مقدمة
لكلّ باحث وكاتب بل ومثقف، ثمّة أسماء شكلت في حياته منعطفاً، لا نقول خطيرًا، بل منعطفًا رأى فيه (الكاتب) أنّه شكّل علامة فارقة، في بحوثة ورياضته الماراثونية الفكرية بهدف الوصول إلى الحقيقة، ومسكها من تلابيبها، وهو ديدن كلّ باحث وكاتب. ولهذا الباحث أو الكاتب لا بد من كتّاب كبار تأثر بهم، وشكلوا لديه هذا المنعطف.
وفي هذا المقال سأذكر عشر كتّاب قرأت لهم وأعُجبت بهم أيما إعجاب، بل أستطيع القول أنهم غيروا الشيء الكثير من حياتي، فقد شغفت باسلوبهم في الكتابة لديهم، وفي بيانهم لما يرومون طرحه من تبيان، من فكر أو رأي أو نظرية.
وهنا، أذكرهم ليس من باب التسلسل الزمني، بل من باب درجة التأثير الثقافي والنفسي والمزاجي في نفسي أنا، ولبساطة ما أكتبه وما أنشره، هنا وهناك. وأليت على نفسي أن أختصر لا أطيل في الحديث أو أفصّل.
1: نيتشة
الكاتب والفيلسوف الألماني الكبير نيتشة، فقد قرأت أكثر أعماله تقريبًا، وكذلك قرأت ما كُتب عنه عشرات الكتب والدراسات والمقالات، لمختلف الكتاب: عالميين وعرب.
فأسلوب نيتشة، في الكتابة، يمتاز بالسلاسة وبالجاذبية، وبالحنكة والاقناع، وبالأسلوب غير الممل، لأنّ أسلوبه منفرد به، وطريقة طرحه تختلف عن الآخرين من الكتّاب ومن الفلاسفة، الذين يتخذون الغموض والرمزية، وكثرة المصطلحات، الفلسفية والعلمية، التي يتقصد بعضهم أن يضعها في كتاباته، للإيهام ولغيره.
نيتشة كان صريحًا في طرح آراءه، أي أنه لا يلف ويدور في الموضوع الذي يريد يطرحه، فهو عكس هيغل على سبيل المثال، فهذا الفيلسوف الألماني الذي عرف بصعوبة كتاباته، وعدم هضمها بسهولة، الأمر الذي جعل مني أن أنهزم من كتاباته هروب الشاة من الذئب، لأنها عسيرة جدًا، وهزيمتي هذه اعتقد ليست بعيب، لأنّ كثير من الكتاب والفلاسفة عانوا من عدم فهمهم لكتابات هذا الفيلسوف. فطرح نيتشة مختلف جدّا عن طرح هيغل، وربما كان هذا أحد الأسباب التي رغبتني بنيتشة.
وفضلا عن كل هذا، فأنّ نيتشة كان صرحًا عملاقًا، فهو لم يخف من السلطة ولا من رجالات الدين، فكان يبغضهم ويشتمهم على رؤوس الأشهاد، وحتى لما مات أوصى أخته الوحيدة، قائلا لها أنّ لا يقربوا جنازته ويتلون عليها ترهاتهم وأباطيلهم في الوقت الذي لم يستطع أن يدافع عن نفسه، بحسب تعبيره.
ومن شجاعته، أنّه قال بموت الإله، قالها غير خائفًا ولا وجلاً، والبعض فسّر، مقولته هذه، على أن المقصود بالإله، هو إله رجال الدين (حيث أنّ رجال الدين استغلوا الدين لمصالحهم الخاصة، ونصّبوا أنفسهم ناطقين باسم الإله، فالإله الذي يتبعونه إله نفعي) لا إله السماء، وقال آخرون بل المقصود الإله عموما، حتى أتهموه بأنه ملحدًا عنيدًا. لكن كتاباته كانت من العيار الثقيل، إن صح تعبيري هذا، وأقصد بذلك كانت كتابات تفي بالغرض، وتحيط بالموضوع احاطة تامة، ولها عمق كبير وبُعد آخر، بحيث القارئ لا يشعر بالملل وهو يتجوّل بهذه البساتين الغنّاء، التي تعج بثمار الفكر والأدب والفلسفة.
فالنتاج الفكري الذي تركه نيتشة للأجيال القادمة، ثرًا عظيمًا، أغنى به المكتبات العالمية والعربية، وأما الدراسات النقدية التي تناولته، فمن الصعب الاحاطة بها.
2: فرويد
في اعترافاته قال فرويد أنّه تعلم التحليل النفسي من الكاتب والروائي الكبير دوستويفسكي، ذلك من خلال الشخوص التي وضعها كأبطال في رواياته، ثم قام بتحليل نفسياتهم. وهذه التفاته جدُ عظيمة من فرويد، تنم عن ذكاء مفرط وعبقرية فذة.
لاحظت كثير من الكتّاب، من الذين كتب في الشأن الفلسفي، أنهم اعدوا فريد فيلسوفًا!، بينما الحقيقة أنّ هذا الرجل هو ليس كذلك، بل ولا يميل إلى الفلاسفة قيد أنملة، صحيح إنّه قرأ لبعضهم لكنّه لم يحبهم، بحسب تعبير أحد الكتاب من الذين كتبوا عن فرويد ودرسوا حياته ومنجزه الفكري، بل أنّ فرويد هو محلل نفسي، والصحيح هو الذي أسس علم “التحليل النفسي” فهو لكونه طبيب فقد درس نفسية الإنسان وطفق يحلل ويدرس ويفكر ويمعن النظر، ثم أخذ آراء واستشارات من بعض الذين يثق بهم، وهم قلة.
