22 أغسطس، 2025 10:12 ص

كربلاء والزيارة الأربعينية: من الفوضى العارمة إلى غياب الرؤية الاستراتيجية

كربلاء والزيارة الأربعينية: من الفوضى العارمة إلى غياب الرؤية الاستراتيجية

# مقدمة
تُعَدّ الزيارة الأربعينية في كربلاء واحدة من أكبر التجمعات البشرية الدينية في العالم، حيث يقصدها ملايين الزائرين من داخل العراق وخارجه سنوياً لإحياء ذكرى الإمام الحسين (عليه السلام)… ؛ ورغم هذه الأهمية الاستثنائية، فإن المدن العراقية المقدسة ما تزال تعاني من غياب الرؤية العمرانية، وسوء الإدارة الخدمية، وفوضى التنظيم، وهو ما يجعلها عرضة للفوضى المرورية والبيئية والصحية كل عام… ؛ اذ تُغَطَّى المدن المقدسة بسحب الغبار، وتُختنق طرقاتها المتآكلة بسياراتٍ عاجزة، وتُحاصر أزقتها الضيقة بموجاتٍ بشريةٍ تعيق التنفس .

فمنذ أكثر من عقدين والحكومات العراقية المتعاقبة تعلن ـ في كل عام ـ نجاح خططها الخاصة بالزيارة الأربعينية وكأنها تحقق إنجازاً عظيماً ، بينما يشهد الواقع الميداني مشاهد الفوضى والارتباك، وتتناقل الكاميرات صور الأتربة المتطايرة، والشوارع المتهالكة، والسيارات المتكدسة، والأنفاس المختنقة بين جموع الزائرين… .

نجاحٌ في التصريحات وفشلٌ ذريع في التنفيذ، حتى بات العراقيون يتندرون على بيانات “النجاح” أكثر مما يصدّقونها…!!

# إمكانات هائلة.. وإنجازات معدومة

ورغم الموارد المالية الانفجارية التي دخلت العراق خلال العقدين الماضيين، ورغم أموال الأوقاف والعتبات والخُمس والتي تُقدَّر بالمليارات، لم تشهد كربلاء أو النجف أو الكاظمية أو سامراء نهضة عمرانية وتنموية تليق بمقامها الديني وأهميتها الاستراتيجية…؛ بينما نجد أن تلك الأموال تُنفق غالباً على مشاريع تجميلية أو إنشائية محدودة الأثر، تبقى الحاجة قائمة إلى رؤية استراتيجية كبرى … .

# مقارنة موجعة مع تجارب إقليمية

في المقابل، نجحت دول أخرى مثل السعودية في إدارة الحج والعمرة عبر خطط متكاملة بفضل البنى التحتية العملاقة في مكة المكرمة والمدينة المنورة … ؛ اذ قامت باستثمارات بمليارات الدولارات لتوسعة الحرمين… ؛ أنفاق واسعة وكراجات متعددة الطوابق… ؛ ومنظومات قطارات حديثة لتقليل الازدحام… ؛ وشبكة متطورة من الخدمات الصحية والمائية وغيرهما … ؛ وكذلك نجحت إيران في إعادة تصميم مدينة مشهد لتستوعب ملايين الزوار بطرق حديثة، وقامت بإخلاء المناطق المحيطة بالمراقد الدينية في قم المقدسة ومشهد المقدسة من الأبنية التجارية والسكنية غير الضرورية… ؛ فضلا عن احاطة تلك المدن بمشاريع خضراء وحدائق واسعة تقلل من التلوث البيئي… الأمر الذي يفرض مقارنة جادة تكشف أوجه القصور في الحالة العراقية، وتطرح حلولاً مستقبلية ممكنة.

نعم مقارنة بهذه التجارب، تبدو كربلاء متأخرة بشكل مؤلم، رغم الإمكانات المالية والبشرية الهائلة المتوفرة للعراق ؛ لأنها تعيش بلا رؤية عمرانية أو مخطط حضري شامل…!!

