل ذَوْقِهِ
انَّ الجبانَ حَتْفُه مِنْ فَوْقِـهِ
في اشارة الى ان الحَتْفَ الى الجَبَان اسرعُ منه الى الشجاع ، لانه ياتيه من حيث لا مَدْفَع له‏‏ لان التحرُّزَ مما ينزل من السماء غير ممكن، وللامام علي عليه السلام حكمة تميز بين الموت الجميل والقبيح يقول فيها ( فالموت في حياتكم مقهورين ، والحياة في موتكم قاهرين ) وللمنفلوطي كلمة جميلة في هذا السياق يقول فيها موت الجبان في حياته، وحياة الشجاع في موته، فموتوا لتعيشوا، فوا الله ما عاش ذليل، ولامات كريم. وهناك ميتات قبيحة اخر كموت الظالم والمعتدي ، وعليه فالموت الجميل يحاط بقرائن تبرز جماله ، وهناك الكثير من شواهد الموت الجميل في التاريخ الاسلامي والعربي والعالمي ، ولكن ليس ثمة موت اجمل من موت الحسين عليه السلام ، فهو موت قد رسمت فيه اجمل الصور ، فرغم الاحساس بمرارة الفاجعة في كربلاء الا ان هناك شئيا جميلا يلوح خلف كل تلك الالام التي انطوت عليها واقعة كربلاء ، وان اكثر الحزن المستثار بمجريات وقائع كربلاء هو بسبب جمال هذا الموت الذي يتمناه كل انسان ، ولكنه لم ولن يتجلى الا في كربلاء ، وفي شخص الحسين عليه السلام ، فبدون شك ان في كل شهيد من شهداء الطف ، سواء اكان من اهل بيت الحسين عليه السلام او من اصحابه ملمحا من جماليات الموت ، قد يطغى كما هو عند عابس الذي وجد في الموت اجمل تعابير الحب للحسين عليه السلام والنهج الذي سار عليه ، فتحول الموت عنده الى لذة غامرة تتداخل فيها الشهادة والغيب عند لحظة الولادة الحقيقية ، التي تختزل كل الولادات ، والبداية الحقيقية التي تختزل كل البديات ، فتحيل ما قبلها الى ما يشبه اضغاث الاحلام التي تتلاشى امام رؤية تاتي جلية كفلق الصبح ، ولكن تمام ملامح ذلك الموت الجميل واكتمالها كان في موت الحسين عليه السلام ، وهذا لا يعني انني اذهب الى ان الموت الجميل هو شعور باللذة ، بدون شك ان هناك الاما يوجهها الميت فالسيوف التي تقطع الاوصال والرماح التي تطعنها والنبال التي تنبت فيها تحدث الما يقابله شعور الامل بالوصول ، فالحال تشبه من يقطع طريقا الى الهدف ، لا يخفف عنه الم التعب سوى لذة الاقتراب من الهدف ، فانفاسه التي تتقطع واضلاعه التي تنطبق على صدره تشعره بوجع ، لا يذهب بهذا الوجع سوى ملامح الهدف التي تتجلى شيئا فشيئا وكانها في تجليها تمنحه القدرة على تجاوز الشعور بالالم ، بل قد تصل به الى شعور يتحول فيه الالم الى لذة ، اي انها تهوّن عليه الم الموت الذي ينتابه ، ولا اجد تعبيرا افصح ولا اجمل في ابلاغ هذه الحقيقة سوى قول الحسين عليه السلام يوم احدق به الموت من كل جانب في ظبات السيوف واسنة الرماح وفي النبل والحجارة التي تنهال عليه ، قوله عليه السلام : هوّن علي ما نزل بي انه في عين الله ، وهذا الشعور الذي يهوّن الموت قد نجده اكثر وضوحا في مقاربته عليه السلام لحقيقة الموت الذي هو قادم اليه في جوابه لاحد اوباش عمر بن سعد الذي قال له عندما استسقى الماء والله لا تذوق الماء حتى ترد الحامية فتشرب من حميمها فقال عليه السلام أنا أرد الحامية فاشرب من حميمها لا والله بل أرد على جدي رسول الله صلى‏الله‏عليه ‏وآله فاسكن معه في داره في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، فالبوابة اليقينية لسكنه عليه السلام مع جده رسول الله هو الموت الذي ينتظره شهادة ، هنا يصبح الموت الذي هو وسيلة غاية بذاتها عندما يتجلى الهدف للحسين عليه السلام هو دار جده في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، وهنا تتجلى حقيقة كربلاء كملحمة تخبر عن نموذج إنساني يُحتذى به, جلى وجها جميلا للموت لا يمكن ان يتجلى الا على يده