لعبة التضاد
1- (حوار المدن)
في الحافات الجنوبية التي تجمح بها كثبان الجزيرة ويمتزج ملح البحار مع عذوبة الأنهر ومرارة الشواطئ .. وفي أقصى النهايات الجنوبية الحارة والرطبة ، تلتقي صورة الخرائط الكونية في بقعة متوحدة نائية السهول والسهوب والوديان والبحار والصحارى والتراب الزجاجي المعقود بسنام ، والمنحدر على المسطحات المائية ، وهجرة الاهوار التي تجتاز مراحل الانغمار المختبئ خلف مجمعات القصب والبردي ، التي تعزز ادوار الحضارات وبقاء الألواح المحفوظة ، وهي تتوسط أكد وأور السابحتان في أديم الزمن المتجذر ، وارض ميسان التي تغفو على سواحل الحضارات .. حيث يأبى دجلة أن يعانق الفرات ، بعد تجدد الشوق ، لولا انقضاء الرحلة صوب الجنوب الذي يضم ملح الحب .. هناك حيث تغفو البساتين التي يتسيدها النخل بالخضرة المجنونة الدهماء ، لتنحدر من بينها بغفلة النهيرات* والجداول والشاخات الملتوية والمستقيمة ، المنبعثة من نهر الخندق والشط العظيم … وهناك ايضا تشق الأرض عموم الفضاء المترامي ، ويهيمن الهور على الأرض الجرداء ، متحديا الجفاف ، وناسخا ترنيمة الجدب .. إلا أن المراعي تسرح نحو الأرض الغربية . هذه الأرض التي ملت الانغمار ، راحت تلفظ ذلك الفيض في خورين يتسعان للحياة ، ويستقطبان ملح الأرض المترنح من أعلى حرارة شهدها عالم القيظ .. في حين تمتد على الوسيعة الشرقية بساتين الخضروات والحبوب ، لتتألق لوحتها كأفضل مستكمل لعموم الطبيعة ، من خلال انتعاش الأرض بفعاليتها والتي ترسم لوحة من جحافل الأغنام والجاموس والبقر .. فيما يحط المهاجرون رحالهم في مواسم قطاف التمر واعمال الجني والجذ .. حيث يمتد السهل المغريّن ليمتزج مع احتضارات الأرض الجدباء ، ويعانق بداية الصحراء ، ليرسم لوحة أشبه ببقايا الدماء التي جفاها الدهر.. وينتقل ذلك الطيف اللوني مرور بالحمار ، لينسخ لوحة الأنهار معلنا عن صيرورة الأشياء التي تفصح عن أبجدية التغيير ، ويعلن عن هوية منسوخة بكثرة الفيضانات وجماح الأنهر التي لا تعترف بالسكون ، حيث تقف الخربات شاخصة غريبة تنظر إلى حيرتها بانتهاء المفازات المتلوية ، الممتدة صوب تخوم الجزيرة ، وهي تطلق حسراتها غابطة إشكالية اللون وتحديه المستمر لزفرات الطبيعة المتجددة .. وهي تصغي لهمسات مباريات الجفاف والانغمار ، وضدية الانتعاش والموت ، وصراع الحركة والسكون.. إذ ليس سوى بضعة آبار تغذي محصول يبشر بلون الدماء ، وسيول من نبات البر الذي يحسد شموخ النخل الموغل بجذوره ، والذي يثبت سطوة الزمن .
