8 مارس، 2024 3:13 م
Search
Close this search box.

كراس قديم ، أصفر ومبلل

Facebook
Twitter
LinkedIn

في الثانية عشرة من عمري وقع بيدي كراس قديم..أصفر ومبلل..وجدته في صندوق العتاد الاخضر الذي جاء به أخي من “معسكر الوشاش”.. الكراس يتحدث عن رجل يذهب من الحجاز إلى فلسطين بطرفة عين، وهو –أعني الكراس- مبللٌ وفيه بغل -ولربما بغلة طارت الى السماء-..هالني ماوجدت من الرعب والقسوة، ثم جاء الشيخ احمد آل فرج ابن عمة أبي وأكمل الأنباء السيئة، إذ قال على المنبر: ان الثواب والعقاب سيكون بحسب مانفعله هنا، وانه سيًفَرَّق بين الابن وأبيه، والأم وأطفالها..والزوج وزوجته..

ولما كانت روحي تهم بالخطايا وتشتهيها منذ صباي.. فقد بكيت كثيرا لاني لن اكون مع أمي في الجنة…!!

ابي يترك صلاته أحيانا ويجدف..هذا يعني انه لن يكون أبانا هناك، وأننا لن نعود عائلة مرة اخرى في الفردوس ..بكيت كثيراً لاني لم أرد لك ان تكون قاسيا..فلم أنت قاسٍ يا أبانا… ماذا عن الشرير.. –صنيعتك وأكثرهم تقديسا لك-..؟ ماذا عن عصيانه..؟ ماذا عنك؟ وماذا عن آثامكما معا..حين وضعتماني( انا الضعيف ) في التجربة.. وتلاعبتما بي مثل دمية؟

خلعتَ ضلعي وخلقت منه امرأة وقلت انها حبيبتي ..

حبيبتي وضعتْ التفاحة بيدي، التفاحة التي ملأتَ روحي برائحتها ثم طردتَني من فردوسك لأكدّ مثل كلب يلهث في أرضك واعمرها..

لكنك لم تمهلني وجعلت طفليّ يقتتلان لارضاء نزقك مثل أي طفل غرٍ: احدهما امسى مضرجا بدمه، والآخر هام على وجهه، وربما ستضعه في المسلخ الذي تديره هناك.. فهل هذا مايرضيك ويسليك ويملأ قلبك بالبهجة..؟

ماذا عن ابنائنا وبناتنا الذين كانوا اسلافنا..؟

كانوا اخوة وأخوات يزني بعضهم بالبعض الاخر، ليعمروا الأرض وتوقد انت بهم النار التي سيكونون حطبها، هم والحجارة..؟

لنفترض أن أبي خان أمي، وأنا اعرف ذلك، أحيانا بجوارحه كلها وغالبا بالعينين..

أعرف ذلك من الكيس الذي كان يخبئ فيه خشلَ حبيباته ومحابسهن،

فهل يعني هذا انه لن يكون مع أمي في الجنة؟ فكيف ستسعد عيناها وهي التي تسميه “شريك عقلي”؟.. كيف تطفأ نار قلبها بعيدا عنه..؟ فيما نتقلب نحن في النار..؟

أما هي..فأنت وضعتها امامي وامرت قلبي ان يخفق لها، انت جبلته على هذا..

ثم أجلستنا إلى مائدة فيها نبيذ احمر، وجعلتها ترمقني بشغف وأرنو لها بولهٍ،

ووضعت فمي على فمها، ويدي على ظهرها النحيل،

وموّجت روحي في اعماقها موجة بعد اخرى.. ذقتُ عسلها وشربت خمري،

فلم بعد هذا كله تريد أن تعذبنا وتكوي أعضاءنا التي التهبت باللذة؟..

لم جعلتني اشكو اليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس ،

أنت أبي، فإلى من تكلني ؟ الى قريب يتجهمني ، ام الى عدو ملكته امري، يتوعدني بالحرق والسمل في كراسٍ قديم..؟

الكراس القديم الذي وجدته مبللا يرتجف بوريقاته تحت المطر على سطح بيت أبي في قطاع 42 ..السطح الذي يطل على الحديقة الخضراء التي كان أبي يسميها الجنة بشجيرات الرمان والتفاح والكمثرى والعنب، الكرّاسُ مازال يئن تحت وقع المطر الرتيب وهبات الهواء البارد التي تجعل أنفي احمر ويابسا مثل جلد قديم مجعد، امس رأيته بيد مريم وهي تنزل السلالم هلعة من مرأى الغراب على دش التلفزيون، كان أنين ما لايعد ولا يحصى من النساء والرجال يملأ البيت طالعا من الوريقات الصفر ومريم تتعثر قبل ان ترمي الكراس الذي كان يرش الدم على ثوبها، فيما رائحة الشواء تفوح في “البيتونة” ..الرائحة نفسها التي ساشمها في طريق الموت قريبا من صفوان حين هرب الرفاق قبل ليلتين بالهيلوكبترات وتركوا كراريس القائد، والجنود، الكراريس التي كان يبول عليها الجميع في الملاجئ الرملية..

في نهاية خمسينياتي، وقع بيدي كراس قديم، يرشح دما وانينا لاينقطع، وروائح لاتطاق..ولا أريد ان أصدق ان هذه هي الحكاية كلها..لا أريد ان أصدق اكاذيب أبنائك كلهم.. في كراريسهم عنك ياأبي..

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب