23 ديسمبر، 2024 12:59 ص

كثيرة هي الروايات التي عالجت ما تعرض والى الآن

كثيرة هي الروايات التي عالجت ما تعرض والى الآن

نشيد الموت: دكتاتوريات تطارد الشعب..
وليمة لأعشاب البحر للسوري حيدر حيدر؛ متميزة في سرد تاريخ الأنظمة العربية، في الظلم والاستبداد. تبدأ من المحطات النهائية، في روي تتداخل فيه الازمنة والامكنة و الاحداث ومجرياتها، ومفاعيل الشخصيات في تحريكها، وما أليت اليه اوضاعهم. سردية بارعة، لغة مدهشة ومكتنزة بالإشارات والعلامات والرموز. تأخذنا الى أحداث بعيدة، بعدا مكانيا وزمانيا. مهدي جواد ومهيار الباهلي، شخصيتان محوريتان؛ يستذكران بوجع وألم، كل واحد منهما على انفراد؛ ما حل بهما من ضياع وتيه، في تدفق حزين، يتفجر من خزان الذاكرة، في لحظات هاربة من الواقع الى واقع اخر، كان يوما مفعما بالثورة والآمل في تغييره؛ إنما هو الآن نأى عنهما كما النجم البعيد في السماء المعتمة العميقة. يفرضه عليهما؛ احساسهما الداخلي بفقدان الوطن والاحبة والرفاق الذين ماتوا او اختفوا. تجمعهما محطة المنفى الجزائري، تاليا لفراقهما وهما يهربان من الموت. في مدينة بونه الجزائرية، مدينة تتوسط البحر، تحيط بها الغابات؛ يقوم مهدي جواد بإعطاء دروس في اللغة العربية لأسيا الخضر، ابنة لأحد ثوار الثورة الجزائرية، نتيجة وشاية؛ يستشهد على يد الجيش الفرنسي الغازي. يتعرف مهدي جواد، من خلالها على ما حل بالعائلة. الأم لالا فضيلة الخضر، بعد استشهاد زوجها وطرد الغزاة؛ تتزوج من يزيد ولد الحاج، احد اباطرة المال والتجارة الذين برزوا او ظهروا في (الحكم الوطني..) لكنها تظل متعلقة وجدانيا بزوجها الشهيد، سي العربي الخضر( .. تقول شيئا في اوقات الشجن وهي تناكد الرجل المزور ضد الاسطورة: سي العربي لخضر حي فينا. دمه دمنا وروحه روحنا. هو الذي لا يموت. رائحته في الاشياء. ثيابه ساعته، صورته، خاتم الزواج. مفاتيح البيت القديم، كلها ملفوفة في علم جبهة التحرير التي خاطته ماما قبل استشهاده وما يزال محفوظا حتى الان في صندوق عرس ماما) يتعامل مع الزوجة والابنة بطريقة قاسية جدا. وهي اشارة او دلالة على طغيان نظام الحكم الذي انتجته ثورة المليون شهيد، وحنين جيل الثورة الى شعارات الوطنية والانسانية التي رفعتها الثورة، التي لم يعد لها وجود، بل ما موجود؛ الضد منها تماما. مهيار الباهلي يلتقي في بونه؛ فلة بو عناب، واحدة من مناضلات الثورة الجزائرية، بعد نجاح الثورة، واقامة (الحكم الوطني..) تم اهمالها ووضعها على قارعة الطريق، في بيت يقع في ضواحي المدينة. بنتيجة الاحباط وتقدم العمر بها، وبقايا الحس الثوري في اعماقها المخذولة، وكتعويض عن الضياع، وفي محاولة لاسترداد الروح الثورية التي فقدتها في حياتها، على الرغم من انها لم تعد تؤمن بها كما كان عليه حالها اثناء الثورة؛ أخذت تستقبل كل الهاربين من شرق الوطن العربي، كي ينجوا من حفلات الدم التي تجري يوميا في ممرات الظلام لهذه الانظمة. تستقبل مهيار الباهلي الذي ظل الى الآن، يحلم بالثورة، على الرغم من المقتلة التي حلت برفاقه امام عينيه؛ حيث كان، الوحيد الذي نجا من تلك المذبحة.