2- (حوار الألواح)
هم ينبشون الأحداث التي تقبع تحت ثرى القرون ، العهود التليدة والسنون البعيدة ، والأحقاب الماضية العتيدة .. الألواح والأوتاد التي احتفظت ببقايا اليراعات المتشققة التي تخلصت من أخشابها .. أعمال النبش واكتشافات الرسوم ، النصوص والرموز والحكايا والأساطير والثبوت التي أوغلت في الجذور الراسخة في ضمير الزمن ، والحفريات وخطوط الألواح والتوضيحات التي ساح عليها شمع الدهر ، وأعمال التجصيص والترقيع والحفظ والترميم .. التنقيبات التي تصيب وتخيب راحت تكشف اسطوانات الخشب والحجر والفخار والورق المتيبس من فعل وسطوة الزمن .. اللغات التي تعثرت برموزها وهي تنتقل من أبجديتها بالحركة ، مما يعود علينا بحيرة متداخلة من زحام الأحداث الصاخبة الكبيرة والصغيرة .. الملاحم والفنون والأساطير الهيلينية والرومانية والإغريقية والآشورية والمصرية توغل بنهايتها ، وتبحث عمن يجد تلك الألواح والنقوش ، لتخطها بمداد التاريخ الذي لا يعرف حدا للوهن او العجز .. التاريخ الذي يخوض غمرات المصادفات الشاخصة والمتجنية ، وينأى عن فترات التدوين الذي يخاتل العمل والانجاز .. الاحفار والأختام التي غاصت في الحجر والطين والكلس ، والوثائق الموشومة داخل الأقبية والكهوف ، والدهاليز العتيقة ، والمخطوطات والرقائق والصكوك والأعمدة الرخامية العالية ، والحروف التي اختلطت معها رموز الزمن ، راحت تكشف عن حقيقة المعادن الرجال والمواقف ، وادوار الصنّاع ، فصيغت أعمالها بمسكوكات من ذهب الحكايات وفضة المعارك وبرونز الأعمال الخالدة .. وهكذا لم تنقرض الحضارات بسبب تلك الملاحم الخالدة والأسفار الباقية ، وأفعال الرجال الخالدة التي طرزتها المواقف النادرة النافعة ، والأحداث الوضاءة التي حققت وثبة للقرون القادمة .. الإيقونات والصور والأشكال ما زالت تشير بأنامل ناصعة البياض إلى الأثر الذي يشير إلى فعل الحياة ودورها .. ويصنع الحياة من جديد .. بل يجدد الدم بجسدها الغض .
3- (حوار الخيال )
التغيرات والتبدلات والانعطافات كشفت عن حجم الأمل البشري ، وخبأت الورقة الساقطة للتألق ، فالخيال يا صاح هو زاد الحقيقة ، على الرغم من إنكار الأخيرة له ، نعم ، قد يترفع ذلك الفيض وينعته بالوهم ، وتتعالى وتتغالى لتنعته بشتى صنوف الاستهجان والنكرات ، لكنها في هدأتها وسكونها ووحدتها تحن إليه ، بل تمد إليه يدا الحنو .. تترفع العقول عن ذكر الخيال ، وتحسبه ضربا من اللهو ، وإيغالا في الشرود والوهم ، وتعمدا في خوض الشطحات والتحليقات في العوالم الأخر .. وتستحضر العقول أزمات مرت وعفى عليها الدهر ، وتستهين مدعية أن هذا الخيال لا يصلح للمواجهة ، فتجهد هذه العقول لأن تجد البدائل والمعالجات ، وفي نفس تلك اللحظات تستعين كأول ما تستعين بالخيال ، وتسير خانعة لتقف أمامه باستحياء ، وهي لا تفتأ أن تكرر عبارات الندم .. قد يهذب الخيال كل مشاهد التفكير ولو كان ضربا من سياحة العقل ، لكنه يقف فيصلا بين هذه السياحة ومثول المنطق ، لذا لا تتقاطع مع سطوة الخيال كل النظريات الفائتة واللاحقة ، ولا تحد الرؤى من أدواره ، لأنه يسمو أحيانا حتى على حدود الكون ، ويحلق بنا إلى استشفاف رؤى خارجة عن مدارات العقل والتصور وعوالم الرصد والتكهن .. وعليه لم ينحصر الخيال بعوالمنا المحدودة ، إنما تصل رحلاته إلى أبعاد لا يتقصاها العقل ولا تدركها عوالمه .. قد يتكفل الخيال بصناعة ما تعجز عنه الرؤية الثاقبة متذرعا هنا من حجيته وبداهته التي تسبق تبلور الفكرة وولادتها وصناعة النظرية وانتشارها ، فحتى الموت بغرابته المعروفة يقف إجلالا إلى الخيال لحظة استحضاره لحقيقته .. إن حدود الواقع تنتهي مع امتدادات عالم الخيال ، وتستعين بعوالمه بل تتكئ على مملكته العريضة ذات الأفق المتجدد .. باستطاعة الخيال مجارات الحقيقة بواحدة من ابرز بنياته وهي الأحلام التي تنأى عن لحظة التفكير البديهي وتغرب عن حرارة فعل التفكر .. قد يصف الشاعر مواطن ومعالم طبيعية من صلب خياله تعادل عالم الحقيقة وتسمو عليه ولا عجب أن تكون هذه المواطن غير قائمة بالمرة ، او قدر لها أن تتناص مع معالم الحقيقة .. لم يكن الخيال عالما ساكنا كما يتصوره البعض ، إنما هو دفق من الحركة المفعمة بدم الحياة وضجيجا من الجلبة المقرونة بالسفر والطواف والمغادرة إلى عوالم لا نعرف معالمها ولكننا نخبرها .. قد تحد ثورة الاتصالات من جموح الخيال وسطوته ، وقد تقرب تلك المعالم التي نحج لها ، وتلعب لعبتها في تبديد أوقاتنا وتقصير الزمن الذي يلزمنا بالجديد ، لكنها لا تعطينا لحظة من فعل الخيال وهو يختزل تفكيرنا ويضع حدوده أمام جماح التطلع .. إن كل المكتشفات وعلل النظريات خبأها الخيال بطيه واحتفظ بها تحت جناحه أملا من أن يجد من يكتشفها ويزيح النقاب عن رموزها ويبدد ظلمتها ويجلي غمامتها .. وكان الإنسان هو خير من امتلك هذا الشرف وذلك السبق . قد يجتاز الكائن حدود المألوف ويخترق العادي ويقفز على البديهي .. قد تتبدد كل الجيوش أمام حرارة تلك الأحداث ، أمام واقعيتها ، لكنها سرعان ما تعود سابحة محلقة في الخيال لتخترق صومعته وتسبح بفضاءاته لتجد الحلول جلية وتعود بها وتصبح مواجهة حقيقية وواقعية ، بل هي أجلى من شموس الواقع نفسه .
4- (حوار الكواكب)
مدخل
حينما تصطدم بهالات الشخوص ، وتنتقل إلى تلك الهالات المحلقة الهائمة ببعضها ، تقفز أمامك مشاهد الضياع في مدنك ، وتتألق الخرائط المتعرجة والمتشابكة لتحكي قصة من فيض هذا الوجود الغريب .. تمتد الخيوط السديمية الملتمعة هنا او هناك ، الخيوط التي قهرت توقعات بطليموس وأبحاث البيروني ، تلك التي تحفل بالبديع المدهش والشارد اللاابالي .. ذلك الذي يتحدى كل عدسة او مرصد او قبة فلكية او مركز لمرصد .. ويضحك على سذاجة المنظار وآمال الإسطرلاب وتهويمات الكشافات التي تتغالى بعدساتها العمياء .. هناك تجهر أمامك تلك السطوة الغريبة التي تحيلك لأن تحبس أنفاسك ، وتحد من شرود فكرك وتزاحم دقات قلبك .. انه الكون الذي يأتي كل لحظة بالجديد الخارج عن دائرة توقعاتك ، ومدى أحلامك ، لذا فثمة تصحيح يوحي لك بالتوقف يقول إن عظم الفلك ثابت ينظر إلينا ، وهو يلتقينا لأننا نطوف حوله .
(خريطة أولى)
بشعاعها الجميل الحارق تقهر الأكوان ، وتشمخ معلنة التحدي والتجدد .. تخشى من العيون فتحرقها ، او تبعث لها نذيرا بالعمى كما فعلت بغاليلو .. كتلة من لهب مشتعل ، وضوء محترق يضيء كل الوجود بدخانه الثقيل المشتعل .. هي لغز غامض ينز على جداره سيول النجيمات والمذنبات المتقافزة هنا او هناك .. بكسوفها تبعث للوجود رسالة الانتهاء ، فتبث الحزن الذي يطغي على عموم الوسيعة .. فالطير يؤوب إلى عشه مسرعا قلقا ، والحيوان يحد من حركته ويعود إلى مكانه خائبا ، والسكون يعم الأنام .
