كان لموضوع المصالحة الفضل الاكبر في ازالة الخلافات في اكثر من دولة من دول العالم التي كانت آيلة الى السقوط في مستنقع العنف والقتل والتنكيل، ان لم تكن قد سقطت فيه فعلا. لكن الملاحظ في تجارب الشعوب التي التجأت الى المصالحة، لم تلتجئ لها الا بعد الوقوع في الازمات والعنف، بعكس التجربة الاسلامية انفة الذكر، التي اتقت الوقوع بالحروب الاهلية والازمات بطرق وعلاج حكيمة.
مع هذا فان تجارب المصالحة العالمية تعتبر ناجحة الى حد ما، وتتلائم مع الوضع الحالي، ومنسجمة مع طبيعة البنية الاجتماعية السائدة في هذه الشعوب، لاسباب اهمها الجدية والرغبة والارادة بانهاء كل مظاهر العنف التي سادت بلدانهم واكلت الحرث والنسل من شعوبهم.
تجربة جنوب افريقيا:
بالرغم من الانتقادات القليلة نسبيا، وحالات الاحتجاج المسجلة من قبل بعض ذوي الضحايا، يجمع المراقبون السياسيون والمختصون في قضايا حقوق الانسان على اعتبار تجربة جنوب افريقيا من التجارب الناجحة في التعامل الديمقراطي الحضاري مع مخلفات وعواقب الانظمة الاستبدادية الظالمة ومحنة الحفاظ على توازن المجتمع والمضي في بنائه بعد السقوط الفوضوي المدوي لتلك الانظمة.
تأسست “الهيئة العليا لكشف الحقائق والتسوية” في اعقاب اندحار نظام جنوب افريقيا العنصري وبدعوة من الرئيس نيلسن مانديلا لتفعيل قانون رقم 34 لسنة 1995 الخاص برعاية الوحدة الوطنية واحلال التسوية العادلة الذي اقر تفويض الهيئة للعمل على ان تكون شاهدا حيا منصفا على الجرائم والانتهاكات والمخالفات المتعلقة بالحقوق الانسانية والمدنية وتوثيقها وتعويض الضحايا وتأهيلهم الاقتصادي والاجتماعي والنفسي، جنبا الى جنب مع التمتع بصلاحيات منح العفو عن بعض الفاعلين والمتورطين بتلك الانتهاكات فيما اذا رأت الهيئة مايستوجب ذلك، وحيثما كان ضروريا من اجل كشف النقاب عن الجرائم التي عملت اجهزة النظام العنصري على طمس معالمها.
كانت الهيئة مستقلة وغير مرتبطة بالدوائر الرسمية الحكومية، وقد ضمت في عضويتها نخبة من الشخصيات الكفوءة والمعروفة بوطنيتها وانصافها فكان على رأس الهيئة رجل الدين المعروف، رئيس الاساقفة دزمند توتو.
نظمت الهيئة اعمالها في ثلاث لجان عمل فرعية كانت على النحو التالي:
الاولى: لجنة استقصاء الجرائم والانتهاكات والمخالفات المتعلقة بحقوق الانسان والحاصلة خلال الاربع وثلاثين سنة الممتدة بين 1960 و 1994.
الثانية: لجنة تقدير وتقرير تعويضات الضحايا ورفع الحيف عنهم وتأهيلهم من اجل استرداد انسانيتهم المستلبة والحفاظ على ما تبقى من كراماتهم التي هدرها نظام القهر والاضطهاد.
الثالثة: لجنة النظر في طلبات العفو من قبل المتورطين والعاملين في امرة النظام الاستبدادي.
وكانت الهيئة قد اعلنت ان من حق كل مواطن شعر بالظلم باي شكل من الاشكال ان يتقدم بشكواه ويدلي بتصريحاته امام الهيئة وبضمن ذلك الذين كانوا مسؤولين في اجهزة النظام الذين يدّعون برائتهم ويطلبون الصفح والرأفة.
وقد جرت اعمال اللجنة علنيا وبثت وقائع جلساتها على الهواء من اماكن انعقادها التي شملت جلسات كيب تاون التي كانت برعاية جامعة وسترن كيب، وجلسات جوهانسبرغ برعاية البعثة المركزية الدينية، وجلسات راندبرغ برعاية كنيسة الانجيل. ومما اثار اعجاب الكثير من المراقبين هو اصرار اللجنة على تطبيق شعارها النزيه “لانريد عدالة المنتصر” التي سمحت باستجواب كل الاطراف بضمنها مسؤولين كبار في الحكومتين المندحرة والمنتصرة ومسؤولين في جبهة التحرير، واشترطت في ذلك ان تقترن طلبات العفو والرأفة بالمصارحة وكشف الحقائق امام الملأ وتقديم الاعتذار العلني للضحايا والشعب عموما.