فرويد قاتل قتالاً شديدًا في إيصال نظريته في التحليل النفسي، هذه، إذ حورب في حينها وشُنت عليه حملات اعتراضية تندد بهذه النظرية التي مازالت في مهدها حينئذ، في سبيل ثني عزمه، لكنّه صمدَ ووقف بشموخ، حتى حقق انتصاره بشيوع نظريته، وبقبولها في الأوساط العلمية والثقافية والأدبية.
ما أعجبني بفرويد هو اصراره وتفانيه وثقته بنفسه، وبشجاعته الفذة على الاندفاع إلى الأمام، ضاربًا التحديات والمعارضة عرض الجدار، طالما أنه متيقنًا بأن الجولة الأخيرة ستكون له، وأن هذه النظرية التي ابدعها ستأخذ مجالها وتضيء بنورها دياجي الظلام، رفض الآخرون أم رضوا.
قرأت لفرويد الكثير من كتبه، إلّا أن بعض كتبه أثرت في نفسي تأثرًا كبيرًا، وقلبت حياتي رأسًا على عقب، وهذه الكتب هي (مستقبل وهم، قلق في الحضارة، الطوطم والتابو، الهذيان والأحلام في الفن، وموسى والتوحيد).
في الكتابين الأولين، أعني مستقبل وهم، وقلق في الحضارة، يعطي فرويد رأيه الصريح في الدين، ويعتبر الدين مرض نفسي عصابي، لذلك تجد المصاب بهذا الداء لا يستطيع الفكاك منه، وعلاجه من الأمور المستعصية، بشرط واحد، ألا وهو: إذا كان للشخص المعني استعداد تام للخلاص من هذا الداء الوبيل، وعليه من كان لهم الشجاعة والاقدام، استطاعوا أن يتخلوا منه ويكتسبون الشفاء التام.
ومن ذلك، يبين فرويد أن الإنسان أبو بيئته، يعني الذي يولد في بيئة معينة يكتسب كل ثقافتها، ذلك فأن مجتمع تلك البيئة يملأ عليه ما يريد هو لا ما يُريد المولود فيها، والطامة الكبرى أن هذا الشّخص يبقى يدافع عن تلك الثقافة ما دام حيًا، ويُعدها من المسلمات، معتبر إياها الحقيقة المطلقة، وسواها الضلال المبين.
فدعوة فرويد إلى كلَ البشر، أن يحاولوا، جهد امكانهم، التمرّد على تلك الثقافة المكتسبة، ويلتجؤون إلى ثقافة أخرى، يتعلمونها ويغوصون في اعماقها، ثم بعد ذلك يقارنون ما بين الثقافتين، فسيرون إن البون شاسع.
ودليل فرويد على أنّ الشّخص، كائن من يكون، الذي لا يمتلك الشجاعة الكافية في سبيل التحرر من عقدة الماضي، فهو إنسان مريض نفسيًا.
3: دوستويفسكي
“كلنا خرجنا من معطف غوغول”. هذه العبارة تُنسب إلى دوستويفسكي، وأحيانًا تُنسب إلى غيره من الروائيين والكتّاب؛ وهنا، نحن نستعير هذه الجملة ونقول كُلهم خرجوا من معطف دوستويفسكي، وأقصد بـ “كلهم” أي كُل أو جُل، الأدباء والروائيين، الذين جاؤوا بعده، بل وحتى بعض الفلاسفة أخذوا من هذا الأديب الروسي دوستويفسكي، وعلى رأسهم صاحب نظرية التحليل النفسي، فرويد، كما ذكرنا ذلك في المقال السابق.
دوستويفسكي هو ليس روائي فحسب، كما هو معلوم، بل هو فيلسوف وأديب وعالم اجتماع، ومحلل نفسي أيضًا، فالذي يقرأ رواياته لا يشك لمحة بصر بما ندعيه.
لم يكُن من باب الصدفة حين تعرفت إلى هذا الكاتب الكبير، وذلك إبان بدايات الثمانينات من القرن المنصرم، أي أيام الشباب، يوم كنّا متعطشون للكتاب، وقرأت حينها جُل أعماله، قرأتها لأجل المتعة الفكرية فحسب، ثم عدت قراءة كتبه تارة أخرى، قبل عامين تقريبًا، ولحين كتابة هذه السطور، وأنا مستمر بالقراءة، لكن، هذه المرّة، قراءة تأملية بهدف التزود من هذه الكنوز المعرفية، كما لا يفوتني بأنني كتبت قبل هذا المقال بحدود عشر مقالات عنه؛ وأعترف بأنه ملهمي ومنه تعلمت الكثير، وما زلت اتعلم وأعدّه أستاذي الذي تعلمت على يديه من خلال ما ترك لنا من فكر ثرّ، وأشعر أنّه يخاطبني ويشير اليّ في الكثير من العبارات والحوارات التي يصيغها على لسان أبطاله، لأنّها تخرج من وجدان حيّ وجنان فذّ.