(الزهرة)
يا سيدة البريق ، ومعدن اللمعان ، تتسيدين فضاء القلوب ولا تعرفين سوى أبجدية المثول .. الحلكة التي طارت خلف خيوطك ضاع لهاثها في غيهب المجهول .. تنشرين ظلك في كل الزوايا ، وتتركين للحيارى ذلك التلألؤ المتجدد الذي يزاحم مدن الصفاء .. القدماء الذين صيروك إلها وصنما للمهتدين راحوا يتبعون ظلك وتاهوا ، لأنك لا تتركين ظلا .. نعم ربة الحب والجمال ، الغيوم التي تحول دون طلعتك صارت حجبا لجمالك الذي فتق كل الحجب ، وراح يعاكس خيوط الشمس بتحد ، أسس لسمفونية النور ، حتى بتنا نجهل ما في عالم الشمس ، اعتقد أنها مؤامرة أزلية عمدها النور الذي يوغل في الشروع .. يا توأم الأرض النائي ، ورديف معاناة البشر ، يحسبك الآخر مخزنا للآهات ، وأنت تحافظين على أنين الفقراء ، وتمزجين بكاءك البركاني مع هم الأرض الكبير لتكتمل رحلتك الكبيرة المجهدة وأنت ترادفين سبل الشمس ، فالكل أيقن انك الراعية بعد أمنا الأرض ، حتى حسبوك خالة البشر .
(المريخ)
لم تبخل كالآخرين عن جوفك الذي يضج بالحقائق ، ولأنك صاف كنهر قريتنا الجنوبي ، فقد شذت حمرتك وكسرت أسطورة التوريات وصرت اله الحرب التي جهلت رموزها .. العشب الذي يزاحم جوفك الكبير يضج بك لترفع لنا هالة من ثلوج القرون التي راح ديموس وفربوس يعيد حكاية الرعب والخوف .
(المشتري)
أيها العملاق المتلألئ في العنان ، يا منهل الغبش المتجدد ، ويا ولادة طيف الوضوح .. امتدادك الذي أتحفته بأطياف اللون المتراقصة راحت تخاتل ناظرها رغم الأبخرة الكثيفة التي تطلقها ، والتي تظهر مدى همك بالحب ، حتى صار بهاؤك محجا للنجوم والفراقد التي سورتك ضاحكة باسمة ، وهي تسبح في أديم أزلي من الغناء الذي لا يهدأ .. حتى أن أقمارك الأربعة راحت تعبث بالزمن ، وتغير أماكنها كالقطط وقت الولادة .. او كالأقمار المختبئة خلف الغيوم ، وهي تتوارى ، وكأن خيوط الشمس تتبع قاماتها الفارعة .. فتجهر تارة وتغيب تارة أخرى ، وتسمو مرة وتضمحل في الأخرى ، وهي تؤدي مناسكها اليومية في مشهد حر رتيب ، ونظام فاق أنظمة النحل .
(زحل)
يا اعرق من في السماء ويا أجمل السابحين ، سر بغلوائك لا تلتفت إلى الخلف خوفا أن تحد التفاتتك الجميلة من جموحك البعيد .. تسورك القلاع الحصينة التي تخشى سطوة الجمال .. وتحيطك جيوش الجسيمات التي تظهر تارة وتختفي تارة أخرى وهي تعبر عن موقفها في حب الحياة وسر التدفق وكأنها تجسد ألعاب الطفولة وكركراتها التي تخترق الصدى لما قبل الغروب .. وتميل هذه الجيوش وكأنها خلقت لألعاب منظمة ترتبط حركاتها بفعالية الطبيعة ، وحركة النجيمات المتناثرة ، وهي تدور حول نفسها ، وتلتف على أجسام بعضها تاركة لوحة من القلق الجميل ، والزحام المنظم الذي يعكس أوضاع مختلفة من التماوجات والتحليقات والتشكيلات الملتمعة ، التي تؤكد مدى صناعة الخالق .. في حين تعكس نجيمات قريبة أخرى ، أوضاعا غريبة وبحركة رتيبة ومتمايلة معززة بالأضواء الملتمعة والمويجات العاكسة المتذبذبة بين اللمعان والاضمحلال .. وهناك إذ يرمي الكوكب الأم ظلا ظليلا ، وكأنه يوزع مهام بنياته ، وفق جدول من النظام المتقن .
