اسامة بن منقذ (4/تموز/ 1095- 1188م 488 ظ- 584ه)، مؤلف كتاب الاعتبار الذي نحن بصدده ، يلقب بمؤيد الدولة، وكذلك عز الدين اسامة، يُكنى ابو المظفر. وهو اسامة بن مرشد بن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ بن محمد بن منقذ بن نصر بن هاشم بن سوار بن زياد بن رغيب بن مكحول بن عمرو بن الحارث بن عامر بن مالك بن ابي مالك بن عوف بن كنانة بن عوف بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، ينتهي نسبه الى قحطان.
ولد في قلعة شيزر من عائلة عربية تولت امارة القلعة وناحيتها زمناً طويلاً. وقلعة شيزر، تقع على نهر العاصي الى الشمال الغربي من مدينة حماه، هي اليوم بقاياً آثار. ولكنها كانت يوماً احدى القلاع التي عصيت على الصليبيين مراراً، وعوقت خططهم، فأضطروا كثير من الاحيان الى تغيير طريقهم نحو اهدافهم العسكرية التوسعية، حيث اسهمت اسهاماً كبيراً في مجابهة الصليبيين، واستشهد منها العديد من الفرسان المعروفين.
واسامة بن منقذ من قبيلة كنانة، وهي كثيرة العدد، انتشرت في انحاء الجزيرة، ونزل بعضهم في بلاد الشام، وكانت هذه القبيلة تحمل معها مفاخرها القديمة في اعتزاز، فقد كان منها شجعان وفرسان وعلماء، وظلت على سيرة الاجداد في الاباء والعزة والشهامة، وحافظ ابناؤها وفروعها على عادات العرب في الفروسية والبطولة والنجدة.
وكنانه، قبيلة كبيرة اقطعها صالح بن مرداس الذي ملك الأمر في حلب من بعد الحمدانيين اقطاعاً في جوار قلعة شيزر الاثرية، وقد سمى العرب الهضبة التي تقوم عليها قلعة شيزر (عرف الديك) لبروزها وارتفاعها، وزاد من منعتها، ان نهر العاصي يحيط بها من اكثر جهاتها، ثم حفروا خندقاً في الصخر، يقطعها عن البر، واقاموا فوقه جسراً يصلها به حين يريدون.
خط بنو منقذ صفحات تقف للامجاد العربية وتصل بين الماضي والحاضر، واشتهر منهم رجال كبار، كل منهم فارس شجاع او شاعر اديب، وذاع صيتهم خلال القرن الخامس الهجري، وكانت منازلهم بين حلب وحماه، وقد اتخذوا مدينة شيزر التي تقع على خمسة عشر ميلاً غربي حماه عاصمة لهم، وكان حصنها مشهوراً في التاريخ يطمع فيه الملوك والقواد، وكان الروم قد اخذوه ولكن علي بن مقلد استرده منهم وبقي في حوزتهم قلعة من قلاع العروبة.
وتذكر كتب التاريخ، ان العرب فتحوا شيزر في فتوح الشام، وكانوا يعرفونها من قبل، فان امرؤ القيس ذكرها لهم في شعره، وهو في طريق رحيله الى ديار الروم على ما يقول الرواة، ثم دارت من حولها بعد ذلك معارك بينهم وبين البيزنطيين حين اخذ الضعف يغلب على الدولة العربية قبل مجيء الافرنج واستخلصها البيزنطيون لانفسهم احياناً واستردها العرب احياناً، ثم وقعت في ايديهم زمناً طويلاً حتى استردها عز الدولة سديد الملك ابو الحسن علي، جد اسامة بعد ان اقطع بنو منقذ شيئاً من الارض.
وقد تعاقب على شيزر بنو منقذ ومنهم مجد الدين مرشد، والد اسامة، الذي تنازل عن السلطة لأخيه عز الدين سلطان عم اسامة سنة 504هـ، وكان عمر اسامة يومها ستة عشر عاماً، وقد مضى على مجيء الافرنج ونشوب الحرب الصليبية اربعة عشر عاماً.
في هذا الحصن الجبار، رزق مرشد بن علي سنة 488هـ، غلاماً سماه اسامة، وكناه ابا المظفر، ليكون خلفاً لأبيه في بطولته وشجاعته، وصادفت هذه السنة حدثاً هاماً في تاريخ العالم، هو اعلان اوروبا حربها ضد العرب.