غالبًا ما نرى الحوارات التّي يكتبها دوستويفسكي، تمتاز بالحنكة والابداع، والطابع الفلسفي والنفسي، والاجتماعي أيضًا. فإذا كان الحوار فلسفيًا تجد هذا الرجل فيلسوفًا له نظرياته وفلسفته الخاصة به، وطابعها موضوع الإنسان؛ وإذا كان الحديث حول علم النفس تجد مصطلحات فلسفية يصيغها هذا الأديب الهُمام، تستشف منه على إنّه محللًا نفسيًا، يغوص في اعماق النفس البشرية، ويُظهر ما في دواخلها من ترسبات؛ أما علم الاجتماع فستجده حاضرًا من خلال السرد الحكائي للرواية شاخصًا أمامك، كأنّه عالم اجتماعي متمرّس، بل وكذلك مصلح يحاول أن يعطي رسالة للمجتمع، بأنّ الاصلاح بين المجتمعات، بعضها بعضًا، واجبًا إنسانيًا وأخلاقيًا.
إنّ ما يميّز دوستويفسكي عمّن سواه من الأدباء والكتاب، أنّه هو نفسه لم يتغير، كأديب وكإنسان، وهذه الصفة قد يتصف بها وحده، إلّا ما ندر؛ فهو حينما سُجل في سجن سيبيريا بتهمة الانتماء إلى حزب ليبرالي معارض للسلطة، حينذاك، فظل على وقاره واتزانه، النفسي والأخلاقي، وهو نفسه الذي وصف ذلك في روايته التي كتبها بعد خروجه من ذلك السجن، أعني رواية “ذكريات من منازل الأموات”، وفي هذه الرواية يظهر، دوستويفسكي، كمصلح وكعالم اجتماع، ومحللا نفسيًا في ذات الوقت؛ فكمصلح تحدث عن الحيف الذي يلاقيه السجناء في تلك السجون، عمومًا، وفي سجن سيبيريا على وجه الخصوص، وفيه يصف ظلم الإنسان لأخيه الإنسان؛ وكعالم نفسي يحلل نفسية السجين داخل تلك السجون الرهيبة، كيف أنّ الكثير منهم ينهار فينقلب على واقعه، ومنهم يبكي بكاء المرأة حين تتعرض إلى موقف يتصف بالخطورة والاعتداء السافر، فيندب حظه، ومنهم من يبقى صلبًا كالفولاذ فلا يهتز وجدانه لأصعب، أو لأسهل حدث.
4- ألبيركامو
ذكرنا في المقال السابق، المخصص عن كافكا، بأنّ ثمّة عدد من الكتاب تأثروا بكافكا، وذكرنا البيركامو كأحدهم.
ففي “الطاعون” وكذلك في “الغريب” وفي “السقوط”، رسم لنا المؤلف صورة واضحة حول ضياع الإنسان، واهدار كرامته، ومسخ شخصيته، وسط عالم متشنج، لا يدري أين يسير وإلى أي هدف يرغب في الوصول إليه، وجميع الأهداف غير واضحة المعالم، وثمّة ضبابية تلقي بظلالها على المشهد العام، لهذه الحياة المضطربة، وهذه الفوضى العارمة من الأفكار والتوجهات والفلسفات، بين قيّم ثابتة وأخرى تتماوج، كتماوج مياه البحر المتلاطم، لا تستقر على قرار يكون فيه الحلّ النهائي.
وتأثر كامو واضحًا في أفكار كافكا، وتكاد أن تكون تلك الضبابية التي دعا اليها صاحب مؤلف رواية “القضية، أو المحاكمة”. فبطلها يُحكم عليه بتهمة لا يدري هو ما هي التهمة هذه، كي يدافع عن نفسه، أو يتصدى لها أضعف الأيمان.
وفي “الغريب” بطل الرواية، يقتل شخصًا على قضية تافهة، ليس هو طرفًا مباشرًا فيها، إذ يطعنه بسكين، كانت معه بغية تقطيع الفواكه، وفعلا طعن فيها الرجل فأرداه قتيلا بالحال، ولم يحاول أن يهرب، بل ظل شاخصًا كالتمثال، غير مبالٍ كأنه لم يفعل شيئا، وحين مثلَّ بين يديّ القاضي أعترف له بجريمته، بكل برود، ألّا أنّه لم يعر للقضية أي اهتمام يُذكر، وكأنّ الأمر لا يعنيه بالمرّة!.
ولما انتهى من الاستجواب توجه إلى الباب لينوي الخروج بهذه السهولة.
فاللامبالاة هذه، أراد من ورائها المؤلف القول، بأنّ الذي يجري على البشر في هذه الحياة، ما هي إلّا تفاهات فُرضت عليه، تفاهات لا مبرر لها، مع ذلك فهم يسيرون على جادتها، كطرق مرسومة سلفا لا يمكن للإنسان أن يتجاوزها، فهي القدر المحتوم، وهو في هذا المعترك يسيرون كالأعمى.
واضح في هذه الحالة، إّن حياتنا في الوجود، كما يريد القول ما هي إلّا عبث ليس ورائها هدفًا حقيقيًا، وهذا الرؤية “الكاموية” (نسبة إلى كامو) هي فلسفة قديمة، طرُحت من قبل فلاسفة اليونان، وسار على خطاها كثير من أعلام الفلاسفة، إلى وقتنا هذا.