فهل كان عسيراً على الحكومات العراقية والمرجعيات والمؤسسات الدينية إعادة إعمار كربلاء المقدسة، ولو بمشروع متكامل يشمل 40 كيلومتراً مربعاً حول المراقد، يوفّر بنى تحتية ومرافق عصرية تليق بالزيارة؟

أيُعقل أن يكون تطوير مساحة أربعين كيلومتراً مربعاً حول المراقد المقدسة أمراً مستحيلاً؟

ألم يكن بالإمكان أن تتعاون الحكومات العراقية مع المرجعيات والمؤسسات الدينية والوقف الشيعي لإعادة تصميم كربلاء كما حدث في مكة والمدينة المنورة، أو على الأقل كما جرى في مدينة مشهد الإيرانية؟

إذ يمكن، على سبيل المثال، إعادة إعمار مساحة لا تتجاوز عشرة كيلومترات مربعة من الجهات الأربع المحيطة بالمراقد، بما يساوي أربعين كيلومتراً مربعاً، لتتحول إلى مجمع عمراني متكامل … .

#المدن المقدسة بين الموازنات الانفجارية والانهيار العمراني والبيئي والحضري والخدمي

لقد كان بالإمكان بناء أنفاق طويلة، وكراجات واسعة، ومهابط للطائرات المروحية، وحدائق عامة ومتنزهات خضراء تساعد على تنقية الجو من الغبار والتلوث… ؛ كما كان من الممكن تشييد شوارع حديثة مرصوفة بالحجر والمرمر, وانشاء ساحات كبيرة ومليئة بالمقاعد والمضلات و وسائل الترفيه والخدمات الضرورية ، وبناء وحدات سكنية صغيرة أشبه بخانات المسافرين القديمة لإيواء الزائرين العراقيين … ؛ إضافة إلى مرافق صحية كبرى وشبكة متكاملة للمجاري والمياه والكهرباء مخصصة لهذه المنطقة الدينية المقدسة فقط … ؛ مع إخلاء المنطقة من الأبنية التجارية والفنادق العشوائية والبيوت السكنية … ؛ لكن شيئاً من هذا لم يتحقق، بل بقيت المراقد محاصرة بالمطاعم والمولدات ومصادر التلوث، بدلاً من أن تحاط بالمساحات الخضراء ونافورات المياه والفضاءات المفتوحة .

ففي كل زيارة دينية ، تتكرر مشاهد المعاناة نفسها في كربلاء: شوارع متهالكة, وخدمات غائبة ، وأزقة مكتظة بالسيارات، و تلوث بيئي نتيجة الأتربة والمولدات ومطابخ المطاعم التي تبعث الأدخنة وثاني اوكسيد الكربون … ؛ فضلا عن انسداد في حركة الزائرين… ؛ ورغم الإعلان المتكرر عن “نجاح الخطط الحكومية”، فإن الواقع يكشف عكس ذلك تماماً… ؛ فالمراقد الدينية محاصرة بالبيوت والأسواق والفنادق التجارية… ؛ والمولدات الكهربائية التي تنفث السموم والحرارة كما اسلفنا … ؛ فتحولت القداسة إلى اختناق، والزيارة إلى معاناة… ؛ فضلا عن انعدام شبكات صرف صحي متكاملة وحديثة و عدم قدرة المرافق الصحية العامة على استيعاب الملايين. … ؛ وغياب مشاريع كبرى للطرق أو الأنفاق أو الكراجات أو الجسور والمجسرات … ؛ هذه الصورة تعكس غياب مشروع عمراني شامل يعيد تصميم كربلاء على أسس حديثة ومتطورة – ولو لمساحة 40 كم² تحيط بالمرقدين، بما يضمن تنظيم حركة الزوار ويحول دون الاختناق المروري – ؛ لا يليق بمكانة العتبات المقدسة ولا بحجم الملايين الذين يقصدونها من شتى بقاع الأرض … .