وما بلغ اسامة سنتين من عمره حتى وصلت جيوش الصليبيين الغزاة الى الشام، وصالت السيوف وسالت الدماء ووقع القتلى ودخل العرب في محنة جديدة، ووقف العرب وجهاً لوجه امام الغرب يدافعون عن ديارهم وحصونهم وارضهم، وكان من الطبيعي ان ينشأ اسامة على اسلامه، فانصرف الى ركوب الخيل والصيد، ودفعه ابوه الى الفتوة، ومرنه على القتال، فوقف امام الاسود، وشهد الكواسر، وسكن قلبه الى مواجهة الموت، فعاش عمره يستخف الموت.
وكان اسامة اذا عاد من صيد الحيوان والرحلة، رأى في بيت ابيه كبار الفرسان والامراء والعلماء والادباء. فقد نشأ اسامة في رعاية ابيه وعمه، فدرس اللغة والنحو والادب، وقرأ الشعر، وحفظ قدراً كبيراً منه، واستدعي له سيبويه عصره وهو عبد الله الطليطلي الى شيزر، يعلمه اللغة والنحو، وظل يدرس عليه عشر سنوات، وأطلع على التاريخ والسير وعلمه ابوه النجوم.
وهكذا، نهل اسامة من منابع العلم والمعرفة حتى ثقف العربية وتعلم غريب القرآن، وجوِّد في اساليب البلاغة، واتقن ابواب النحو حتى لقد حفظ من الشعر ما يزيد على عشرين الف بيت من عيون الشعر العربي.
وتمرس بأساليب القتال وعاينها على ايدي الفرسان، وكان على حظ ممتاز من حدة الذهن وروعة البديهية وشجاعة القلب وخفة الحركة، فكان ربما اقدم على ما لا يقدم عليه غيره من ركوب الاخطاء.
وعندما بلغ اسامة مبلغ الرجال كان عمه سلطان هو حاكم شيزر، وكان يرعاه ويعده للامارة من بعده، فكان يدفعه في المضايق الصعبة ويندبه للمهام الصعبة، ويمتحن صبره وبداهته في مواجهة المواقف الحرجة، ولم يكن لعمه ولد يخلفه، فلما رزق الولد احس اسامة بالحرج وخشي على نفسه من عمه، وكانت جدته لأبيه تحبه، فكانت تحذره من عمه، ووقع له ان هجم على الاسد يوماً في سهل الغاب، فغلبه واحتز رأسه ودخل به شيزر فأستعظم عمه هذا الفعل وطلب منه ان يغادر شيزر، فغادرها حيناً.
وحدث ان سقطت حماه في يد عماد الدين زنكي سنة 524هـ، وكان مالكاً للموصل، فعرف اسامة ان وجهة هذا البطل توحيد الوطن العربي ضد الاوربيين الطامعين، وأيقن ان شيزر وغيرها ستكون لعماد الدين، فهاجر من بلده وسار الى الموصل وانضم الى جيش عماد الدين يحارب تحت رأيته وعمره ست وثلاثون عاماً، وابدى من ضروب البطولة في مواقع كثيرة بتكريت وبغداد وسار معه نحو حلب، فتملكها، وحاصر معه دمشق، ولكنه علم ان الصليبيين والروم تحالفوا على انتزاع شيزر من بني منقذ، فعاد الى بلده يدافع عنها.
