23 ديسمبر، 2024 4:38 ص

كتاب ” حقيقة المصالح في العراق” – 3 / الفصل الثاني : الأزمة في العراق والأسباب التي دعت الى المصالحة

كتاب ” حقيقة المصالح في العراق” – 3 / الفصل الثاني : الأزمة في العراق والأسباب التي دعت الى المصالحة

الازمات في العراق واسبابها

الوضع العراقي يعاني من ازمتين اساسيتين، الشعب العراقي ليس له يد فيهما، وهاتان الازمتان مرتبطتان ارتباطا وثيقا ببعضهما، وترتبط بهما سلسلة من المشاكل الجانبية التي تركت اثارا سلبية على مجمل الوضع العراقي منها الاقتصادية والخدمية.
 
الاولى : الازمة السياسية، وما تتمتع به من تترسن طائفي، وصراع على السلطة، ومحاصصة في كل شيء، وعدم ثقة واتهامات متبادلة، مما أجهض بشكل مباشر فكرة حكومة التكنوقراط التي يحتاجها العراق في كل الحكومات التي مرت عليه بعد عام 2003، ما أسهم الى حد بعيد في تهميش العملية الديمقراطية.
 
هذا بدوره نتج عنه تدخلات من دول اخرى خلقت اوضاعا سياسية جديدة ترتبط بشكل وآخر بها وتتوافق معها في خط سياستها العامة، خصوصاً في القضايا الدولية، وهذه الدول هي التي ادامت الصراع من خلال الدعم المالي واللوجستي لبعض الاطراف السياسية العراقية، ودفعت بالوضع الى حالة عدم الاستقرار السياسي الدائم، وبات البلد مرتكزا لتصفية الحسابات بين هذه الدولة وتلك، ما اجاز بالضرورة محاولة كل هذه الدول الى التدخل حتى في موضوع المصالحة الوطنية، بل محاولة ادارته بنفسها، وفرض شروطا معينة من اجل تمرير بعض النقاط التي تخدم مصالحها ووجودها في المنطقة، حتى ان بعض الدول السنية قطعت علاقتها كليا بالحكومة لان علاقتها بايران سيئة، وترى من هذه الحكومة بانها شيعية ولا تمثل جميع شرائح الشعب العراقي، ودولا اخرى ما زالت تتوجس خيفة وريبة من الحكومة، وغيرها مترددة في فتح قنوات دبلوماسية مع العراق لنفس الاسباب.
 
اما الثانية : الازمة الامنية، التي ولدت من رحم الازمة السياسية، وتترسن النخب السياسية خلف طوائفهم ([1]). واستفحلت هذه الازمة بسبب انشغال الساسة بمشاكلهم، والعمل على تصفية الحسابات فيما بينهم، ما جعل الباب مفتوحا امام الجماعات المسلحة، المدعومة من دول عربية اسلامية، بتثبيت موطأ قدم لها في العراق، والعمل بفعالية كبيرة، جعلت من العراق مرتكزا للارهاب العالمي الذي دق اسفين الحرب الطائفية.
 
ان ضعف السيطرة على ملف الامن بصورة محكمة، ترك أبعادا ستراتيجية خطيرة على حياة الشعب منها انعكاس الصراع السياسي عليه، اضافة الى الابعاد على النظام السياسي الحاكم مما يترك البلاد في أزمة أمنية قائمة وشائكة تترك تداعياتها على الحياة السياسية والاقتصادية كحركة الاستثمار والتمثيل الدبلوماسي والعلاقات الدولية.
 
ولا ننسى الدور الاساس لقوات الاحتلال التي وقفت خلف كل المظالم والمآسي للشعب العراقي، بتقييدها للحكومة في كثير من الاحيان بحسم الكثير من المواقف الامنية منذ البداية وانهاء الازمة، وهو من يعجّز قواتها الامنية في السيطرة على الوضع بمنع تسليحها بالشكل اللائق للوصول الى الامن والاسقرار، مما يفهم منه بقاء الحاجة الى قوات الاحتلال.
 