( انظر امامك، وحدك لن تصلح العالم.) يسكن في بيت فله أبو عناب. تتعرف لاحقا على مهدي جواد عن طريقه. كثيرة هي الروايات التي عالجت ما تعرض والى الآن؛ يتعرض له؛ الأنسان العربي، من ظلم ومصادرة الآراء وانسانية الانسان في ظل انظمة الحكم في النظام الرسمي العربي. وليمة لأعشاب البحر، متفردة، أو هي واحدة من روايات اخرى، متفردة. العنوان الفرعي الثاني لها؛ نشيد الموت. من وجهة نظري، العنوان الفرعي؛ أكثر تعبيرا لمتن الرواية، او عتبة الرواية. لذا، اخترته عنوان هذه القراءة. الأنسان في اوطننا العربية؛ لا يتنفس هواء الحرية، ولا هواء الحياة، يتنفس مجبرا؛ الصمت والخنوع والانبطاح. من يعارض؛ مصيره السجن، او الموت غيلة، أو يتدلى رأسه من على عود المشنقة، أو يهرب الى المنافي. هذا هو ما جعل الحياة العربية؛ صحراء قاحلة، لا ماء فيها ولا حياة، بل فيها الموت؛ يترصد الانسان في كل لحظة وثانية، وفي كل مكان، وفي كل زمان؛ في المقهى والشارع والدائرة والبيت والمدرسة والجامعة، وفي سرير النوم. ان هذه الانظمة بدكتوريها؛ صارت الحرية والحياة والكرامة، احلام بعيدة المنال، احلام تقود الى المشنقة، من يحلم بها، ولو في حلم يراوده، ساعة التأمل، قبل النوم. الأحزاب وقوى اليسار العربي، الأممية والقومية، على الرغم من انها؛ قارعت بصدق وتفاني النظام الرسمي العربي، وقدمت تضحيات كبيرة على دروب الحرية، إنما هي الأخرى ساهمت مساهمة كبيرة في تقديم العون الى انظمة التجبر، ومساعدة جبابرة الأنظمة، من حيث لا تقصد؛ بوضع أداوت ناجعة في يد هؤلاء الجبابرة؛ لمقاتلتها بنجاح. سرديتها لم تكن واقعية ولا موضوعية، سرديات مثالية، سرديات يوتوبية؛ تحلق عاليا في سماء، غير سماء الوطن، وتنظر الى الارض تحتها بمنظار، تصميمه، لا يكشف للناظر منه؛ تضاريس الارض. اضافة الى اختلاف الرؤى والافكار التي قادت في اهم ما قدت اليه؛ الانقسامات، لتحارب بعضها بعضا. مما جعل نضالها؛ يتعثر في خطواته، ليصاب لاحقا، بالإخفاق والفشل الذريع. وليمة لأعشاب البحر( نشيد الموت..)؛ عالجت هذه الاخفاقات بسرد حيوي، بلغة اسرة، مكتنزة وثرية بالمعاني والدلالات. رسمت بالكلمات مشاهد الحياة، بفجيعتها، بموت الناس، باختفاء الناس قسرا في اقبية، لا يعلم بمكانها الا الجلاد، بهروب الناس في جنح الظلام ليلا من دهاليز المقصلة. حملت الرواية؛ رسائل مضمرة في احايين ومباشرة في احايين اخرى من غير ان تؤثر هذه الرسائل المضمرة، على تفجير الاحداث و حيوية حركتها المتتابعة، بتدفق سردي مذهل، وموجع ومؤلم في وقت واحد؛ بتداعيات مبكية ومؤلمة؛ يتداخل فيها الزمان والمكان في تبدل وتغير، حاد، وسلس في آن واحد، يعكس القدرة الفائقة للكاتب اصلا؛ (في اواخر المساءات وبونه المنفى والظلال تنوخ كالصخرة فوق الظهر المنكسر، ستأتي الاطياف عبر تموجات الذكرى وطيور الحنين.. فتتراءى في الصمت على الشاشة الليلية صورهم واحدا واحدا وهم يتساقطون كطيور البجع فوق سطوح المدر والغرين) شخصيات اداميه، طحنتها ماكنة الدكتاتورية العربية، وطغيانها. دفعتها مرغمة الى المنافي والضياع. تجر ذيول الخيبة والفقدان والخسران لأحلام، طارت بعيدا، الى سماء بعيدة، هبطت عليهم منها، في لحظة ثورية؛ كانوا يتصورنها كما الحلم السريالي في تشيد كيانات الاضواء في غابة مكتظة بالوحوش، بداية، لوطن يوتوبي حر. ( داهم الألم جسد ظافر.. مع انه كان يحلم لو يمتلك في تلك اللحظة اسلحة فتاكة لتدمير هذه القوات المعادية وابادتها ليقيم فيما بعد، على انقاضها يوتوبيا، الشيوعية، وجناتها الخضراء، الا انه كان مدركا الآن.. ان ذلك الحلم نأى كالنجوم ) في اهوار العمارة واهوار ذي قار؛ اسس مجموعة من الشيوعيين؛ قواعد للكفاح المسلح، من جماعة القيادة المركزية، جماعة عزيز الحاج الذي انشق عن الحزب. في استنساخ لتجربة الصين وكوبا وجيفارا، في واقع موضوعي مختلف كليا؛ لجهة الارض وتضاريسها والناس ودرجة النضج السياسي للناس في تلك الاصقاع النائية ( اخي مهيار. اسمع. انا رجل بسيط غير متعلم لا افهم في التيك والتاكتيك. اللي افهمه اني شيوعي فقير لا املك شيئا..)