وفي سنة 532 ه، وقفت جيوش هائلة حول شيزر، فأبلى اسامة بلاءً مجيداً ولكنه استنجد بعماد الدين، فأسرع هذا وحط رحاله بين حماه وشيزر واستطاع بفضل ذكائه ان يوقع بين الروم والصليبيين، فراح الروم يفاوضونه بعد حصار دام اربعة وعشرين يوماً، وعرف اهل البلد ما كان من شجاعة اسامة، وارتفع شأنه ورددت شيزر انباء بطولته، فدبت الغيرة من جديد في صدر عمه فامره وأمر اخوته بالنزوح عنها متيقناً بأنه سيصبح خطراً على ملكه. وخرج اسامة واخوته وتشتتوا في البلاد وكانت كارثة عليهم في ظاهر الامر ولكن الله اراد ان ينقذ هؤلاء من زلزال فظيع حدث بعد عشرين عاماً. ففي سنة 552 ه وقع زلزال هلك فيه كل من في قلعة شيزر ومات بنو منقذ جميعاً، وسلم هؤلاء المطرودون وعاشوا، ونجا اسامة وولده لبعدهم عنها، فحزن حزناً شديداً وأسف لموت اسرته واقاربه وبكاهم بشعر رقيق، قال فيه:
لم يترك الدهر لي من بعد فرقتهم
قلباً اجشمه صبراً وسلواناً
فلو رأوني لقالوا مات اسعدنا
وعاش للهم والاحزان اشقاناً
ثم قال:
بنو ابي وبنو عمي دمي دمهم
وان اروني مناواة وشناناً
يطيب النفس عنهم انهم رحلوا
وخلفوني على الآثار عجلاناً
دخل اسامة مدينة دمشق سنة 532 ه، وعمل صحبة وزيرها معين الدين أنر، غير ان هذا سرعان ما خاف من اسامة- الامير، الشجاع، الاديب.. فأبعده، فأضطر للهجرة الى مصر حيث وصلها سنة 539 ه او 540 ه. وقد رحب به الحافظ لدين الله، وأكرمه، ومات الحافظ وخلفه الظافر وقامت الفتن وانتشرت الدسائس في البلاط الفاطمي، فشهد اسامة الاحداث الاخيرة الدامية في عمر الدولة الفاطمية واتصل باسرارها ورجالها وبقي فيها تسع سنين وغادرها سنة 549هـ عائداً الى البلاط النوري في دمشق ولحق به اهله واولاده من بعد. فأغار الصليبيون على مركبهم ونهبوا ما فيه وجردوا النساء من حليهن واخذوا الجواهر واخذوا معها قدراً عظيماً من كتب اسامة تبلغ اربعة الاف مجلد من الكتب الفاخرة، فكان فقد الكتب اعظم في نفسه من كل شيء. وهكذا ترك اسامة القاهرة ليصل دمشق ثانية بعد ان تغيرت الامور واستولى نور الدين على السلطة وكان هذا يحب العلماء والادباء.
وفي سنة 559ه غادر اسامة دمشق بعد ان أقام بها عشر سنوات فتوجه الى خلاط عاصمة ارينية، وكانت تعرف بديار بكر، حيث استقر في حصن كيفاً او كينا على نهر دجلة، وكان من اعجب حصون الدنيا
يطل على دجلة بين آمد وبين جزيرة ابن عمر، فآثر ان يكون ملجأه الاخير حيث انصرف الى البحث والدرس واستعان بخزائن مدينة آمد وفيها خزانة غنية قيل انها كانت تضم خمسين الف مجلد حتى وفاته سنة 584ه.
ثم استدعاه السلطان صلاح الدين الايوبي سنة 570ه، الى دمشق وكان استولى عليها من النوريين وكان مرهف –ابن اسامة- من جلسائه، فطلب اليه ان يستدعى اليه اباه، ففعل فأكرمه ومنحه ضيعة واملاكاً، واخذ يستشيره في امره، وفي هذه الايام وقد نيف اسامة على التسعين او بلغها، اخذ يسترجع ماضيه ويستعيد حوادثه وذكرياته ويستذكر صحبته لرجال العصر من العرب والافرنج وما وقع له معهم في ساحات الحرب فكان من حصيلتها كتاب (الاعتبار) الذي يعد اليوم وثيقة تجسد البطولة العربية وشهادة لها قيمتها العلمية. ظل اسامة يعيش في دمشق حتى توفي سنة 584ه، ودفن في سفح قاسيون.
خلف اسامة بن منقذ مجموعة من الآثار الادبية والتاريخية منها:
1- البديع في نقد الشعر، وقد طبع في القاهرة.
2- اخبار النساء، مفقود.
3- المنازل والديار، ألفه أثر الزلزال الذي حل بمدينة شيزر، وقد وصلت الينا نسخة من هذا الكتاب بخطه كتبه وهو في السابعة والسبعبين، وقد نشره المستشرق كراتشكوفسكي في موسكو، ثم اعيد نشره في دمشق والقاهرة.
4- ذيل يتيمة الدهر، مفقود.
5- الشيب والشباب، مفقود.
6- لباب الالباب، طبع في القاهرة.
7- القضاة، مفقود.
8- ديوان شعر، طبع في القاهرة.
9- ازهار الانهار، مفقود.
10- الاعتبار، يعتبر هذا الكتاب من اهم المصادر الخاصة بفترة غزوات الصليبيين الى الوطن العربي، ولاهميته افردنا له درستنا هذه.
كان من الممكن ألا يذكر التاريخ اسامة بن منقذ، فلطالما اهمل مقاتلين شجعاناً ومحاربين اشداء لولا ان اسامة ترك اثراً ادبياً كتاب الاعتبار.