ان الاحتلال الامريكي الظالم عمل على اثارة الوضع الامني وخلط الاوراق، يجعله اللاعب الرئيس في ترتيب طرفي المعادلة العراقية سياسياً بما يتوافق واهدافه التي اراد لها ان تتحقق من خلال خطوته هذه، حيث تكون الحاجة ملزمة وقاضية ببقائه فترة اطول ولم يوجد لها من مبرر غير عدم قدرة القوات العراقية على ضبط الامن واستتباب الوضع كما تطبل لها ادارة الاحتلال ومع ديمومة الحاجة يبقى الى حين ترتيب اوضاع البلد بما يتوافق ومصالح الدول المحتلة وما لم تصل الى ما يتوافق ومصالحها فان بعثرة الامور جارية وانفلات الوضع مستمر.([2])
 
فقوات الاحتلال هي التي فتحت المجال امام التكفيريين، من المسلمين منحرفي العقيدة الذين يكفرون كل من لايؤمن بمعتقداتهم ولا يتبنى سياساتهم، وهم شاركوا في بعثرة الوضع من ناحية، وان ما يستهدفونه يخدم بشكل جلي قوات الاحتلال ممن تريد دق أسفين بين مكونات الشعب العراقي لاضاعة الحس الوطني العام وجعلهم يتشبثون بمفاهيم ضيقة لا يجنى منها الا تمزيق العراق وضياع هويته العربية والاسلامية بل والوطنية.
 
وربما يكونون عاملاً رئيسياً واداة فعالة بيد قوات الاحتلال، بل ان هناك غزلاً واضحاً بين الفريقين استمر لسنوات، يتعهد الاحتلال باطلاق سراح من يلقى القبض منهم على يد قوات الامن العراقية، وتوفير الحماية لهم من بعض المناطق بالحيلولة دون وصول افراد الامن العراقي بالقاء القبض عليهم، بل اكثر من هذا بمشاركتهم بالكمائن التي يعملونها لقوات الشرطة والجيش كما حصل في بعض المناطق.([3])
 
كما انه لا يمكن لنا ان نتجاهل الفجوة الكبيرة، في افكار عراقيي الداخل والخارج، والتي تُركت بدون علاجات حقيقية ساهمت باحتقان الوضع الامني والسياسي على حد سواء.
 
فعندما عزمت امريكا على تغيير النظام السابق، قامت بالاتصال بقوى المعارضة من خارج العراق ولم تتصل بالشخصيات والقوى في داخله، التي كانت تعيش في مرحلة انقطاع عن العالم الخارجي، بفعل الانغلاق الاعلامي الذي احدثه النظام السابق، مما جعلهم لا يعرفون شيئا عن مؤتمرات المعارضة قبل الاحتلال، مما اشعرهم بعدم مسؤوليتهم عن التغيير الذي حصل.
 
اضافة الى ذلك فان امريكا وقوى المعارضة من اهل الخارج، لم يشعروا، بالتنامي السريع للمعارضة الداخلية بعد الانتفاضة الشعبانية، وما افرزته من قوى وتيارات فاعلة حققت نتائج كبيرة لم تكن تحلم بها قوى معارضة الخارج ولم تحققها على طول سنوات معارضتها للنظام السابق، وبزمن قياسي ساهمت بإضعاف نظام صدام الى حد كبير، ابرزها حركة السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر، المتبنية لافكار اسلامية خالصة، من ضمنها حرمة التعامل مع الولايات المتحدة التي يعدها نظاما امبرياليا يحرم التعامل معه.
 