العبثية التي دعا إليها ترى أن الحياة لا مبرر لها، كفرض فرضته الطبيعة، ونحن نعيشها بلا طائل، فهي نمطية وتسير على وتيرة واحدة، وحتى مجيئنا إلى الوجود هو الآخر ليس معنى، بحسب المدلولات التي يتصورها ثلة كبيرة من المفكرين، إذ كيف جئنا لنطرق عالم الوجود هذا؟، وهل ثمّة أيدٍ خفية غيبية تدخلت في قضية الخلق؟. ثم لماذا تتحكم فينا غريزة الطمع والجشع والانانية؟، من أودعها فينا؟.
الأسئلة هذه وغيرها تطرحها الفلسفة العبثية، وغيرها من الفلسفات الأخرى؛ لكن كامو طرحها بصيغ أدبية، هي أقرب للتقبّل من قبل القارئ البسيط، لأنها صيغت بحبكة سردية سلسة، بعيدة عن المصطلحات الفلسفية الرنانة.
ولا ننسى أنّه أخذ عن صديقه سارتر، بعض الشيء ثم قد حدث بينهما خصام بسبب اختلافًا في الرؤى، وحينما جاء خبر وفاته لسارتر حزن عليه هذا الأخير، ونعاه في مقال.
ثمة دافع نفسي، وكذلك عبق الاسلوب الأخاذ الذي أخذ يداعب احاسيسنا بمتعة القراءة والتواصل مع الكتاب؛ اسلوبًا كان ينفرد عمّا قرأناه في تلك الفترة الشبابية، يوم كنّا منبهرين بعالم القراءة، وثمة، أيضًا، اغراء يأخذ بأيدينا (نحن شباب ذلك العهد) للتطلع واخذ المعرفة، والغوص في ينابيع تلك المياه الجارفة.
5:سارتر
كان ذلك اليوم يوم صيف من تسعينيات القرن المنصرم، من العام الذي فرضت فيه الولايات المتحدة الأمريكية، حصارها الظالم على شعبنا العراقي.
وقعت بين بيديّ رواية “دروب الحرية” بأجزائها الثلاث، للكاتب جان بول سارتر، فقرأتها بفترة وجيزة، أي أقل من الفترة التي كنت أنجز فيها عادة قراءة كتب أخرى.
الثلاثية كانت عبارة عن سرد أدبي طويل لقصة وصف فيها الهموم البشرية العاطفية والفكرية والسياسيّة، أمام أهم مسألة وجودية، ألا وهي الحرية، تلك البذرة التي يتعطش لها كل ظامئ، وما يتبعها من التزام ومسؤولية تجاه المجتمع والتاريخ.
ومن خلالها استطاع سارتر أن يجعل فلسفته الوجوديّة في متناول القرّاء باختلاف ثقافاتهم، إذ أنّه صاغها في قالب روائي يسهل هضمها.
العمل الذي جُعل أن يطلقوا عليه فيلسوف الوجودية، هو المنجز الذي ابدعه في مجال الفلسفة “الوجود والعدم”. وكان في حينه أفضل عمل صدر بهذا الخصوص، إذ تناوله مجموعة من النقاد والفلاسفة بالنقد والتمحيص.
ومن المواقف الطريفة التي قد تُحسب له، أنّه عام 1980 منحت اللجنة المشرفة على جائزة نوبل، هذا العام إلى سارتر على اعتباره افضل من يستحقها هذه السنة، إلّا أنّه رفض قبولها، بذريعة إنّ المبدع من غير اللائق أن يمنح لأجل ابداعه جائزة على ما قدّم، كون الذي يقدم الابداع، بكافة عناوينه، لم يكن ينتظر اعطاء المُنح والجوائز، بقدر ما كان شغله الشاغل هو قيمة العمل الذي يقدمه للبشرية، وبه يرضى طموحه النفسي.
لم يسعفن الحظ بقراءة الكثير مما كتبه هذا الرجل من ابداع، الفلسفي والأدبي والمسرحي، إلّا ما قرأته لكُتّاب ونقّاد من مقالات وبحوث عنه فهو كثير، واستشفيت أن معظم الذين تناولوه بالنقد، من الذين سلطوا الضوء على فلسفته، اكثر من الذين تناولوا الجوانب الأدبية منها، واعتقد لأنّ الفلسفة طغت على جُل اعماله اكثر من الجانب الأدبي؛ بحسب رأيي، حيث أخذت الحيز الكبر من ذلك، خصوصًا وجوديته التي وصفوها بالملحدة، إذ سبق سارتر كير كيجارد بهذا الاطار، وهذا الأخير كان لا ينكر وجود مصمم للكون، ابدعه وخلقه من عدم، لكنّ اختلافه كان مع رجال الدين، فهم باعتقاده استغلوا الدين لمصالحهم الخاصة، وجعلوا الدين مطية يمتطونها لنيل مآربهم.
ولا نريد أن نقول إنّ كتاباته الأدبية أقل شأنا من الكتابات الفلسفية التي نظر فيها للإنسان، واعده المحور الأهم في هذا الوجود، وهذا الكون المترامي الاطراف.
الوجودية السارترية ترى أنّ الوجود يسبق الماهية، أي وجود الإنسان قبل الماهية؛ ففي “دروب الحرية” اراد سارتر أن يطبق الوجودية عمليًا اكثر مما أراد في “الوجود والعدم” فالأول كان الطرح ادبيًا، وفي الثاني كان طرحًا فلسفيًا محض.