اكتشاف المخطوطة الوحيدة التي وصلت الينا من كتاب الاعتبار، تم في مدريد عندما كان المستشرق الفرنسي ديرنبرك يتولى اعداد فهارس لمكتبة دير الاسكوريال قرب مدريد وذلك عام 1882م وقد احدث اعلان النبأ ضجة في صفوف المستشرقين، والسبب، صلته بالحروب التي شنها الافرنج ضد العرب.
عكف ديرنبرك على ترجمة الكتاب الى الفرنسية، وصدر النص العربي اول مرة بين عامي 1884- 1886، وفي سنة 1895، صدرت الترجمة الفرنسية، ثم توالت الترجمات:
1905، تولى شومان ترجمته الى الالمانية.
1922، تولى ساليير ترجمته الى الروسية.
1929، ترجمه بوتر الى الانكليزية.
اما القارئ العربي فلم يعرف الكتاب الا بشكل متأخر، والسبب ان نشره فيليب حتى التي صدرت في شيكاغو عام 1930، لم تـأخذ طريقها الا للقلة من المثقفين. وفي عام 1965، اعادت مكتبة المثنى في بغداد نشر هذا الكتاب فقدمت خدمة جليلة للتراث العربي واخذ الكتاب طريقه للقارئ العربي.
وفي عام 1983، نشر المستشرق الفرنسي المعروف اندريه ميكيل، ترجمة الاعتبار الى الفرنسية .
اسامة بن منقذ،في كتابه لم يتبع التسلسل التاريخي في سرد الاحداث وعرضها. كان يروي من الذاكرة ما يعرض له او ربما ما يسأل عنه. كما انه لم يعن بتدوين سيرة حياته بل ساق منها ما ارتبط حيناً بحدث وحيناً بذكرى عزيزة. من هنا، انطلق تفكير اندريه ميكيل الى اعادة كتابة الكتاب بالفرنسية مرتباً اجزاءه وفصوله حسب تسلسل تاريخي استند فيه الى كتاب (حياة اسامة) الذي نشره ديرنبرك عام 1889، وسمي الكتاب (اسامة) ووضع له عنواناً فرعياً (امير سوري في مواجهة الصليبيين). وقد صدر في عام 1986 عن دار فايار الفرنسية ضمن سلسلة (من جهلهم التاريخ).
ولقد كان المستشرق اندريه ميكيل الذي شغل مدير المكتبة الوطنية في باريس ودرس في السوربون، أميناً لروح اسامة بن منقذ، حريصاً على تحليلاته السياسية والاجتماعية والعسكرية مما يجعل للكتاب نكهة خاصة.
ولعل من ابرز ما اعجب ميكيل وغيره ممن كتبوا عن اسامة من الغربيين تلك الروح الحيادية النزيهة في عرض ما رآى او سمع او شهد، فهو مثلاً يقول عن الصليبيين مالهم وما عليهم، ولا يغمطهم حقاً ولا ينتقص من فضل.
بعد هذا نعود الى الكتاب، فنقول: ان كتاب الاعتبار من اروع كتب اسامة فقد ألفه وهو في اوج نضجه، وسجل فيه ذكرياته عن الحروب التي خاضها الغزاة الافرنج.
ان تسمية الكتاب بالاعتبار وقعت من غلبة المساق الذي ساق اسامة احاديثه في هذه المجالس، وهو استخلاص العبرة منها والانتهاء بها الى “ان ركوب اخطار الحروب لا ينتقص الاجل المكتوب والعمر مؤقت مقدر لا يتقدم اجله ولا يتأخر والنصر في الحرب من الله لا بترتيب وتدبير ولا بكثرة نفير ولا نصير”.
على ان قيمة الكتاب تبدو في حسن تصويره لمجتمعه الذي كان يضطرب عنيفاً بما يلقى من كثرة الفتن وتفرق الاهواء وغلبة الاطماع واختلال الامن وتفش بعض التيارات الفكرية المتطرقة، ثم بما يرزح تحته من ثقل غزو الافرنج واتساع اذاه ونهوض العرب له.
ففي هذا الجانب يبدو الكتاب وثيقة حية من وثائق الحروب الصليبية لا نعرف لها شبيهاً، فان اسامة لم يكن يعبأ باخبار المعارك والتاريخ لها على نحو ما نعرف في الكتب التي ارخت لها. ولكنه كان يصور حياة الناس التي تجري تحت سطح هذه الاحداث الدامية، ويقف عند الصور العقيمة المؤثرة منها وما كان يقع لهم داخل
بيوتهم وفي مواطن جدهم ولهوهم وما كانوا يقولونه لانفسهم وهم يواجهون الموت او هم يعاملون هذا العدو الغازي الغريب الذي جاءهم من الارض الكبيرة –اوربة- كما كان يسمونها، ويتكلم لغة غريبة لا يفهمونها، ويبدو فظاً غليظاً لم تصقله الحضارة، جهماً ضخماً لا تسعه العين.