(أورانوس)
تنأى بنفسك منعزلا عن العيون .. وكأنك خلقت لتجسد غربتنا ، وتعيش ضمن دائرة من الانسلاخ البعيد .. وعالم من الوحدة التي لا تستقر بقرار … أيها الشارد صوب تخوم المجرات النائية ، السابح في تيه الزمن ، الراقد في خلوة الانطواء .. تلفك القرون بغضبتها ، ويأخذاك الزمن بطيه ، بردائه الثخين .. وأنت تجدد تعلثمك مع الزمن ، وتخشى الوجوه القريبة .. الوجوه التي سألت عنك وأنت تغادرنا دائما .
(نبتون )
خجل نبتون جعله يبتعد عن ناظره .. وتورياته حتى عن المراصد تزيد الناظر تطلعا وترقبا لطيفه البعيد .. فهو يعلن عن قمرين يستقبلان من أراده ، ولكنهما يعزفان عن اللقاء .. ويرميان بعالميهما نحو بعد لا يصل إلى دائرة القريب .. أيها القريب البعيد حتى في حالات إشراقك ، تسمو أطيافك وتستقبل من عيون الآخرين وأنت تشيح بوجهك البهي .. وكأن الخجل قد اخذ منك مأخذا وناف عن طلعتك وهي تمضي ببطئك المعروف .
(بلوتو)
موغل في العنان ، وعميق في النظر .. تسمو في الأعالي كأنك طائرة ورقية لا تكترث بناظريها او فراشة لا تبالي بالآخرين .. طيفك الذي بان كالسراب قد غاب عن العيون ، وشارف لما بعد انتهاء الأشباح .. حتى غدا خيالك كسراب الظهيرة .. وأن المدارات التي تحيطك قد أعياها السير خلف ظلك الوئيد .
(حوار التراث)
ما تمخض عن فعالية السابقين من الأمم الغابرين والحضارات الفائتة بات يؤلف لنا أساسا في تكوين الحضارات وبنى ، البشر ويضع مشاهده في محاور تكوين الشخصيات والأحداث ، واثر ذلك في مدى التمازج والتلاقح والتوالد .. فالعلوم والفنون وبما أفرزت من تقاليد وعادات ومقتنيات عبر القرون الساحقة الطويلة ، هي ما يعكس مكانة الأمم ويفصح عن ادوار الشعوب ، وهو ما يؤطر الشكليات التي خلفها الماضون ، ويحدد مدى ما تمتع به الشعوب من حضارة حية او حضارة مفاجئة مقلدة .. يحقق الترات تعزيزا وتجسيدا لهوية المدن والشعوب ، فهو ما يحقق اعتزاز تلك المدن والشعوب بعاداتها وتقاليدها وتقليعاتها وفلكلورها ، وما يضع جميع ما ذكرنا في دائرة ما يميز هذه الشعوب عن بعضها ، لاسيما في كيفية المحافظة وتطوير ادوات التراث .
(حوار الحياة)
في زحمة الألوان المتراقصة ، والأطياف المتعاكسة الطافحة ، تقفز أمام مشهدنا القلق جملة من طبائع متعددة متفاوتة ، تسبح بنا قبل أن تموج في ذلك الأفق المستديم ، وتتلبسنا وهي تحيلنا إلى عوالم وادوار متعددة وخاضعة لنزوة الروح ومطلب القلب .. إنها مجبولة على الانتقالات من حالة إلى أخرى ، وكأنها موهومة بداء الصيرورة ، او حب الحتمية في التغيير والولادة .. فهي تبحث عن غرائب الطبع ، وغرائز النفس ، وشهوة الروح .. حتى يخال إليك وبعد فحصها والتأمل بأبعادها انك أمام سطوة متقنة في