، وطبيعة النظام الذي صادف استلامه للسلطة مع بداية انطلاق تجربة الكفاح الشعبي المسلح، ببراغماتية طروحاته في لملمة القوى والاحزاب، في مقدمتها الحزب الشيوعي، اللجنة المركزية، وتحكمه لاحقا، بجميع مفاصل الحياة في تلك البقاع البعيدة؛ مما ادى الى ان تفشل هذه التجربة فشلا ذريعا..( سيقول خالد زكي المسؤول السياسي عن قيادة القاعدة للرفاق، بان التناقضات في الحزب لم تحسم بعد.. علينا ان نضغط من هنا ليولد الحزب بقوة البنادق بعيدا عن انتهازية المدن.. العراق من شماله الى جنوبه لابد ان تُضاء النيران في سماواته المظلمة. ظافر،” خالد زكي، ظافر الاسم الحركي” الرجل النحيل، الذي موهوا شعره الاشقر وشاربيه فطلوها بالسواد ليتجانس شكله مع البيئة والملازم بالجيش الحكومي ببزته العسكرية الجديدة، هذا، المأخوذ بتجارب الثورات التي قرأ عنها وانتفاضات امريكا اللاتينية، يتحدث ويهجس بمسيرة ماو.) يُقِتل ظافر مع جميع رفاقه الا مهيار الباهلي، الناجي الوحيد من مجزرة هور الناصرية. بعد عدة سنوات ترسو سفينة مهيار الباهلي مع سفن اخرى تحط مرساتها تباعا وهي تحمل مجموعة من العراقيين والعرب الاخرين الفارين او الهاربين من بطش الانظمة العربية، في بونه الجزائرية. مهدي، حسان، ذو نون، كاظم ومهيار، وهم يعانون من الغربة والاغتراب وضياع وطن، صار بعيدا، فقدوا بوصلة الطريق إليه. يلتقون في الجزائر. فقدوا القدرة على التفكر، أو انهم صاروا على يقين؛ التفكر لم يعد له معنى، في ظل انظمة لا تريد لأحد من الناس ان يتفكر بما هو فيه أو بما الوطن فيه، أو ان اي تفكر في المصائر اصبح عبثيا في اجواء ملغومة ومحكومة بقوة النار والحديد، يعلوها ضباب من الخوف والرعب الثقيلان اللذان يدفعان الانسان الى اليأس والاحباط (– ما دام هناك من يقول لك: استرح انا افكر عنك لماذا تتعب نفسك بالتفكير؟) في بونه الجزائرية يلتقون بأناس اكثر احباطا وألما منهم، او ان الجميع متساوون لما تعرضوا له من تهميش ومن استبداد ومن مصادرة للعقل، حتى لم يسلم من هذا، ابناء او بنات الثوار الذين استشهدوا على الدروب الوعرة والدامية التي انتهت باستقلال الجزائر؛ من التهميش في احايين ومن الاضطهاد في احايين اخرى( المدينة وادارة المستشفى والجبل.. كانت تتحدث عن حكاية عمر حياوي، الذي فر من المشفى الذي اعتقل فيه من قبل الجيش الفرنسي، بعد ان ذبح خمسة من الحراس وجردهم من اسلحتهم وحملها الى الثوار في الجبل. – اكملي يا اسيا الحكاية. ما عدت نقدر نكملو. الغصة في الحلق، حكاية غريبة. يسأل مهدي جواد في فسحة الصمت الجليل عن احول عمر حياوي اليوم فيأتي الجواب كبهقة البرق المبهر. الاحداث خلخلت نصف عقله.. تعقب لالا فضيلة: منذ عام طلق زوجته، والآن لاهم له سوى الانتقال من حانة الى حانة) تنتهي الرواية بالمقطع التالي، الذي يترجم بمهارة ما صارت إليه، الشعوب العربية في ذلك الوقت تحت نير وظلم انظمة النظام الرسمي العربي بلا استثناء، وتعاون هذه الانظمة في محاربة المعارضين وان كانوا ضيوفا. ان هذا الاستبداد؛ ولد لنا، أو هو ما انتج لنا ما نحن فيه من تشظي وتمزق لا نظير له في الكون.( اهلا سي مهدي. ادخل. على العتبة يسأل عن مهيار تقول فلة: أخذوه في المساء الفائت. تقول ذلك وهي على ابواب الانهيار ثم تقول اشياء غاضبة و…. عن الكلاب والحلاليف وسهرها الليلي بانتظار عودته).