وبموجب هذا المبدأ تمت مساءلة الرئيس السابق دي كلرك الذي امتثل امام الهيئة مقدما اعتذاره للشعب لما عاناه من ويلات تحت نير النظام الذي كان هو احد اركانه الاساسية، اضافة الى مساءلة كبار المسؤولين واعضاء في حزب المؤتمر الوطني الافريقي حيث تم توثيق الكثير من الانتهاكات من جانبهم ايضا.
انهت الهيئة اعمالها بعد ثلاث سنوات من العمل المتواصل، وقدمت تقريرها النهائي عام 1998 الذي القى باللوم على المخالفين من الجانبين، وتمت الموافقة على منح 849 عفو من اصل 7112 طلب، اي على اقل من 12% من الطلبات المقدمة.
تجربة تشــيلي:
بعد الاندحار المهين للجنرال بينوشيت في الاستفتاء العام الذي جرى عام 1990 تشكلت اللجنة الوطنية لكشف جرائم القتل والتغييب التي ارتكبت ابان الحكم العسكري الذي قاده الجنرال اوكستو بينوشيت بين عامي 1973 و1990. وكان الرئيس باتريسيو ايلون الذي اعقب بينوشيت قد امر بتشكيل اللجنة وعهد رئاستها الى راؤول ريتك السفير السابق في حكومة الرئيس المنتخب المغدور سلفادور الليندي.
وقد صدر التقرير النهائي للجنة عام 1991 حاملا اسم رئيسها، “تقرير ريتك”، الذي وثق اختفاء 2279 مواطن لم يتم العثور على اي منهم فاعتبروا ممن اغتالهم النظام لاسباب سياسية.
اللجنة الثانية التي تشكلت في هذا الخصوص هي ” اللجنة الوطنية للنظر في الاعتقالات السياسية والتعذيب” بطلب من الرئيس ريكاردو لاكوس الذي كلف الاسقف سيرجيو فالش بتشكيلها والاشراف عليها.
وقد نشرت وقائع جلسات اللجنة في “تقرير فالش” الذي تضمن جزئين، صدر الاول منهما عام 2004، فيما صدر الثاني عام 2005. وقد ضمت اللجنة مجموعة مرموقة من المحامين والاطباء النفسانيين وعدد من الناشطين في حقوق الانسان اضافة الى نائبة الرئيس.
وكانت اعمال اللجنة علنية ونشرت تباعا على الانترنت. استمعت اللجنة خلال مدة تفويضها الى 35,868 شهادة، واستقصت 400,000 حالة تغييب وتعذيب، وكشفت بان من بين المعتقلين كان هناك 1080 من الاطفال والاحداث الذين لاتزيد اعمارهم عن 16 سنة فيما تضمن هذا العدد 88 طفل كانت اعمارهم اصغر من 12 سنة.
كما كشفت عن 3399 حالة اعتداء جنسي على المعتقلات من النساء موثقة في ذلك 229 حالة للنساء اللائي حملن جراء حالات الاغتصاب التي تعرضن لها وهن رهن الاعتقال، فيما سجلت 35 حالة اجهاض تحت التعذيب.
كما وثقت اللجنة الظروف القاسية والمعاملة الوحشية التي كان يلقاها المعتقلون اثناء الاعتقال وظروف السجون الصحية والاجتماعية المزرية المخالفة للاعراف الدولية. وكان عدد كبير جدا من المعتقلين قد شوهد بانهم اعتقلوا في بيوتهم منتصف الليل حيث تم اقتيادهم بالضرب والسباب على مرأى وهلع زوجاتهم واطفالهم. هذا، وقد تضمن تقرير اللجنة النهائي قرارها بمنح التعويضات المالية والخدمات الصحية والنفسية والتعليمية للضحايا.
تجربــة غواتيمــالا:
تشكلت هيئة كشف الحقائق للتأريخ” بموجب اتفاقية اوسلو عام 1994 التي انهت الحرب الاهلية الغواتيمالية التي دامت ثلاثين سنة والتي راح ضحيتها 200 الف مواطن. وكان الغرض الاساسي لعمل الهيئة هو التحقيق في انتهاكات حقوق الانسان التي ارتكبت من قبل الاطراف المتنازعة، وتوضيح ماجرى من اهوال بين عامي 1962 و1996، حيث نصت الاتفاقية المعقودة في اوسلو على الاهداف التالية:
– الكشف بكل صراحة وموضوعية عن كل الجرائم والانتهاكات والخروقات التي تعرض لها الشعب الغواتيمالي بصرف النظر عن الجهة التي ارتكبتها.