6: كافكا
الغرائبية هي السّمة العامة التي تتسم بها أعمال كافكا؛ فهو أديب التشاؤم والسوداوية، كما يصفه بعض النقاد.
إنّ الأفكار والأطر الذهنية التي يطرحها، في كل أعماله، لا يبوح بسرها للعلن، أو يوضحها بيسر وسلاسة، وانما يرمز لها برموز، حتى نستطيع القول بأنه كاتب الرمزية، هذا بالإضافة إلى السّمات والنعوت الأخرى، التي عُرف بها.
فأنت، حين تقرأ له، وتتعايش مع رواياته وقصصه، ستشعر بالصداع، وتعيش في دوامة، كأنك لست في هذا الكوكب الذي نعيش على سطحه، وليس هذا فحسب، بل أنّه يجعلك تشعر بالسأم والملل، وتكره حتى المحيط الذي تعيش فيه، وأن كل الذي يدور من حولك هو عبارة عن تفاهات، وواقع أليم يفترض بك أن ترفضه.
الأعمال التي قرأتها له هي” تحريات كلب، القلعة، المحاكمة، المسخ، ورسائل إلى ميلينا”.
ويظهر الكاتب في هذه الأعمال بأنّه كاتب غير تقليدي، فهو لا يشبه أي أحد، سوى نفسه. ومن هذا حاول الكثير من الكتاب والروائيين أن يقلدوه في طريقة كتابته، والحذو حذوه، فأصاب معظمهم النجاح، وشق طريقه في تقديم نتاجه الفكري والابداعي.
فالذين تأثروا به كثير، ومنهم على سبيل المثال، البير كامو إذ كتب “الغريب” و”الطاعون” و “الإنسان المتمرد”. وكلّ هذه الأعمال كُتب لها النجاح، ومن الذين تأثروا به، أيضًا الروائي جبرا ابراهيم جبرا، وقدم أعمال روائية لاقت نجاحًا باهرًا، ومنها روايته “صراخ في ليل طويل”.
وبخصوص الغرائبية والكابوسية التي يكتب بها، متذرعًا بما يعده مناسبًا للوضع الذي يعيشه الإنسان اليوم، من ضياع وتغريب نفسي، ويروم طرحه يقول: “إذا كان الكتاب الذي نقرأه لا يوقظنا بخبطة على جمجمتها، فلماذا نقرأ إذن؟ إننا نحتاج إلى تلك الكتب التي تنزل علينا كالصاعقة، التي تجعلنا نشعر وكأننا طردنا إلى الغابات بعيدًا عن الناس، على الكتاب أن يكون كالفأس التي تحطم البحر المتجمد في داخلنا”.
وفي قصة “المسخ” التي شكلت لديّ حضورًا كبيرًا، هذا مفادها: “غريغور” الموظف الشاب البسيط، يقضي ليلة حافلة بالكوابيس والأحلام الثقيلة المزعجة. وحين يصحو يجد نفسه وقد تحول إلى حشرة كبيرة، فقرر أن لا يخرج من غرفته، فيفضل البقاء منعزلا، فلا يسمح لأحد بالدخول، سوى شقيقته، التي راحت تعتني به وتقدم له الطعام، وتنظف له المكان. إلا أنه قطع المأكل والمشرب، قطعا تاما حتى أشرف على الهلاك، ثم أن دائرته بعثت مبعوثا خاصا له، لتقصي الحقائق عن غيابه المفاجئ، فلم يسمح له بالدخول، وما هي إلّا أيامًا حتى فارق الحياة، فحزن عليه الأب والأم والشقيقة.
وهي نهاية القصة الطويلة.
هنا، في هذه القصة، ماذا أراد أنّ يقول لنا المؤلف؟، وماذا يروم أن يوصل من رسالة؟.
نعتقد أنه أراد أن يصف متاهة الحياة، وضبابية الوجود، والإنسان، بين هذا وذاك، هو عبارة عن حشرة صغيرة في هذا الوجود المترامي الأطراف، فضلاً عن المتاهات التي يعيشها، يوميًا، وهو لا يدري ما هي الجدوى من كل هذا، فيضمحل، بالتالي، وينتهي دوره في هذه الحياة، وهو مغلوب على أمره.
7: كولن ولسون.. الأديب الذي صقلته المعاناة
لعلّ التجارب وحدها لا تخلق من المُبدع أن يكون مبدعًا، ولا الاصرار والتعلم ورسم الهدف مسبقًا، وحده أيضًا أن ينبلج صبحه عن ولادة حاذق ينتج أدبًا أو عِلمًا أو فلسفة.
كلُّ هذا لا ننكر بأنه قد يحقق المطلب المرجو، لكنّه عاجز بعض الشيء من ناحية أخرى، أو إنّه لا يسد الرّغبة الملحّة، والطموح لدى الشخص الذي ينوي أن يخوض في مياه النتاج الفكري، ويسبح في تيارها الجارف، وبكل أنواعه وتفاصيله.
لكن، ثمّة نقطة جدًا هامة في هذا السّياق، الذي نبحث في جذوره، لنصل، بالتالي، إلى هذا الهدف الذي نحن بصدد الوصول اليه.
إنّ المعاناة والحرمان هما من يصقل موهبة الكاتب والمبدع، ويحفزانه على الاصرار والتواصل، بقطع كلّ أحابيل الاحباطات، والعزم على الاصرار والمثابرة، ورمي الهدف بمقتل.