هل يحتاج الشعب العراقي الى المصالحة ؟

ان المصالحة الوطنية مطلوبة في اي مجتمع يمر بتغيرات واضطرابات، والعراق واحد من تلك المجتمعات التي مرت بهذه التغييرات بعد الاحتلال الامريكي الغاشم عام 2003، وقد تكون خصوصيته اكبر من بقية الدول، لانه يضم تلونا دينيا ومذهبيا وقوميا، من عرب شيعة وعرب سنة ومسيحيين, وكورد وكرد فيليين وكلدوآشوريين وتركمان وعلمانيين يساريين ويمينيين…الخ
 
هذا التلون في ظل الانتقال المفاجئ والسريع من نظام حكم دكتاتوري منغلق، الى نظام ديمقراطي مفتوح، قلل من فرص التعايش السلمي في العراق لفترة ما، لان طبيعة هذا الانتقال اثار واستفز الانتماء الديني والطائفي والقومي لدى شرائح كبيرة من الشعب، لضمان مستقبله الفئوي في ظل دولة بطور التأسيس، دون التفكير او الالتفات الى الانتماء الوطني، الذي من المفترض ان يتصدر كل الغايات والمصالح.

هذه الامور كانت لها اسبابها، لكن ما كان لها ان تحصل، لولا عقلية المعارضة التي كانت تستحوث على الساسة حين توشحوا بوشاح الفئوية، والاغترار والزهو بعناصر القوة والقدرة التي ملكوها، فيتصورون ان بقدرتهم اتمام العملية السياسية وادارة البلد، وانجاز الامر الذي يرونه صحيحا بعيدا عن اخذ رأي شريكهم او شركائهم في هذا البلد وان حقهم مضمون في تقرير مصيره واحلامه وفق ما يجدونه صحيحا وسليما ومستقيما.
 
ثقافة المعارضة هي التي رسخت مفهوم التقديس لنهجهم، وضربت جذوره بعيدا، حتى صار من يعارضهم او يبدي ملاحظاته ووجهة نظر مخالفة، هو ضد التغيير وضد العملية السياسية، وقد يتهم بالانتماء للبعث الصدامي، وهذه نفس التهم التي اتهمتها جهة سياسية لشريكتها وعملت على اجتثاث الكثير من قياداتها، في حين وجهت الجهة الثانية للاولى تهمة الانتماء الى ايران. واذا كان هذا حال الاطراف السياسية، فما حال من هو خارج العملية وبماذا يتهم ؟
 
هذه الامور كانت الانعكاس السلبي الاول الذي ساهم باندلاع الحرب الطائفية بين الشعب العراقي، والتي وصلت الى اوجها في عامي 2006 و2007، وعقدت لاجلها “عشرات المؤتمرات للمصالحة الوطنية داخل العراق وخارجه وبرعاية مختلفة سواء من الحكومة العراقية او القوى السياسية او الدول الفاعلة في الاقليم كالمملكة العربية السعودية والمنظمات الاقليمية كالجامعة العربية ومن العواصم المهمة في المجتمع الدولي وتعددت مستوياتها فمن مؤتمرات للقوى والشخصيات السياسية الى اخرى للعشائر الى اخرى لرجال الدين الى مؤتمرات لمؤسسات المجتمع المدني الى تلك التي ضمت الاوساط الثقافية واخرى للاكاديمية، ولم تبق عاصمة فاعلة او مهتمة في العالم لم تعقد مؤتمر مصالحة او ورشة عمل او تنظم زيارات للاطلاع وسعت اغلبها لاستجلاب اطراف عراقية للاطلاع على التجارب وقامت باحضار خبراء للحديث ونقل تجارب وخبرات الشعوب في موضوعة المصالحة، فمن القاهرة الى مكة الى اسطنبول الى انقرة الى عمان والبحر الميت الى بيروت الى باريس الى روما والبندقية وعدد من المدن الايطالية الى بروكسل الى المانيا الى قرب القطب في الدنمارك وهلسنكي ثم تعريجاً على الجانب الاقصى من العالم الى طوكيو، ولم تبق تجربة مصالحة في العالم او تجربة حل نزاع اهلي عرفها عالمنا المعاصر الا وتم جلب قوى وشخصيات عراقية فاعلة للاطلاع عليها، من تجربة المانيا ما بعد سقوط جدار برلين الى تجارب دول المنظومة الاشتراكية السابقة الى نزاعات يوغسلافيا الى تجربة جنوب افريقيا ما بعد الفصل العنصري الى حل المسألة الايرلندية واطلاع وفود عراقية عديدة على ارث التخاصم بين الكاثوليك والبروتستانت وجدران الفصل بينهما في بلفاست”([4])، الا ان هذه المؤتمرات عقدت بنفس الوقت الذي كان فيه الشعب العراقي يتقاتل من اجل لا شي، وانهكت خزينة الدولة، ولم تثمر عن شيء سوى انها كانت مناسبة مثالية للسفرات السياحية كما وصفها البعض من السياسيين.
 