وفي الكتاب وصف لاحوال الحياة والناس آنذاك في بلاد الشام بخاصة، وصور العادات في الافراح والاحزان فيها، وصور الطبيعة في بعض مناطقها الشمالية، وما يجعله وثيقة اجتماعية ايضاً. وتأسيساً على ذلك، ترجمه الغربيون الى الانكليزية والفرنسية والالمانية والروسية وغيرها..
ثم انه يعد من كتب السيرة الذاتية النادرة ووثيقة ادبية قل مثيلها وهي الى هذا، ينفع في بعض الدراسات اللغوية لاتصالها باللهجات الدارجة في الشام في عصرها وبأساليب تركيبها اللغوي وما داخلها من اللغات الاخرى، الشرقية والغربية، والطرق التي تبعوها في تعريب الالفاظ.
يقع كتاب الاعتبار في الاصل في ثلاثة اقسام. الاول، الذي يحفل باخبار الواقع والحروب وهو اغناها واكثرها قيمة. والثاني، يتعلق باخبار الصيد والقنص والجوارح وهو قسم حافل مثير ايضاً، حكى فيه اسامة حكايات مشاهد الصيد التي حضرها في شيزر مع ابيه واهله وغلمانه، والموصل مع اتابك عماد الدين زنكي وغلمانه، ودمشق ومصر ودياربكر وغيرها مع كبار رجال عصره، والثالث، ملحق بالكتاب، فيه طرف من اخبار الصالحين والزهاد ويبدو انها الحقت بالكتاب الحاقاً، فليس لها صلة به او بموضوعه. فالقسم الاول هو القسم الاهم في هذا السفر الرائع، وعليه قامت شهرة الكتاب.
ولتكوين فكرة اولية عن هذا الكتاب، نذكر هنا بعض العناوين التي تمثل الوقائع والحكايات التي سردها اسامة في كتابه هذا:
– معركة قنسرين مع الافرنج سنة 530 ه.
– اسامة في عسكر الشام يدون اسماء ثمانمائة فارس عربي ويأخذهم للاغارة على الافرنج.
– اسامة ورجاله يقاتلون الافرنج في بيت جبريل.
– عودة اسامة الى مصر واستشهاد اخيه الامير عز الدولة في قتال غزة.
– الافرنج يهاجمون العرب ويقتلون عباس وجمعاً من اهله.
– ملك الافرنج يخون عهده وينهب اموال اسامة وكتبه.
– صور من مكائد الافرنج.
– ملك الافرنج دنكري لا يحفظ عهده.
– خيانة لؤلؤ الخادم.
– فارس عربي واحد يدخل على قافلة من الافرنج في مغارة.
لعل اسامة اكثر اهله اسهاماً في الحرب ولكنه عاش طويلاً قرابة ثلاثة وتسعين عاماً، وعاصر ثلاثة قادة كان لهم اثرهم الكبير في تلك المرحلة وهم عماد الدين زنكي، ونور الدين، وصلاح الدين، وقد توفي بعد عام واحد من تحرير صلاح الدين القدس، اي عام 1188م، وكان ولد عام 1095م.
على ان ثمة امراً هاماً في حياته، وهو انه كان معظم وقته الى جانب هؤلاء القادة، محارباً وكاتباً ورسولاً ومستشاراً، ومن هنا كان اطلاعه واسعاً على الخفايا والاسرار والاحداث بتفاصيلها الدقيقة.
كتب اسامة، الاعتبار، او املئ بعض فصوله في السنوات الاخيرة من حياته بعد ان ضعف بصره وارتعشت كفه ولكنه ظل حتى لحظاته الاخيرة محتفظاً بذاكرة قوية وذهن صاف واضح.
الكتاب نوع من المذكرات ولكنه في الوقت ذاته شهادة على العصر وهو الى ذلك مشاهدات (مراسل حربي) بدون احداث المعارك والمفاوضات والمراسلات، كما ينطوي على سجل حافل عن المؤامرات والخلافات والصراعات على السلطة.
ولعل من اهم ما في الكتاب تلك الصورة الواضحة عن النصر عندما تتحقق الوحدة، فلم ينتصر القادة الثلاثة الذين عاصرهم وخاصة صلاح الدين الا عندما استطاعوا تحقيق وحدة القوى وفي الاساس وحدة الشعب.