– توثيق كل الاسباب والدواعي والظروف المتعلقة بتلك الجرائم والانتهاكات ونشرها في تقرير موضوعي محايد.
– تقديم التوصيات المعقولة الكفيلة بتعزيز وحدة البلاد وتقوية اواصر الاخوة وتشجيع اساليب السلم والتصافي جنبا الى جنب مع تخليد ذكرى الضحايا واحترام القضايا الوطنية التي ضحوا من اجلها.
وكانت الهيئة قد استجوبت آلاف المواطنين ومئات المسؤولين من اجل جمع الحقائق التي نشرت عام 1999 في تقرير الهيئة الموسوم “غواتيمالا: ذكريات الصمت” الذي ازاح الستار عن حقيقة حصول 42,275 حالة قتل، كان 23,671 منها من حالات القتل العشوائي و 6,159 حالة تغييب، على ان اشد الحقائق وقعا في النفوس كان في فضح نوايا التطهير العرقي حيث كان اكثر من 83 بالمائة من الضحايا من عرق المايا، وهم سكان البلاد الاصليين.
تجربة بيرو:
تأسست “هيئة كشف الحقائق والتسوية العادلة” في حزيران 2001 من اجل توثيق الحقائق عن جرائم العنف السياسي التي عمت البلاد خلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي. دأبت الهيئة على اعمالها لاكثر من سنتين حيث سلمت تقريرها النهائي الى الرئيس اليهاندرو توليدو في آب 2003. وكانت الهيئة قد ضمت مجموعة متنوعة من كفاءات البلاد الوطنية شارك في عضويتها عدد من الناشطين في حقوق الانسان والباحثين والمحامين وعلماء الاجتماع والصحفيين والفنانين ورجال الدين.
أصرت الهيئة على ان يكون عملها محايدا ولغرض كشف ماجرى وتتبع مسؤولية الجرائم والانتهاكات حيثما تقع على اي طرف سواء الحكومة او حركات المقاومة بفصيليها حركة توباك الثورية وحركة شايننك باث. استمعت الهيئة الى آلاف الشهادات والاعترافات وتعقبت مئات المواقع واجرت العديد من الفحوصات وتحليلات الطب العدلي وانتهت الى توثيق 69,280 حالة قتل تسببت في ترك 43,042 يتيم ليس لهم من يعينهم. هذا وكانت الهيئة قد وضعت مسؤولية تلك الجرائم حسب اولوية مرتكبيها فكانت حركة شايننك باث في المرتبة الاولى تلاها الحكم العسكري ومن ثم حركة توباك الثورية.
كما القت اللوم الشديد على سلطة الكنيسة في البلاد لصمتها المريب وعدم اكتراثها بما حل في البلاد من كوارث.
وكان من ضمن توصيات الهيئة اجراء اصلاحات جذرية في البنى السياسية والاقتصادية ومنح التعويضات لذوي الضحايا كما امرت بانشاء آرشيف فوتوغرافي كامل يوثق للتاريخ الجرائم والتجاوزات ويخلد ذكريات الضحايا.
تجربــة ألارجنتــين:
تأسست “الهيئة الوطنية الارجنتينية للمغيبين” بأمر من الرئيس راؤول الفونسن عام 1983 للتحقيق في انتهاكات حقوق الانسان، وخاصة الاختفاء المريب لالاف المواطنين الذي حصل ابان النظام الديكتاتوري بين 1976 و1983. انهت الهيئة اعمالها وقدمت تقريرها النهائي الموسوم “سوف لن نسمح بذلك ان يتكرر مرة اخرى!” عام 1984. وكان نشر هذا التقرير بمثابة الفاتحة الرسمية للبدء بمحاكمات جنرالات ومسؤولي النظام الديكتاتوري التي احيل اليها مامجموعه 30,000 حالة اختفاء واغتيال على ايدي فرق الموت الهمجية المسماة “الحلف الارجنتيني لمكافحة الشيوعية”.
—————–
[1] – مصدق الحبيب، المصالحة والتعايش في مجتمعات الصراع العراق نموذجا، جريدة الحوار المتمدن، العدد 1907.ـ