لكن بعد الحملة العسكرية التي قام بها رئيس الوزراء نوري المالكي عام 2008، عادت الاوضاع الى طبيعتها في الشارع العراقي، وبدأ الشعب العراقي بتقبل الامر، ولم يبد اي ممانعة او معاناة من مسألة تقبل الاخر، والاستعداد على التعايش السلمي، في حين بقي الصراع سائدا في المشهد السياسي، مما يعني بان الشعب العراقي لا يحتاج الى المصالحة، لانه خرج من كونه طرفا في المشكلة، وليس سببا فيها، انما زج فيها زجا خارج ارادته، رغم انه هو المتضرر الاكبر من كل تبعاتها واثارها.
 
لكن الغريب بالموضوع، هو استمرار بعض الساسة بالدعوة الى يومنا الى مصالحة بين الشعب العراقي، وهم بهذا لا يريدون سوى التنصل عن مسؤوليتهم، ومحاولة رميها على الشعب، وبنفس الوقت يتهم الشعب العراقي بها. فلو كان الشعب العراقي يحتاج الى المصالحة، لكان مشروع الحكومة للمصالحة الوطنية الذي قدمه رئيس الوزراء نوري المالكي الى مجلس النواب في اوج العنف الطائفي في 25 حزيران من عام 2006، قد اثمر وانهى العنف الطائفي الذي انتهى بنسبة كبيرة عام 2008 بعد حملة المالكي سالفة الذكر، مما يعني ان الامن الذي فرضته حكومة المالكي، هو الذي ساهم بتحقيق المصالحة بين الشعب العراقي([5])، وليس العكس، وبهذا انتفت الحاجة كليا الى مصالحة بين الشعب العراقي.

تجارب المصالحة في العراق واسباب فشلها

ان المصالحة في التجارب السابقة العالمية، كانت مصالحة اجتماعية واجراء وقائيا لوضع معين، اما الوضع العراقي، فيختلف اختلافا كليا عن ما مر استعراضه. فرغم التعقيدات الاجتماعية التي يعيشها، الا ان حاجته الى المصالحة قد تكون منتفية وليس هناك اي مشكلة بهذا الخصوص، لكن يبدو ان المشكلة هي في طبيعة تعاطي القائمين مع هذا الموضوع، وعدم انسجام مشاريع المصالحة مع الواقع الفعلي والسياسي والاجتماعي للبلد، اضافة الى ذلك ان الاخطاء المتداولة والمتكررة التي تلخصت :
 
1- شكل هذه المشاريع يؤكد على تصالح الاطراف المعارضة او صاحبة الشأن مع الحكومة، وليس كما هو المفروض ان تتصالح مع الشعب، وهي لا تفرق بين حل لمشكلة واشكالية مجتمعية، تقنع الشعب العراقي ويرضى عنها، وبين حكومة ينحصر واجبها، بتوظف مؤسساتها لتطبيق هذا المشروع.
 
2- محاولة كل طرف من اطراف العملية السياسية التعاطي معه من زاوية فهمه، خاصة ويجد أنها الطريقة الوحيدة والمفيدة، فيما يحاول الطرف الآخر تخطئة الطرف الأول ورميه بعرقلة المسيرة، مع اتفاق الطرفين أو الأطراف حول مسألة الاحتلال وضرورة جلائه عن ارض العراق، فالاختلاف في طريقة التعامل مع مسألة الاختلاف وليس ثمة اختلاف أو خلاف بين أطراف المعادلة العراقية، مما ولد حالة الانقسام التي نعيشها الى الان.
 