الحبك والغلق ، وقانون محكوم بمنطق الطبيعة الذي لا يمكن أن يقبل القسمة على كل الأرقام .. إنها معادلة عجيبة تخرج من زوايا توقعاتنا ، وتدخل في خضم القياس والدلالة والرهان .. إنها دراما تضم ثلاثة ادوار تعزف على وتر الكون ، ولا تقبل عنصرا هجينا رابعا ، وهي تتحكم بحركة الكون ، وتنعش روحه بالحياة الدافقة والعطاء المستديم .. والمشكلة أن هذه الأدوار تلتقي عن قرب ، ولكنها تبعد كالمحيطات المترامية ، او كالجبال الشماء او كالصحارى الممتدة .. عندما يلتقي الإنسان والحيوان والنبات ضمن شراكة غريبة لصناعة الوجود ، فثمة حلم يطوف على تلك العوالم الثلاث ، يتحرى الملكية والهيمنة ، ولكنه يمنى بهزيمة الوجود .. فالنبات ناف على طبيعة الحيوان وزاحم وجوده ، والحيوان وجد من النبات ضالته وطعامه وبيته ، وحينما اتفقا على إنهاء أسطورة الإنسان ، راح العقل ينسخ هذه الأسطورة ، ويسمو على الكون .. وراحت طبيعة الترصد تنتشر بين هذه القوى الثلاثة ، فكان كل طرف ند للآخر ، وكل عالم يزاحم العالمين الآخرين ، وهيمن الجميع على البقاع والأصقاع ، وملك البحر والغابة والصحراء ، وأشعل الطمع والهيمنة حربا ودية بين كل الأطراف ، انتهت برتابة لا يمكن أن تبخس واحدا عن آخر ، فانتهت هذه الحروب القائمة ووقع الجميع اتفاقيات وتفاهمات درأت سطوة القلم وجبروت الورق ، ولم نعرف تنازعا حدث لغاية خاصة او شهوة او رغبة ، باستثناء الحاجة الفطرية والتي تفعل ثقل تلك الأدوار والمهام
(حوار الآخر)
لا عجب فان الشاعر يعمل عمل الشمعة التي تحرق نفسها كيما تضيء الدرب للآخر ، وهو الذي يقدم قلبه أمام الملأ وينذره قربانا للآخر .. ويخترق ظلمة الليل ، ويجتاز عتمة المصاعب وفيض التمزق ، ويستقبل رصاص الحاقدين بصدر كالترس كيما ينعم الآخر بليل وادع .. وهو خير من يجعل الراصد لأرضه يستشيط غضبا ، ويستهدفه ، ذاك انه يقدم روحه بتنسك وإيثار عجيبين حتى ينعم الآخر بالسكينة .. إن الإيثار لا يولد ، وإنما يتجسد بولادة لحظته التي أفصحت عن تمردها وعدم إذعانها لنداء القلب الذي يضادد سطوة العقل ..إن تمردنا عن لحظة الخضوع ومرحلة الإذعان دليل على انتعاش مرحلة العقل التي كسرت كل مدن الجليد التي تحيطنا ، واستجلبت خيوط الشمس ، لتلعب لعبتها داخل تلك المدن المهددة بضياع الحقيقة ، وانجلاء الواقع .. يمكننا استخلاص مواقفنا من خلال اللحظات الحارة التي تنسجم مع الحدث الراهن والخطب الجلل .. كما يمكننا قياس مدى شجاعتنا في ذات اللحظة التي يشهر الآخر فيها رايات الهزيمة .. قد يخفق الشاعر في مواجهته لسطوة السيف ، وغضبة سرف الدبابة ، وحبال المشانق ، وثقل المقصلة ورهبتها ، ولكنه يواجه المارد بقلب حديدي يفوق كل التصورات ..