#المجتمع العراقي والقواعد الجماهيرية كبديل عن الدولة والمؤسسة الدينية

المفارقة أن ما يحفظ للزيارة حياتها واستمرارها ليس جهود الدولة ولا ما تبذله المؤسسات الدينية، بل كرم وبسالة ونبل العراقيين البسطاء من أبناء الجنوب والوسط الذين يقدّمون الطعام والشراب والمبيت والنقل بلا مقابل، في حين أن أكثر المناطق انتفاعاً مالياً من العتبات هي أقلها كرماً وخدمة في هذه المناسبات الدينية … ؛ حتى وصل الحال أن بعض أصحاب المحلات في كربلاء أو النجف يبيعون الماء للزائر العراقي نفسه … ؛ وهذا يكشف فراغ الدولة والمؤسسات الدينية وتقاعسها عن أداء واجباتها… ؛ نعم أن أكثر من يستفيد مادياً من الزيارة (الفنادق والمحال التجارية في كربلاء والنجف) والاموال الدينية هم الأقل مساهمة في تقديم الخدمات المجانية للزوار كما اسلفنا !

ان سوء الإدارة لا ينعكس فقط على معاناة الزوار، بل أيضاً على صورة العراق الدولية… ؛ إذ تُسجَّل حالات اختناق مروري، وانتشار نفايات، وغياب مرافق صحية حديثة، ما يحوّل أقدس المناسبات إلى تجربة مرهقة.

نعم من أبرز السمات المميزة للزيارة الأربعينية هو الدور الطاغي للمجتمع الأهلي العراقي، خصوصاً من أبناء الجنوب، الذين يحوّلون المناسبة إلى ملحمة كرم وإيثار قل نظيره في العالم بل والتاريخ القديم والمعاصر …, ولولا جهود أبناء الجنوب والوسط العراقي، لما استطاعت الحكومات والمؤسسات الدينية إدارة ربع هذا العدد الهائل من الزائرين ؛ لكن هذا الجهد الشعبي على عظمته، لا يمكن أن يكون بديلاً عن التخطيط الحكومي والمؤسساتي والدور الديني المفروض ، ولا عن البنى التحتية اللازمة لإدارة ملايين البشر.

# المشاهد المؤلمة في الزيارة الأخيرة

ورغم درجات الحرارة العالية، لم تبادر الحكومة ولا المؤسسات الدينية إلى توفير طرق مظللة مزوّدة بالمبردات أو مرشات المياه لتخفيف معاناة المشاة والزوار… ؛ كما ان النفايات تراكمت وشوّهت جمالية المكان، والمرافق الصحية لم تكن بالمستوى المطلوب … .

*غياب التخطيط المروري والإداري

تتجسد الفوضى بأوضح صورها في الإدارة المرورية … ؛ فقد قامت مديرية المرور بنصب سيطرات متكررة على طول طرق الذهاب والإياب من كربلاء، مما سبب طوابير ممتدة لعدة كيلومترات، بحجة “تنظيم السرعة والسلامة”… ؛ والنتيجة: اختناقات خانقة وحوادث متزايدة.

ولم تتورع الشرطة عن فرض غرامات باهظة على سيارات اضطر أصحابها لإيقافها قرب الأرصفة بسبب انعدام الكراجات ومحدودية الدخول إلى المنطقة القريبة من المراقد المقدسة … , أو منع دخولها إلى محيط المراقد إلا بتخويلات خاصة ؛ فقد تحولت إلى وسيلة “خدمة” جديدة للزوار على الطريقة العراقية: الدولة تجبي، والمواطن يعاني … !