3- ان هذه المشاريع اخضعت كل نقاطها لرأي وذوق الحكومة، وليس لرأي وذوق الشعب العراقي الذي هو من يجب ان يقول قول الفصل بالموضوع، مما عزلت الشعب العراقي كليا عنها، واوكلت تماما الى الحكومة التي تصرفت معها بما يخدم وجودها السياسي حصرا للاسف الشديد.

4- ان هذه المؤتمرات كانت تفتقر الى تشخيص القوى التي تستحق ان تدعى للمشاركة ببناء البلد كقوى فاعلة حالها حال بقية القوى السياسية، مع الاخذ بنظر الاعتبار ان الدعوى يجب ان تشمل القوى المسلحة التي اقتصرت اعمالها على مقاومة الاحتلال ولم تتلطخ ايديها بدماء العراقيين، وكذلك غير المسلحة منها، كبعض المرجعيات الدينية الشيعية والسنية التي حسبت باكثر من موقف على المعارضة في كثير من مواقفها وقراراتها، وذلك لعدم تكرار الاخطاء السابقة في بعض مؤتمرات المصالحة، مثل مؤتمر وثيقة مكة التي تم التوقيع عليها في 23 تشرين الثاني عام 2006 في مكة([6])، برعاية منظمة المؤتمر الإسلامي، من قبل شخصيات دينية تنتمي او داعمة لاحزاب سياسية، وهي بطبيعة الحال غير معارضة.
 
5- ان مؤتمرات المصالحة التي عقدت للعشائر العراقية والطبقات المجتمعية الاخرى، كان نجاحها يقتصر على مدى اعلان هذه العشائر الولاء للحكومة، وغير ذلك فهي فاشلة، ونتيجتها مشابهة لما سقناه في النقطة الماضية.
 
6- ان طرح موضوع المصالحة الوطنية بشكله الحالي يجمد الافعال التي اسائت الى الشعب العراقي الى عام 2003، اي قبل مرحلة الاحتلال الامريكي وقيام النظام الديمقراطي، ولا يحركها الى المرحلة الحالية اي بعد هذا التاريخ، التي شهدت اساءات كبيرة مشابهة الى التي كانت في زمن النظام السابق، مسؤولة عنها مؤسسات كاملة في الحكومة، وعبر عنها الشعب العراقي في مناسبات عدة اوضحها، في التظاهرات التي انطلقت في اغلب مناطق العراق في 25 شباط من عام 2011([7])، والتي استمرت في كل جمعة، حيث ما زلنا نشهدها في لحظات كتابة هذا الكتاب.
 
وبعد هذا العرض السريع يتأكد لدينا، انه اذا كان لابد من مشروع المصالحة، فعلى الكتل السياسية والحكومة ان تتصالح مع شعبها اولا، قبل ان تطلب من الاخرين التصالح معها. فهناك الكثير من الممارسات التي تركتها الحكومة وبعض مؤسساتها، اثارت تساؤلات في ذهنية العراقيين، وانطباعا سيئا بما يخص ادارة ملف الفساد الاداري والمالي، وتتمحور في موقف بعض الشخصيات الحكومية مع بعض الذين يعتقد انهم مفسدون، وحمايتهم بطريقة قانونية تبررها لهم المادة (136/ب) من قانون اصول المحاكمات الجزائية، التي وفرت حصانة للمديرين العامين ومن هم بدرجة خاصة في الوزارات من الإحالة إلى القضاء بتهم الفساد قبل الغائها من قبل مجلس النواب فيما بعد([8])، والا ان اي مشروع خارج هذا الاطار غير منتج ولا فائدة منه.
 
تسمية المصالحة الوطنية

من الطيب ان يجتمع الفرقاء العراقيون ويتكاشفوا عما في دواخل نفوسهم كل في مقابل الطرف الاخر لان التكاشف هو ما يدفع الى التقارب وينفي التباعد، وقد ورد عن اهل بيت العصمة ( لو تكاشفتم لما تدافنتم ) أي لما تدافنتهم الاحقاد والعداوات وسوء النوايا والخصومات اذ هي في الغالب تبنى على وهم وتصور تغلب عليه النزعة النفسية والرأي المسبق الذي ينحى عن جادة الصواب وحقيقة الحال، ولا يزول هذا الوهم الا بالتكاشف مع الطرف الاخر ونزع ما في نفسه من الرأي ومعرفة حقيقة نواياه غير النوايا المبتنية على الوهم والتخمين.
 
