23 ديسمبر، 2024 1:09 م

كربلاء واقعة أعادت صياغة الحياة 

كربلاء واقعة أعادت صياغة الحياة 

إن هدوء الحياة وتناسق حركتها لا يمكن أن يكون جميلا على الدوام، فالوقائع التي تجري برتابة مثل نهر بين ضفتي الحياة، لا يمكن ان تكون هي مظهر الحياة الوحيد ووجها الذي لا يتغير، فبين الحين والاخر يضطرب النهر وتفيض الضفتان، عندما تأتي موجة تكسر تلك الرتابة المملة، لتعيد صياغة النهر والضفتين معا، موجة تمنح الحياة لحظات جديدة تفيض جمالا، تستفز في البشر مواطن الامتاع، الذي يبدا متدفقا مثل الشلال، الا انه يضمحل شيئا فشيئا ليتلاشى، فتعود تلك الرتابة، لم تكن هذه الموجة التي كسرت رتابة الايقاع سوى واقعة ذات شأن عظيم، تركت آثارها على الحياة، فحركتها خارج الملل حينا من الدهر، فالذي يصنع الحياة ليس تلك الرتابة، وانما ذلك الموج الذي يكسرها، ليطلق الحياة جميلة بايقاعها الجديد، ولكن ثمة قمم تفتح آفاق الحياة على المطلق، فتطلق المكان خارج حيزه والزمان خارج سياقات حركته، فبين واقعة ذات شأن عظيم واخرى، ثمة وقائع جسام تأتي مثل الاعصار تغير وجه الحياة، لترسم نهرا جديد وضفتين جديدتين، اي تعيد صياغة الحركة، عندما ترسم مكانا جديد، وتطلق زمنا جديدا، فواقعة كهذه تعيد صياغة الحياة.
   كربلاء من الوقائع التي اعادت صياغة الحياة، كانت اعصارا محا ما قبله واثبت ما بعده، فما قبل كربلاء ليس كما بعدها، حتى الحسين [ع] نفسه قبل كربلاء كان اماما يعيش في المدينة المنورة، الا انه بعد كربلاء صار رمزا يعيش في كل مكان، ان الذين احبوا الحسين وكانوا معه سيكون معهم في ديارهم، وفي ازقة المدن التي يرتادونها وشوارعها وساحاتها المزدحمة بالسواح واللاهين، يجدون انفسهم محملين بالام الحسين، يستيقظون صباح يوم عاشوراء ممتلاين بالحزن ورغبة جامحة بالبكاء، انه يوم لا يشبه الايام، يوم ذو ملامح فارقة عن كل ايام السنة، يفجر فيهم ينابيع حزن ازلي، تخبو في ذلك اليوم كل رغباتهم الا الرغبة في البكاء فانها تجمح، الوان المدن شاحبة وساحاتها مكتئبة وشورعها مقفرة، لا شيء فيها يستفز الرغبة بالتطواف، ينسحبون الى ذواتهم ينغلقون على انفسهم، كأنهم يستعيدون صوت المرحوم عبد الزهرة الكعبي مفجوعا، يسرد جلوس شمر على صدر الحسين يحتز رأسة، ليجهشوا في بكاء طويل لا يقطعه سوى تحديق المارة وسؤال احدهم ان كان احد يحتاج الى مساعدة
   الحسين ذكرى لم تخبو في الاعماق، الا انها تستيقظ يوم عاشوراء، مثل الاعصار تجرفنا الى الزمن السحيق، نجد انفسنا مع آدم يوم استغفر الله فتاب عليه، لم يقترف آدم جرما ولم يسفك دما ولم ينتهك حرمة، انه اخطأ في اختيار الشجرة عندما دهمه الجوع، ولانه نبي كان عليه الا يخطيء في الاختيار، لقد دفع الثمن باهظا، الثمن هو ان ابناءه هم من قتل الحسين، بالتحديد وبتعبير ادق بعضهم، فان كثيرين من ابنائه لم يقتلوا الحسين، بل انهم مفجوعون بمقتله، يزورونه ويبكيون لمصابه، يلعنون قتلته صباح مساء، اما بالنسبة الى اعدائه لم يكن الحسين قبل استشهاده سوى فارس، يطردهم ويطردونه في ساحة القتال، مقاتل يفاوضهم ويفاوضونه، يختلفون معه او يتفقون، الا انه بعد كربلاء صار كابوسا يقض مضاجعهم، يطاردهم في ظلمات الليالي الحالكة، وفي فلوات النهار المتوقدة، يرونه يترصدعم على موائد الطعام، وفي جرار الماء، كأن لسان حالهم يقول ليتنا ابقيناه حيا، يعيش بيننا حقيقة، ولم نفعل ما فعلناه ليتحول الى اسطورة في اللامكان تهدم مكاننا، وفي اللازمان تهشم زماننا، لا مكان يقلنا ولا زمان يحتوينا خارج حضور الحسين الذي يحاصرنا، اين المفر ؟ االى الله ؟ ولكن كيف يقبلنا نحن الذين فجعنا محمدا، حبيبه الذي اصطفى .   بين من احب الحسين ومن عاداه ثمة مجتمعات لم تعرف الحسين، اقطع انها لو عرفته لاحبته، وما اقطع به مبني على تجربة لم اعشها ولكنني سمعتها من ثقة عاشها، مفادها ان سيدة اوربية تضايقت من مجلس عزاء يقام في بناية مجاورة لسكنها، فاتصلت بالشرطة التي حضرت فطلبت من اصحاب المجلس تحريك بعض السيارات من اماكنها، وانتهى الامر وبقي المجلس مستمرا، وفي يوم عاشوراء حملت احدى السيدات المؤمنات طبق طعام وتوجهت به الى دار تلك السيدة الاوربية، وعندما قدمت لها الطعام اخبرتها انه طعام يصنع في ذكرى استشهاد احد ائمة المسلمين، هو الامام الحسين امه فاطمة بنت محمد رسول الله [ص] ، ثم سالتها ان كانت ترغب في سماع حكاية استشهاده، فابدت السيدة الاوربية رغبتها، وبدات تلك الاخت المؤمنة بسرد المصرع، والسيدة الاوربية مذهولة من هول ما تسمع، لم تتمالك نفسها فاحهشت بالبكاء، وما ان انتهت الاخت المؤمنة من سرد الحكاية حتى عرضت السيدة الاوربية عليها خدماتها لاصحاب العزاء، عرضت جزء من شقتها لاستضافة النساء، وواحد من موقفين لسيارتها وسيارة زوجها، وغير ذلك مما تستطيع فعله، وكأنها تعتذر عن اتصالها بالشرطة، لقد ايقظت شهادة الحسين انسانا في داخل هذه السيدة الاوربية، وهذا الانسان الذي توقظه شهادة الحسين موجود في اعماق البشرية كلها، ما علينا الا ان نوقظه.