(حوار الإبداع)
قد تحيلنا انثيالات ماورائية إلى تقصي مجموعة من الأحداث التي تصل إلينا كخيوط منبعثة من قنديل خجل ، او شعاع شمس حجبته الجبال الشم ، فنحكم على أمر ما حكما مبتورا نتلمس أن تتحفنا الحياة بحقائقه والإفصاح عنه ، فنرجح مثول وسر ذلك الإبداع إلى جملة أمور تدخل في اطر الاحتمالية ، وتنأى عن قطع الجواب ، لتوغل في حياة أخرى محفوفة بالجن .. او عناية الإله ، او القوى الخارجية التي تدخل فينا عنوة ، او قوى خارقة تتحكم بنا ، او شذوذ في النفس .. قد يحكم على العبقرية بأنها تصيب غير الأسوياء من بني البشر ، او أنها تتلبس بالجن وتؤدي إلى التفوق والإبداع .. او الوراثة والاجتهاد والإتقان .. قد يقفز التفاعل ليحسم هذه الأمور ، وقد يكون التمازج مع المشاهد والأفكار والأحداث ورصدها عاملا مكملا للإبداع .. قد يخترق الإبداع الحدود التقليدية للكائن ، او الرتابة الروتينية للحياة ، فيأتي بالجديد المشفوع بالتأمل والاستنتاج والاستدلال .. إن الإبداع هنا يتمرد على المحسوسات الطبيعية ، وينعطف بها إلى عوالم أكثر تأثيرا وإنتاجا ، بل هي أعمال خلاقة تختلف عن الأعمال الشكلية التي نمارسها ، فتكون أعمالنا في طرق ومشاريع وبرامج محسوبة ومعجونة ، بطرق راقية ومؤثرة ، يكون الحدس المقنن أساسا لها ، وتكون الجمالية إحدى أهم أهدافها ، بمعنى أن المبدع هو من يضيف إلينا أشياء انفعالية تختلف بصيغها ونوعيتها عن الأشياء الدارجة والطبائع الاستاتيكية والثبوتية في الحياة ، بل يضيف المبدع إليها تعديلا وتقويما وانتشاء لا إرادي، يستجيب ويترجم الشعور وفق العملية المحاكاتية الخلاقة.. صحيح انه يتم بطرق نفسية خاصة ، ولكنه ينتقل إلى حالات من التطوير والتفنن والتحكم ، طبقا لما يخرج عن دوائر الرتابة والتقليد ، ويدخل في إطار استكمال عملية الخلق القاصر .. إن المبدع مكتشف لعوالم ورؤى جديدة ، قد نعرفها ، ولكننا نجهل تفاصيلها ، وهذه العوالم والرؤى خضعت لعمليات فكرية طويلة وملحة ، وقدرة على التكيف والانصهار والتقمص والاقتباس ، ومعرفة الأذواق والنزعات .. إذن فالإبداع فعل يرتبط بالفائدة ، ويتوخى منه الإنتاج والتطوير .. وهو عمل اثر في نفوس الناس ، لاسيما المبدعين أنفسهم .. وانه مبادرة وان كانت مكرورة ، ولكن بطرق أدهشت الآخر ، وانصبت إليه الحوافز والمشاعر .. وهي قبل هذا وذاك عمل تجسد بمشاعر وحوافز ومعاناة لطالما كانت متراكمة ومكبوته .. وهو ليس تفكيرا شكليا ، بقدر ما كان تراكما من بحث طويل مستفيض اثر في الذائقة العامة .. وهو حصيلة عمل مضني وصراع ملح ، تكلل بنتاج فكري وعقلي عميق .. ويمكن للابتداع أن ينحصر بعملي الشعور واللاشعور ، ويتمخض عن دواعي ودوافع سلوكية لها علاقة بتطلعات المبدع ..
(حوار الفن)
الفن صفاء روحي محض ، وثورة على الفوضى الوجدانية ، والانثيالات الموروثة المكتسبة ، التي غزت الشعور بطرق زمنية متعاقبة .. يأتي من توظيف والتقاء التخيل بالخيال ، واختيار واختبار ونصاعة الصورة والمشهد ، وجلاء الكلمة واللون ، بعيدا عن الفطرة والتلقائية .. واعتمادا على عملية توظيف واستخراج الإرهاص بطرق موضوعية وجمالية مقبولة .. وقياسات تتفق عليها الأذواق وتتقبلها النزعات ، توالفا مع المزاج الشخصي للفنان وحالته الوجدانية المتطورة ، مراعيا بذلك اثر النفس والبيئة والوسط والمجتمع ..