الا ان تسمية المصالحة الوطنية، خاطئة ولا تنسجم مع الواقع العراقي، حتى لو كانت هذه التسمية مفهوما سياسيا ساريا ومتعارفا في الذوق السياسي الدولي، الا انه هذا لا يعني ان يلزم الحكومة باعتماده.
 
فعند ذكر مصطلح المصالحة، فان الذهن ينصرف الى وجود طرفين متكافئين في القدرة والعدد والوجود، وهذا الامر كان ينطبق على الشعب العراقي خلال الاحداث التي مر فيها عامي 2006 و2007، اما الان فان هذا المفهوم لا ينطبق تماما، لان التصالح بين الشعب وقع اساسا، كما اسلفنا.
 
اما لو طبقنا هذا الامر مع الحكومة، والفصائل المسلحة التي تقاوم الاحتلال الامريكي وغير المتورطة بدماء العراقيين، لرأينا انها متفاوتة في القدرة والعدد والوجود، فهناك قطب قوي متمثل بحكومة منتخبة من واجبها فرض قانون الدولة ومسنودة بدستور وشرعية دولية، في مقابل اطراف اخرى لا تملك ما تملكه الحكومة من هذه الامتيازات.

ومن هنا تنتفي تسمية المصالحة تماما، لان قياسات القوة هي التي ستحكم حينها بين جميع الاطراف، بان يُخضع الطرف القوي، الضعيف لقانونه ودستوره وارادته، بدون اللجوء لهذه المشاريع.
 
وبتوضيح اكثر…عندما تأتي هذه الحكومة وتدعو الاطراف التي تختلف معها للحوار، وتعلن استعدادها لدمجها بالمجتمع وممارسة دورها السياسي السلمي بحرية، ليس له الا مدلول واحد وهو ان الحكومة تدعو هذه الاطراف او الفصائل (للمشاركة والشراكة) وليس (المصالحة)، لانها لم تختلف معها اساسا من حيث شرعية عملها، ولو كانت مختلفة معها ما دعتها، بل ان دعوة الحكومة لها هو اعتراف منها بصدق نهجها وشرعية عملها، واستعداها لفتح قنوات تفاهم معها، باعتبارها اطرافا غير مسيئة للمجتمع، انما تملك وجهة نظر وافكار ولدت ردة فعل معينة نتيجة التغيير المفاجئ الذي اصاب البلد، وما تبعه من اجواء عدم ثقة وتخوف وتوجس بين جميع الاطراف.
 
اما لو كانت هذه الاطراف، عدائية تتبنى اجندة غايتها الاضرار بالبلد، فلا معنى للتصالح معها، وحينئذ فان الواجب يملي على الحكومة، الا معاقبتها واجتثاثها اجتثاثا تاما بدلا من دعوتها للمشاركة.
 
اذن ان افضل تسمية بديلة (للمصالحة)، هي (المشاركة الوطنية)، كونها تعطي رسائل ايجابية للاطراف الاخرى بانهم شركاء في الوطن، ويمكن ان يكونوا شركاء في القرار ايضا باتباع الطرق الديمقراطية المعتادة.