ونرى إنّ هذا الذي قلناه هو ينطبق بجذوره وتفاصيله على الكاتب كولن ولسون؛ لأنّه عانى أشدّ المعاناة (وهذا ينطبق على جلّ المبدعين)، أولاً من عدم إكماله تعليمه الاكاديمي، نتيجة الظروف المادية التي عصفت به وبأسرته، أضافة الى عدم انسجامه مع المدرسة حيث كان يهرب منها ويذهب الى المكتبات العامة، لشراء الكتب الادبية والفلسفية، فيعكف على قراءتها والرشف من أريجها المنعش، وهو يعدها أفضل من الدروس التي يتلقاها من المعلمين والأساتذة. فخصص أوقاته للقراءة وفي نفس الوقت العمل لسّد احتياجات الاسرة.
فهل نجح، بهذا التواصل والاصرار على المطالعة، والتزود من معينها العذب؟، ونال ما كان يصبو إليه، وتحقق طموحه المشروع في الحياة التي بذل فيها كلّ جهده، وحرم نفسه من أبسط الأشياء، خصوصًا مثله؟، كشاب طموح يتمنى أن ينجح وأن يعيش حياة مثالية، نليق بكرامته، اسوة بالرجال العظماء، الذين قرأ عنهم بما فيه الكفاية.
والجواب على هذه الأسئلة لا يحتاج إلى تفكير عميق، أو إلى صفنة طويلة وغور في التأمل. فالنتاج الفكري الذي تركه للأجيال فهو يكفي، ويسد رمق السائل.
كان أول كتاب ألفه وهو بعمر الأربعة والعشرين، وهي ريعان الشباب، وأوج العطاء الباذخ في النتاج الفكري. وكان بعنوان “اللامنتمي” وفي حينما نال، هذا الكتاب الشهرة الواسعة، في سوح الثقافة والفكر، حتى إنّ الكثير من المعنيين بحراك الفكر، شككوا بقدرة هذا الشّاب على الكتابة والتأليف، لكنّه فاجئهم بآخر ثم اتبع الآخر آخر، وهكذا راح ذهنه تدفق وينطلق كشعاع في حقول كثيرة من حقول المعرفة، فلم يقتصر على حقل واحد بعينه، إذ كتب في الرواية، فانتج العديد من الروايات الناجحة، ثم في الفلسفة، وفي البحوث الأُخرى التي تناولت قضايا كادت أن تكون معقّدة، ويحتاج الذي يروم الخوض فيها الى الاتزان الفكري والى الاسترخاء الذهني والمعرفي، وكذلك إلى الباع الطويل في الخبرة المتواصلة في النظر والامعان وعمق الأشياء.
وكأنّه هو من أمتلك ناصيتها، وسار على جادتها وخبّر أسرارها، وقطع شوطها، فنال ما أراد تحقيقه، حيث تصدّرت أعماله قائمة المبيعات، في حينها، وصارت تضاهي أعمال كبار الكتاب والعلماء.
8: سّمة العبقرية عند ماركيز
العبقرية الفذة التي تمتع بها غابريل غارسيا ماركيز، لم تأت عن فراغ، فالرجل كان يعمل بالصحافة كحرفة، أحبها فسار على دربها، بما فيها من وعورة ومخاطر، كما يحلو للبغض أنْ ينعتها بهذه النعوت.
النجاح الذي تحققه صاحب “مائة عام من العزلة” في مجال الصحافة يبطل النظرية التي ترى بأن “الصحافة مهنة المتاعب”، بل الذي يحب العمل في ربوع صاحبة السيادة هذه، أو السلطة الرابعة كما يُطلق عليها، فأنّه حتمًا سيبدع، بالتالي، سيبذل جهودًا استثنائية، وبها يحقق النجاحات المرجوة، أنْ تحقق له الأمر، أما الكسول المتقاعس، فحتما سيرى ثمّة معوقات ومخاطر لا يستطيع أن يقف بالضد منها.
والواضح، أنّ ماركيز هو ليس الأديب الوحيد الذي عمل بالصحافة وأتخذها حرفة، بل هناك الكثير من الفلاسفة والأدباء والمفكرين سبقوه بذلك، ففيلسوف كماركس، وكيركيجار، و دوستويفسكي، وامثالهم الكثير عملوا في هذا المهنة الجليلة، وكانوا متمسكين بها. وربما هي من أوصلتهم الى ما وصلوا اليه من نجاحات على مستواهم الفكري والابداعي.
وكما ذكرنا، إنّ أول نتاج ابداعي قدمه هذا الأديب الكولومبي كان رواية “مائة عام من العزلة”، وكان هذا العمل بمثابة فتح جديد في عالم الرواية، حيث مزج فيه الكاتب بين الواقع الملموس وبين الخيال الخصب، وهذا الامتزاج ولدّ حركة ديناميكية في مساحة ذهنه، حيث ظهرت في نصوصه، ومن خلال السّرد وتحريك الشخوص، بطريقة غير مُتبّعة، بعض الشيء، بما هو معلوم لدى كتّاب كبار لهم طريقتهم في السّرد الوصفي والحكائي في تقديم اعمالهم الروائية.
وفي حينها، بل وإلى الآن يرى الكثير من النقّاد، أنّ هذه الرواية لا تشبه أي عمل من الأعمال الروائية الأخرى فهي لا تشبه إلّا نفسها، في متنها وفي أطارها العالم، وفي بنائها الروائي.