وفي الكتاب صور بديعة عن حياة اسامة وعن شيزر والغابات الكثيفة التي كانت تحيط بها ولم يبق منها شيء والصيد لا سيما صيد الاسود والنمور والفهود.
ولا بد هنا من الاشارة الى اولئك الذين دعوا بالتامبليي Les Templiers والذين يصفهم بالمتنورين ممن كان له معهم لقاءات وحوارات كثيرة. والمعروف عن هؤلاء انهم حاولوا نقل الحضارة العربية وانهم بنوا كنيسة شارتر وفيها الكثير من المعمارية العربية وهي مختلفة عن باقي الكنائس في فرنسا. وانهم اتفق عليهم البابا في الفاتيكان وملك فرنسا، فقضيا عليهم لانهما اعتبرا تعاليمهم وما نقلوه عن العرب خطراً على الاثنين وسلطتيهما.
أمر أخير لا يستطيع قارئ اسامة الا ان يتأمل فيه، لقد عاصر اسامة حملتين صليبيتين كانتا اخطر الحملات، ودام احتلال اجزاء واسعة من الارض العربية قرابة قرن، وكان بين حكام الولايات اكثر مما بين الحكام العرب اليوم، وكان ثمة خليفتان، الفاطمي في مصر والعباسي في بغداد، ولم يكن لاحدهما شيء من السلطة الا الاسم، ولم يكن القادة والحكام اقل سوءاً من بعض الحكام العرب منذ ما قبل انشاء اسرائيل حتى اليوم، وكانت اوروبا كلها تمد الصليبيين بالرجال والمال، ومع ذلك حين توفر القادة المؤمنون، التف الشعب حولهم وحرر القدس وشهد اسامة هذا التحرير.
من حسن الحظ ان تصل الينا نسخة مخطوطة واحدة من هذا الكتاب، ففي عام 1884، وبينما كان المستشرق الفرنسي ديرنبرك يتولى دراسة المخطوطات العربية في دير الاسكوريال باسبانيا، عثر على كتاب الاعتبار، وسرعان ما تولى ترجمة الكتاب الى الفرنسية ثم نشره بالعربية اواخر القرن التاسع عشر. ثم تولى المؤرخ فيليب حتى تحقيق الكتاب ونشره باللغتين العربية والانكليزية حيث صدر عن جامعة برنستن عام 1930، بعد ذلك توالت طبعات الكتاب.
ان اعادة قراءة كتاب الاعتبار في هذه الايام لها اهميتها خاصة واننا نواجه غزواً جديداً يذكر بغزو الاوروبيين ايام الحروب الصليبية في عصر اسامة، فالكتاب يمنحنا الثقة بأنفسنا ويعمل على تقوية روح المقاومة العربية وبث الثقة والاعتبار بما تم لنا تحقيقه تلك الايام واستخلاص الدروس منه.
من هنا يفتح كتاب اسامة بن منقذ الباب واسعاً امام الامل والعزم على التحرير رغم كل السواد المطبق…
الى تلك النفس العربية التي قال فيها المتنبي:
وإني لمن قوم كأن نفوسهم
بها أنفٌ ان تسكن اللحم والعظما
* نصوص من كتاب الاعتبار
ولاهمية هذا الكتاب الوثيقة، اخترنا طائفة من نصوصه التي تروي وقائع حية عن تصدي العرب البطولي لجحافل الغزاة الاوروبيين. وفيما يلي نصوص مختارة من هذا الكتاب الهام.
* اقدام الرجال في مواقع الخطر، صورة من مكائد الافرنج
ورأيت من اقدام الرجال ونخواتهم في الحرب، انا اصبحنا وقت صلاة الصبح، رأينا سربة من الافرنج، نحواً من عشرة فوارس، جاؤوا الى باب المدينة قبل ان يفتح. فقالوا للبواب: اي شيء اسم هذا الباب؟ والباب خشب، بينهما عوارض، وهو داخل الباب. فرموه بنشاب من خلال الباب، ورجعوا وخيلهم تخب بهم. فركبنا، فكان عمي اول راكب وأنا معه، والافرنج رائحون غير منزعجين، ويلحقنا من الجند نفر. فقلت لعمي: على امرك آخذ اصحابنا واتبعهم ارميهم وهم غير بعيدين. قال: لا. وكان آخر فتى بالحرب، في الشام لا يعرف شيزر؟ هذه مكيدة. ودعا فارسين من الجند على فرسين سابقين، وقال: امضينا اكشفا تل ملح (موقع قرب شيزر) وكان مكمناً للافرنج، فلما شارفاه خرج عليهما عسكر انطاكية جميعه، فاستقبلنا متسرعين نريد الفرصة فيهم، قبل ركود الحرب، ومعنا جمعة النميري وابنه محمود. وجمعة فارسنا وشيخنا، فوقع ابنه محمود في وسطهم، فصاح جمعة: يا فرسان الخيل، ولدي. فرجعنا معه في ستة عشر فارساً.