——————————–

[1] – قال القيادي البارز في المجلس الاعلى الاسلامية، رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب الدكتور همام حمودي، في نيسان عام 2011 اي بعد ما يقارب الـ9 سنوات من الاحتلال الامريكي للعراق:” ان هناك أزمة طائفية في العملية السياسية. ما يؤكد ما ذهبنا اليه بان الازمة الطائفية موجودة ومترسخة في العملية السياسية، في حين انها غير موجودة في الشعب العراقي.
[2] – مقال للمرجع الديني الشيخ قاسم الطائي، حول الوضع الامني في  العراق، واسباب تدهوره.
[3] – من المعروف ان البلد شهد اوج احتقانه السياسي والامني ابان الحرب الطائفية في عام 2006، وبات حاضنا نموذجيا للجماعات المسلحة، فالمناطق الشيعية تحتضن مليشيات شيعية، والسنية كذلك، لكن ما ان اتفقت النخب السياسية عام 2008، على مقاتلة كل الجماعات المسلحة بشتى الوانها حتى عادت الاوضاع طبيعية الى الشارع العراقي، ما يدل على ان الازمة السياسية هي التي تنعكس سلبا او ايجابا على الشارع وليس العكس.
[4] – د جابر حبيب جابر، مقال بعنوان : المصالحة الوطنية حرث في بحر، نشر في جريدة الشرق الاوسط الدولية، العدد : 10708، بتاريخ 23 مارس 2007.
[5] – هناك حادثة حصلت تستحق ان تُذكر كنت شاهدا عليها بنفسي، في عام 2006 في فترة الاقتتال الطائفي كانت المناطق الشيعية مغلقة على الشيعة حصرا والسنية على السنة حصرا، حيث غامر شاب عراقي سني واهله وحضروا الى منطقة شيعية لخطبة فتاة ، وفعلا تم الاتفاق وعقد الزواج، مما يعني ان النزعة الطائفية غير موجودة لدى الشعب العراقي نهائيا، وان الازمة التي مروا بها ما كانت الا انعكاسا من الصراع السياسي.
[6] – وقع على هذه الوثيقة كلا من، الشيخ علي بابير والدكتور السيد محمد بحر العلوم والشيخ صلاح الدين بهاء الدين والدكتور احمد كاظم البهادلي والسيد علي سلمان جبار والدكتور همام باقر حمودي والدكتور ابراهيم الحسان ومحمد محمد الحيدري والشيخ علي خضر الزند والشيخ عبد الحليم جواد كاظم الزهيري والشيخ الدكتور احمد عبدالغفور السامرائي والشيخ الدكتور عبدالملك السعدي والدكتور فاضل الشرع و الشيخ جلال الدين الصغير والشيخ محمود الصميدعي والشيخ عبدالستار عبدالجبار عباس والدكتور محسن عبدالحميد والدكتور صلاح سالم عبدالرزاق والشيخ الدكتور عبدالجليل ابراهيم الفهداوي والشيخ الدكتور ابراهيم محمد بشار الفيضي والسيد صدر الدين حسن علي القبنجي والشيخ الدكتور محي الدين علي القرداغي والسيد فايق كاظم نون والشيخ الدكتور مكي حسين حمدان الكبيسي والسيد ظافر خلف كرم والشيخ الدكتور فؤاد كاظم زايد المقدادي وعبدالكريم ناصر وابراهيم النعمة والشيخ محمد كاظم فيروز يعقوب.
[7] – قامت تجمعات شبابية ونخب مثقفة وصحفيين، بالاضافة الى مرجعية الشيخ قاسم الطائي، بتنظيم هذه التظاهرات في اغلب محافظات العراق، والتي تهدف الى الاصلاح وقطع ايدي المفسدين وتحسين الخدمات وغيرها من المطالبات الخدمية.
[8] – صوت مجلس النواب العراقي في 18 نيسان عام 2011، على مقترح تعديل قانون أصول المحاكمات الجزائية رقم (23) لسنة 1971 المادة (136) والتي توفر حصانة للموظفين والمديرين العامين ومن هم بدرجة خاصة في الوزارات من الإحالة إلى القضاء بتهم الفساد. وعلى ضوء هذا التصويت طلب رئيس الوزراء نوري المالكي، من رئيس الجمهورية نقض هذا التصويت، الا ان رئيس مجلس النواب اسامة النجيفي، رد طلب النقض، “لان رئيس الجمهورية من هذه الدورة لا يحق له نقض القوانين التي يشرعها ويقررها مجلس النواب، انما له حق المصادقة عليها فقط. واذا رفض رئيس الجمهورية المصادقة عليها، فهذه القوانين تعد نافذة ومصادق عليها بعد 15 يوما من تسليمها له”. (حسب تفسير الخبير القانوني سالم حواس الساعدي).