ثم اعقبها بأعمال أخرى لا تقل شأنًا وأهمية، من حيث الجمالية الابداعية، عن سابقاتها، من الأعمال التي قدمها هذا الأديب، وكلها تنم عن ابداع فذّ.
وعلى إثرها، حصل ماركيز على نوبل، وهي أعلى جائزة عالمية تُمنح كل عام للشخص الذي يقدّم للبشرية اعظم ما يقدم من علوم وآداب ونظريات أخرى تخدم المجتمعات، وعلى كافة المستويات العلمية والثقافية والابداعية.
إنّ الرجل كان يتمتع بفكر متقدّ وذهنٍ منفتح، وأعتقد كانت الصحافة لها دور صقل موهبته، فالأحداث العينية التي كان يتقصى حقائقها، بل والمغامرة التي كان يهرول خلفها، وكذلك سرعة كتابة التقارير التي يسهر على انجازها، بهدف نشرها بأسرع وققت ممكن، كل هذا وغيره، له الحافز الاكبر في اتقاد ذهنيته الادبية، فنرى مثلا في “الحب في زمن الكوليرا” كيف مزج الأحداث وأطرها بقالب صلب، ما جعل القارئ ينشد مع السرد، فهو سارد كبير، ميزته أن يعطي مساحة كبيرة في تفاصيل الأحداث دون كلل ولا ملل.
وحتى النهاية السعيدة التي رسم ملامحها، كانت عبارة عن صناعة لجمال فاره، من خلال عاشقين مسنين، كاد الزمن أن يطفأ جذوتهما، وبعد أن تقطعت بهما سبل الوصال، يتزوجا، أخيرًا، ويستأنفان الحياة.
9: نجيب محفوظ…سيّد الرواية العربية
ما قدمه لنا الأديب الكبير نجيب محفوظ، من فكر ثرّ، لهو المفخرة لكلّ الأجيال؛ نتاجًا تمثلَ بالرواية، كفن أدبي يحظى بمكانة مرموقة، في الساحة الثقافية العالمية والعربية، على حدٍ سواء.
أنطلق محفوظ بالكتابة، انطلاقة ضمير إنساني محظ، عالج فيها قضايا وجودية كثيرة، وجُلها تتعلق بالإنسان وبحقوقه وبيئته، خصوصًا الإنسان المصري، على اعتبار الرجل وُلد في ربوع هذا البلد العريق، صاحب التاريخ الموغل في القِدم. فضلاً عن الحسّ الإنساني الذي يتمتع به هذا الأديب؛ فراح يؤرخ للتاريخ المصري المعاصر، في كثير من رواياته، كـ “الحرافيش” والتي أرخ فيها حقبة مهمة من تاريخ بلاده، حقبة كانت تشكل منعطفا مهمًا في الشعب المصري؛ كذلك في ثلاثيته الرائعة “بين القصرين، والسّكرية، وزقاق المدق”. ففي هذا الملحمّة وصف فيها الكاتب حال فئة كبيرة من الناس، وتحدث عن معاناتهم وهمومهم، واحوالهم المعيشية آنذاك، في جذوة من الغليان السياسي والاقتصادي وتناحر التيارات السياسية فيما بينها، ولمْ يفته ذكر أوضاعهم الاجتماعية والبيئية، بل وحتى العاطفية، (وشاهدنا ذلك عبر الشاشة العربية، حيث أغلب، أعماله مُثلت أفلامًا تلفازية وسينمائية ناجحة).
وطالما ذكرناه كمؤرخ فهو كتب بأسلوبه الأدبي الفذّ، تاريخ غير متسلسل لا تسوده الرتابة والسئم، كأسلوب المؤرخين القدامى، وليس هذا فحسب، بل كتب في أحوال بعض الانبياء، كما في روايته “عبث الأقدار” التي تحدث فيها عن حياة موسى النبي، رغم إنها لم تأخذ صداها المطلوب، كذلك في رائعته “أولاد حارتنا” والتي عدّها بعض النقّاد كأفضل عمل قدمه محفوظ، بصرف النظر عن النقد اللاذع الذي قيل في حقها.
إلى ذلك نلاحظ، دائمًا ما يسود حال قصصه ورواياته الطابع الفلسفي، وهذا ليس من الغرابة بمكان، لأنّه قد درس الفلسفة من الجامعة المصرية، وكتب مقالات كثيرة فيها قبل أن يتفرغ للأديب. لهذا خاض في جوانب كثيرة في قضاضا الفلسفة في جُل اعماله، وتعرّض إلى مدارسها، وأوضح بإيجاز، واحيانًا بإطناب، موقفه من الفلسفات القديمة والحديثة، إذ تجده يكتب عن الخير والشّر، وعن الوجودية والفلسفة الرواقية، وغير ذلك.
النجاح دائمًا ما نجده يحتاج إلى ضريبة، وأحيانا تكون الضريبة باهظة الثمن، لربّما يفقد فيها الإنسان الناجح حياته، وطالما فقدت شخصيات كثيرة ناجحة حياتها؛ وأخرى أنقذها القدر من ضربة مميتة، كالفيلسوف اسبينوزا حيث تعرض له شخصًا بطعنة خنجر، بينما كان يسير هو طريقه، فنجى من تلك الطعنة.