طعنا ستة عشر فارساً من الافرنج واخذنا صاحبنا من بينهم، واختلطنا نحن وهم حتى اخذ واحد رأس جمعة تحت ابطه فخلص ببعض تلك الطعنات.
* ملك الافرنج دنكري لا يحفظ عهده
وكان نزل علينا دنكري، وهو اول اصحاب انطاكية بعد ميمون، فقاتلنا ثم اصطلحنا، فنفذ يصلب حصاناً لغلام لعمي عز الدين، وكان فارساً جواداً، فنفذه له عمي تحت رجل من اصحابنا يقال له –حسنون- وكان من الفرسان الشجعان. وهو شاب مقبول الصورة، دقيق، ليسابق بالحصان بين يدي دنكري، فسابق به فسبق الخيل المجراة كلها. وحضر بين يدي دنكري، فصار الفرسان يكشفون سواعده ويتعجبون من دقته وشبابه، وقد عرفوا انه فارس شجاع، فخلع عليه دنكري.
ومضى على هذا سنة او اكثر، وانقضت مدة الصلح وجاءنا دنكري في عسكر انطاكية، فقاتلنا عند سور المدينة. وكانت خيلنا لقيت اوائلهم، فطعن فيهم رجل يقال له –كامل المشطوب- من اصحابنا وهو وحنون نظراء في الشجاعة. وحنون واقف مع والدي على حجرة له ينتظر حصانه يأتيه به غلامه من عند البيطار، فأبطأ عليه، واقلقه طعن كامل المشطوب، فقال لوالدي: يا مولاي، مَرّ لي بلباس خفيف، فقال: هذه البغال عليها السلاح واقفة. مهما صلح لك، البسه، وانا اذ ذاك واقف خلف والدي، وانا صبي، وهو اول يوم رأيت فيه القتال، فنظر الكزاغندات في –صندوق الثياب- وهو في لباس الحرب، فاعترضه فارس منهم، فطعن الفرس في عجزها، فعضت على فأس اللجام، وحملت به حتى رمته في وسط موكب الافرنج، فأخذوه أسيراً، وعذبوه انواع العذاب. وارادوا قلع عينه اليسرى، فقال لهم دنكري –لعنه الله- اقلعوا عينه اليمنى حتى اذا حمل الترس استترت عينه اليسرى فلا يبقى يبصر شيئاً، فقلعوا عينه اليمنى كما امرهم، وطلبوا منه الف دينار، وحصاناً ادهم، وكان من احسن الخيل.
* العرب يقاتلون من اجل الجهاد
ومن الناس من يقاتل كما كان الصحابة يقاتلون –للجنة لا لرغبة ولا لسمعة. ومن ذلك: ان ملك الالمان الافرنجي كزاد الثالث –لعنه الله- لما وصل الشام اجتمع اليه كل من بالشام من الافرنج، وقصد دمشق، فخرج عسكر دمشق واهلها لقتالهم، وفي جملتهم الفقيه الفندلاوي، والشيخ الزاهد عبد الرحمن الحلحولي، وكانا من خيار العرب، فلما قاربوهم، قال الفقيه لعبد الرحمن. ما هؤلاء الروم؟ قال: بلى،قال: فالى متى نحن وقوف؟ قال- سر على اسم الله تعالى، فتقدما، قاتلا حتى قتلا في مكان واحد
*الخلافات
وشرقنا العربي الاسلامي تمزقه الخلافات والحروب بين امرائه وحكامه والحكم لملوك السلجوقيين. والخليفة العباسي مسلوب الارادة.. والخليفة الفاطمي وبلاطه في شغل بانفسهم.. وسوريا تقاسمها حكام يتنازعون السلطة.