الأغرب أن بعض السائقين، حين حاولوا الرجوع إلى بغداد هرباً من الازدحام، مُنعوا وأُجبروا على البقاء في الطوابير تحت لهيب الشمس، في مشهد لا تفسير له إلا العبث الإداري… ؛ فإن كان الهدف التخفيف عن كربلاء، فالأجدر السماح لمن يريد العودة أن يرجع… ؛ وإن كان الهدف أمنياً، فإن السيارات الخارجة لا تشكّل خطراً… ؛ إجراءات غريبة تكشف غياب أي رؤية إدارية واضحة… ؛ فهل يُعقل أن يُترك تنظيم واحدة من أضخم التجمعات البشرية في العالم لعشوائية القرارات الارتجالية؟

وعلى الرغم من هذا الواقع المأساوي، تخرج الوزارات لتعلن نجاح خططها “المتكاملة”، وكأنها تسخر من معاناة الناس… ؛ ولعل أصدق تعليق هو ما قاله المستشار الفني لرئيس الوزراء، محمد صاحب الدراجي: “شبعنا من بيانات نجاح الخطة الفلانية والعلانية للزيارة الأربعينية، بس نجاح خطة التفويج العكسي ما تنبلع”… ؛ “يجب الاستعانة بشركات عالمية متخصصة لإدارة الزحام ونبطل شغلة: إحنا نفتهم بكلشي”.

إنها شهادة رسمية على فشل إداري متكرر، وإدانة واضحة لعقلية “الاكتفاء بالبيانات” دون مشروع عمراني وخدمي حقيقي… ؛ فخدمة الزائرين لا تقل قداسة عن خدمة المراقد نفسها، وإذا لم يُعاد تصميم المدن المقدسة وفق رؤية حضارية متكاملة، ستظل الزيارة الأربعينية موسماً للفوضى والمعاناة، بدل أن تكون تجربة روحانية تليق بذكرى الحسين (ع)… ؛ نعم هذه الصعوبات جعلت من هذه المناسبة الروحية العظيمة تجربة شاقة للزائرين، بدل أن تكون محطة للسكينة والطمأنينة والانسيابية والراحة .

# الحلول المقترحة

*إعادة إعمار شاملة لمساحة 40 كم² حول المراقد، مع إخلاء الأبنية التجارية والسكنية العشوائية.

*الاستعانة بشركات عالمية متخصصة في إدارة الحشود الكبرى (كما في الحج).

*تأسيس شبكات حديثة للمجاري والمياه والكهرباء مخصصة للمنطقة.

*مشاريع تنموية كبرى: أنفاق، قطارات خفيفة ومترو ، كراجات متعددة الطوابق , جسور ومجسرات .

*إنشاء مرافق صحية ضخمة ومراكز إسعاف فورية متنقلة.

*تخصيص مساحات خضراء ومتنزهات تحيط بالمرقدين لتقليل التلوث.

*اخلاء المناطق القريبة من كافة المظاهر السكنية والصناعية والتجارية والحاقها بالمراقد كأيونات وصحون تابعة للحرم .

# ختاماً: حان وقت التغيير

إن استمرار الفوضى في إدارة الزيارة الأربعينية لا يمكن أن يُبرَّر بشعارات “النجاح الحكومي” السنوية، بل يكشف غياب رؤية استراتيجية متكاملة… ؛ وإذا لم تُعَد صياغة كربلاء والنجف والكاظمية وسامراء وفق أسس حديثة، فإن هذه المدن ستبقى عاجزة عن استيعاب ملايين الزوار، وسيفقد العراق فرصة أن يكون مركزاً حضارياً ودينياً عالمياً.

إن الزيارة الأربعينية، بما تحمله من رمزية دينية وروحية وحضارية، تستحق أن تُدار بعقلية مؤسساتية حديثة، تستلهم التجارب العالمية في إدارة الحشود، لا أن تبقى رهينة الفوضى وغياب التخطيط… ؛ فما يُقدم اليوم ليس إلا اجتهاداً شعبياً يملأ فراغاً حكومياً، بينما كان يفترض أن تكون كربلاء المقدسة مدينة عالمية بمقاييس مكة المكرمة والمدينة المنورة ومشهد المقدسة ، لا مدينة تختنق بالغبار والمولدات والازدحام.

كربلاء المقدسة تستحق أفضل الخدمات وأرقى التصاميم … ؛ حان الوقت لوقف الهدر والفساد، والبدء بمشاريع تنموية حقيقية تليق بمقام الأئمة (ع) وتُسهّل زيارة ملايين المحبين والزائرين فهل من مُستجيب؟