الكذب : موهبة وفن، لا يمتلكهما إلا كل ذا حظ عظيم. والكذاب يحتاج لتفكير جيد، وذاكرة قوية، ومنطق متطور، وخيال واسع، وتبريرات جاهزة. فهناك من يحوك الكلام حتى لكأنك تسمع منه الصدق ذاته، وهناك من هو قليل الخبرة، ممن ( يصفط ) الكلام ( تصفيطا )، ويحسب – لفرط جهله بأصول هذه المهنة العريقة – أن كذبه البائن هذا يمكن أن ( يعبر ) على السامع فيصدقه دونما نقاش.
كنت أحضر مرة مجلس عزاء بأطراف بغداد، وإذا برجل مسن وقور، يكنى بأبا شمخي، يجلس في صدر الديوان، ويدير حديثا لطيفا وهادئا، يشاركه فيه مجموعة كبيرة من الشباب، ويدور جله حول : قلة حضور الناس في هذه الأيام للمواساة في مجالس العزاء، وأيضا : قلة عدد الحاضرين لتشييع الموتى. وقد حكى لهم أبا شمخي هذا، عن موكب تشييع والده، المتوفي عام 1961، والذي شارك فيه حوالي مليون ( تفاك )!
وحين عادوا – من التشييع – بعد أن أحرقوا الجو بالهوسات وبالرمي، اضطر أن يصب لهم رز غدائهم على ( بواري ) القصب، ذلك لأن حتى الصحون الكبيرة ( أمهات العراوي ) لا تكفي لهذا العدد الهائل، الذي تقدم للأكل بثلاثة صفوف، أولها قاعد، والثاني نصف قاعد، والثالث واقف.
المؤلم في الأمر أن قطعة من ( الحكاكه ) وقعت من أعلى جبل الرز، فقتلت اثنى عشر رجلا من القاعدين !
في أمان الله
[email protected]