بأسهم بينهم شديد.. يغزو بعضهم البعض.. في دمشق حاكم وفي حلب حاكم وفي حماة حاكم وفي بعلبك حاكم.. والكل عدو لبعضهم بعضاً.. واهل البلاد لا سلطان لهم. يتحكم فيهم حكام همهم التسلط والابهة، وما يجبى من المال ينفق في هذا الغزو المتلاحق وعلى ملاذهم واعوانهم.
* الطب عند الصليبيين
يروي اسامة واقعة نقلاً عن عمه الامير سلطان مفادها ان حاكم المنيطرة الصليبي، وهي بلدة تقع شمالي لبنان كتب الى عمه يطلب منه ان يبعث له طبيباً عربياً ليداوي بعض المرضى، فأرسل الامير اليه طبيباً عربياً نصرانياً يقال له ثابت. ولكن لم تمضي عشرة ايام حتى عاد ثابت الى شيزر. وعندما سأله بنو منقذ عن السبب في عودته بهذه السرعة، قال ان الصليبيين في المنيطرة احضروا عندي فارساً قد طلعت في رجله دملة
وامرأة قد لحقها نشاف. فعملت للفارس لبيخة ففتحت الدملة وصلحت وهميت المرأة (اي منعها عن بعض الطعام) ورطبت مزاجها. فجاءهم طبيب افرنجي (صليبي) فقال لهم هذا (اي الطبيب العربي) لا يعرف شيئاً في الطب والمداواة. ثم قال الطبيب الصليبي للفارس الصليبي المريض (ايهما احب اليك ان تعيش برجل واحدة او تموت برجلين؟ قال- اعيش برجل واحدة، فقال الطبيب، احضروا لي فارساً قوياً وفأساً قاطعاً، فحضر الفارس والفأس، وانا حاضر (اي الطبيب العربي) فحط ساقه على قرامة خشب وقال للفارس- اضرب رجله بالفأس ضربة واحدة اقطعها، فضربه، وانا اراه، ضربة واحدة ما انقطعت، ضرب ضربة ثانية فسال مخ الساق ومات من ساعته. ثم اخذ الطبيب الصليبي في معالجة المرأة الصليبية وقال- هذه المرأة في رأسها شيطان قد عشقها، احلقوا شعرها، فحلقوه، وعادت تأكل من مأكلهم الثوم والخردل فزاد بها النشاف، فقال الطبيب الصليبي- الشيطان قد دخل في راسها، فأخذ الموس وشق رأسها صليباً وسلخ وسطه حتى ظهر عظم الرأس وحكه بالملح فماتت المرأة في وقتها، فقال الطبيب العربي للصليبيين- هل بقي لكم إلي حاجة؟ قالوا- لا. فجئت وقد تعلمت من طبهم ما لم أكن اعرفه.
* في بقاء اسامة اوضح معتبر
فلا يظن ظان ان الموت يقدمه ركوب الخطر ولا يؤخره شدة الحذر، ففي بقائي اوضح معتبر،ـ فكم لقيت من الاهوال، وتقحمت المخاوف والاخطار، ولا قيت الفرسان، وقتلت الاسود، وضربت بالسيوف، وطعنت بالرماح، وجرحت بالسهام والمجروح وانا من الاصل في حصن حصين، الى ان بلغت تمام التسعين، فرأيت الصحة والبقاء، كما قال النبي (ص) – كفى بالصحة داء- فأعقبت النجاة من تلك الاهوال، ما هو أصعب من القتل والقتال، وكان الهلاك في كنه الجيش اسهل من تكاليف العيش، استرجعت مني الايام بطول الحياة، سائر محبوب اللذات، وشاب كدر النكدر، صفوا العيش الرغد، فانا كما قلت:
مع الثمانين عاث الدهر في جلدي
وساءني ضعف رجلي واضطراب يدي
اذا كتبت فخطي جد مضطرب
كخط مرتعش الكفين مرتعد
فقل لمن يتمنى طول مدته
هذي عواقب طول العمر والمدد
ان هذه النصوص هي نماذج من كتاب الاعتبار، تكشف ان العربي حريص على ارضه ووطنه، مستعد للقتال حتى الموت والاستشهاد في سبيل العروبة، وان لا مكان للخونة على ارض العروبة.
* المراجع
1- اسامة بن منقذ- كتاب الاعتبار، تحرير- فيليب حتي، منشورات محمد علي بيضون، ط1، منشورات محمد علي بيضون/ دار الكتب العلمية، بيروت، 1999.2- André Miquel- Ousama, Un Prince Syrien, Face aux croises, Les inconnus de ĺhistoire, Fayard, Paris, 1986.
3- مجلة الطليعة العربية (باريس)، الاعداد-
[email protected]