(حوار الحرية)
(إنني كلما بحثت في ذاتي عن السبب الذي يدفعني إلى العمل ، فإنني اشعر بأنه ليس هناك من علة لأفعالي سوى حريتي ، ومن ثم فإنني اشعر بوضوح بان حريتي إنما تنحصر في مثل هذا الاختيار) (بوسويه)
الحرية صدى العقل واستقلال الإرادة ، وضرورة يتميز بها الإنسان عن غيره .. نعم ، ما برحت الحرية تؤلف لنا إبهاما وغموضا .. وان كثرة تداولها جعلها في مرحلة المعروف المجهول والمسلم المؤجل ، ناهيك مما أجادت به تعاليم الفلسفة واللاهوت والسياسة والأخلاق والاقتصاد .. وهكذا بقيت الحرية على الرغم من أنها سر الوجود ، مشكلة العصر وعقدته وإحدى الظواهر الأخلاقية الخطيرة التي تتجسد في النشاط الإنساني ، وواحدة من دعامات الاستقلال الذاتي تعاني من غربتها ورواج مفهومها ، وتكرار استخداماتها ، وتجدد استعمالاتها ، حتى حسبوها قائمة شاخصة ، ولكنها تبتعد عن الواقع وتقترب من النزوع الطوبائي في تطبيقاتها .. وتناقض الحرية والإجهاز على أهدافها يكمن في عطف تطبيقاتها وبيان برامجها ، وهو ما يجعل السلطات تخاف من إفشاء أهدافها ، والعمل بإحكامها وأدبياتها .. وهكذا تعرضت الحرية إلى المحاربة والانتهاك ، وانتقلت وتعرضت إلى أن تغير لباسها وفقا إلى تطلعات المجتمعات وبيان توجهاتها .. وهي مفهوم تلقائي يطور نفسه وفق الأسس الصيرورية ، ويعدل امتداداته طبقا لحاجات ومعطيات العصر .. لذا تبقى الحرية تناضل من اجل بقائها وتطوير فقراتها وبنودها وتعديل محتواها ودساتيرها .. وهكذا أثبتت الحرية للحياة بأنها صدى العقل الذي طالما بحث عنها وشد الرحال إليها ، وأخيرا توجت هي فعالياته .. بل هي أهم نتائج تطور الفعالية العقلية ، وخير مشجع ومفطن للفعالية الفكرية والعلمية .. وعلى الرغم أن المجتمعات التسلطية حاولت وتحاول التنصل عنها ، إلا أنها ما فتئت تطارده وتزاحمه ، حتى أصبحت هاجسا يطارد الطغاة والمتسلطين .. إلا أن العالم أدرك أنها تحدد رجاحة العقل ، وتجعله بمستوى مهامه وتفرده عن بقية الكائنات الأخرى ، لا سيما في خاصية استثمار معطياتها وتوظيفها وفق الأسس المنطقية السليمة ، والتي تتحدد بالأخلاق قبل العادات .. وهذا ما جعلها تتأرجح بين الثبوت الحتمي والتجدد والتفعيل .. لقد فسرت الحرية على أنها وهما من الأوهام الكبيرة التي سطرتها البشرية ، والتي اعتبر الإنسان بمعرفتها والعمل بها نصف اله .. وبان بياض ثقلها بعد أن أرقت أذهان المفكرين والفلاسفة والساسة ، وأقلقت ليل العارفين والشعراء بعد أن تحقق لنا أنها مفتاح جميع مشاكل الحياة .. وظلت الحرية وعلى الرغم من معرفتها وحاجتها مشكلة اجتماعية أزلية قائمة ، ودراسة شاملة للوجود الإنساني ، ناهيك من تبجح المجتمعات وإيهامهم بتطبيقاتها والعمل بها .. وتحقق للبشر أنها فعلا مشكلة عالقة لما تحسم ، إلا بجوانبها العملية التطبيقية ، كما أن ثقلها يكمن بانتقالها من الحسية إلى الأخلاقية ، وخروجها من محور الشكلية والطقسية ، وتجسيدا عن تحقيق الإرادة الذاتية البعيدة عن الحتمية .. وإذا كان العقل هو جوهر ومحور الوجود الإنساني فان كماله لا يتم إلا بالحرية .. فالحرية أصبحت حقيقة لا تقبل التفنيد ، شريطة أن نعرف ما يضادها ويقف دون تطبيقاتها .. وهكذا لم تكن الحرية عملية عادية أكثر من كونها حاجة حضارية ، ما جعل السلطات تتذرع دائما بخطابها غير المباشر من أنها خطر على مناصب الحكام والطغاة ، وان صداها يزعزع عروش وكراسي البلاطات .
* يقول السيد عبد القادر باشا عيان إن عدد النهيرات المنبعثة من ضفاف شط العرب تقدر بـ 634 جدولا منها 470 في الضفة الغربية تقع على خط 20-22 درجة و25-44درجة شمالا