ولا ينكر أحد أنّ أديبنا حظيّ بنجاحات، وليس نجاحًا واحد بعينه، إذ حاربه رجال وأبغضه آخرون، ممن يصطادون بالماء العكر، بكل ما أوتوا من قوة. فعلى إثر صدور روايته “أولاد حارتنا” ولردود الأفعال المختلفة ازاءها، لا سيما، لدى الإسلامويين، وما ضربهم هذا السّرد الرائع بمقتل، حيث شكل قفزة نوعية في عالم الأدب العربي عمومًا، ولهذه القامة الكبيرة خصوصًا. فقد أخرجه الشيخ كشك من الملّة، وكذلك أصدر الشيخ عمر عبد الرحمن، فتوى بتكفيره، ودعا إلى قتله علنًا، وبالفعل طعنه بخنجر فتى مغرر به، كصاحب اسبينوزا، لكن وقّاه الله شرّ تلك الطعنة.
10: طه حسين…لماذا عميد الأدب؟
الألقاب الحقيقية لا تأتي اعتباطًا، أو على حين غرة، بل لابدّ من مقدمات تسبق إعطاء اللقب كنوع من الشهادة، أو نوع من العرفان لما قدّم هذا الذي استحق أن يتوسم بوسام الشّرف، والمنزلة العلمية والأدبية.
ما قدّم طه حسين من نتاج فكري وعلمي، يستحق أن يكون أهلاً لهذا اللقّب “عميد الأدب العربي”، وهل هذا الذي قدمه يتصف بـ “القليل” قياسًا لبعض الكتّاب من الذين نالوا شهرة واسعة؟، وليس هذا فحسب، فثمّة “كمية ونوعية” وهذا الرجل قدّم الكمية والنوعية معًا.
إنّ غزارة النتاج الذي قدمّه تملأ الخافقين، وفي مختلف العلوم، فهو لم يختصر على نوع أو نوعين من أنواع العلوم المختلفة (في السياسة وفي التاريخ وفي الأدب، والرواية والنقد والفنون والفلسفة والأخلاق والتربية، وكذلك في الترجمة) وكلها علوم زاخرة.
فضلا عن ذلك، فأنّ في بعض كتبه ما أثار سخط الكثير من المتأسلمين، ومن الأزهريين وزاد حنقهم عليه، ككتاب “في الشعر الجاهلي” حيث شكك بما يطلق عليه بـ “الشعر الجاهلي” واعتبر أنّه شعرًا منحولًا يعود إلى الفترة الإسلامية، ذلك كون بعض المفردات، التي لم يجد المفسرون للقرآن معنى لها في أشعار العرب، فقامت فئة مأجورة بوضع ابيات على لسان بعض شعراء فترة ما قبل الإسلام، لمداراة خيباتهم.
وعلى إثر ردود الأفعال تلك، قدموه إلى المحاكم بذريعة التشكيك في الدين، ورموه بالألحاد، وكادوا أن يخرجونه من الملة. فلولا المتفهمين العقلانيين من حملة الفكر، لرموا الكاتب في عقور السّجن، حاله حال الكثير ممن اتهموهم بالمروق من الدين، وهي تهمة جاهزة يستعملها المتطرفون ضد خصومهم.
البنية الفكرية لطه حسين لا يمكن اختزالها بمقال أو بمقالين، فالرجل يمتلك حنكة فكرية رفيعة المستوى، وهو بحق فيلسوف عصره، ويستحق الثناء والعرفان.
كان تأثير أبي العلاء المعري واضحًا على فكر طه حسين، إن لم نقُل أنّه تأثر به تأثيرًا عميقًا، فثمة قاسم مشترك بين الرجلين، ألّا وهو العمى، فالأول أصُيب به مبكرًا والثاني كذلك، كأنّ القدر جمع بينها بصورة تراتبية، حتى أنّ لغتهما تكاد أن تكون واحدة، وكان طه حسين دائمًا ما يذكره في المحافل والمؤتمرات الأدبية والعلمية، ويستشهد بأبياته وأقواله، والدليل أنّه ألف كتابين عنه، الأول “في ذكرى أبي العلاء” والثاني “مع أبي العلاء في سجنه، ولا أعلم أنّ كاتبًا كتب عن شخصية أدبية أو فكرية أو سياسية في كتابين آنٍ، كما فعل طه حسين مع المعرّي.
وهذا يعود إلى الرأي الذي تبنيناه، وهو أن طه حسين كان معجبًا أشد الاعجاب بأستاذه المعري، فأخذ من ذلك الفكر الوهاج.
وفي هذين الكتابين حلل المؤلف نفسية أستاذه، وقرأ مدى الحزن الذي كان جاثمًا على صدره، حتى مماته، والمعاناة التي كان يحملها في قلبه الخافق بالمحبة للناس جميعًا. وأدرك حجم المأساة التي كانت تكتنفه جرّاء الوضع العالم لطبيعة ذلك العصر الذي عاشه المعرّي بكل تناقضاته، وخصوصًا رجالات عصره من الذي اتهموه بدينه، وقالوا بحقه كلام لا ينبغي أن يقال لشخص كالمعري، وهو الأديب والمفكر والإنسان.
فقد كان من أروع كتب المعرّي هو كتابه “الفصول والغايات” وهو آية من آيات البلاغة والفكر الجياش، وهو، بعدُ، لم يُكتب مثله كتابًا بهذا الجمال. وكان عميد الأدب العربي يعرف ذلك ويدرك المغزى.