18 ديسمبر، 2024 6:15 م

كبوة المجتمع الدولي في جنوب السودان

كبوة المجتمع الدولي في جنوب السودان

الكبوة التي واجهها المجتمع الدولي في هذه الدولة، تكررت بصور عدة في أماكن متفرقة، لكن سوف يبقى جنوب السودان علامة فارقة.

دول كثيرة في القارة الأفريقية مليئة بالأزمات الإنسانية، وقدمت جهات متعددة مساعدات لها أملا في إنقاذها، بعضها حقق أغراضه، ومعظمها فشل، لأسباب تتعلق بالبيئة الجغرافية والتعقيدات الاجتماعية، والخلاف مع الحكومات المحلية التي يقف بعضها حائطا ضد وصول المعونات إلى المستحقين، علاوة على تقاعس الدول المانحة عن التعامل بطريقة تضمن وقف المعاناة عن قطاع كبير من الناس.

ما يجري في دولة جنوب السودان يعكس ما يدور في فضاء المساعدات الإنسانية التي تستثمرها بعض القوى كذريعة لغسل أياديها من الجرائم، ويكشف إلى أي درجة يؤدي عدم تعامل المجتمع الدولي بنزاهة إلى مشكلات كارثية، يذهب ضحيتها مئات الآلاف من القتلى والمرضى والمشردين.

التقرير الذي أصدرته الأمم المتحدة، وحملّت فيه حكومة جنوب السودان مسؤولية المجاعة في البلاد، فضح تناقض المنظمة الدولية التي اعترفت ضمن ثنايا التقرير أن هناك ضحايا كثيرين فشلت جهودها في إنقاذهم وأخفقت العقوبات التي فرضتها على الحكومة في إثنائها عن الاستمرار في الحرب، وفضّل الرئيس سيلفا كير إنفاق عائدات النفط على شراء الأسلحة، بدلا من إنقاذ نصف المواطنين من نقص الغذاء، وعودة ربع عدد السكان إلى ديارهم، عقب حركة نزوح جماعي على مدار السنوات الأربع الماضية.

ازدواجية الأمم المتحدة كانت ظاهرة في أداء مبعوثيها وقوات حفظ السلام في جنوب السودان، فلم يتمكنوا من توصيل المساعدات إلى المتضررين، وصمتوا لفترة طويلة عما يدور من انتهاكات، والمشكلة في عجز المنظمة عن وقف الحرب التي اندلعت في ديسمبر 2013، بين الرئيس سيلفا كير ونائبه الأول السابق رياك مشار.

كما أنها لم تتحرك جيدا لتثبيت اتفاق السلام الذي وقعه الطرفان بأديس أبابا في أغسطس 2015، وسمحت بانهياره على وقع استئناف القتال بين أنصار الفريقين، ثم وقفت تتفرج على المجازر التي ارتكبها كل طرف، وهي تدرك أن تحول الدولة الوليدة (جنوب السودان أعلن استقلاله عام 2011) إلى دولة فاشلة يخيم بظلاله القاتمة على الكثير من دول الجوار، التي لديها استعداد لتقبل عدوى انتقال النزاعات من جنوب السودان ما يعني أن دولا أخرى مرشحة لمواجهة مصير جنوب السودان.

الغريب أن بعض القوى بذلت جهدا كبيرا لحصول جنوب السودان على الانفصال، وكان من المتوقع أن تبذل جهدا مضاعفا لتثبيت أركان الدولة، وتتحول جوبا إلى بؤرة ضوء كبيرة تؤكد صواب الخيار الذي لقي تأييدا ودعما كبيرين من جهات عدة، لكن الانهيارات المتتالية كشفت عن ثلاثة مخاطر، يمكن أن تفضي إلى عدم مبارحة جنوب السودان مربع الحرب الأهلية بسهولة.

الأول، طبيعة التركيبة الاجتماعية التي تقوم على قاعدة قبلية تتقاذفها ثلاث قبائل رئيسية، الدينكا والنوير والشيلك، وتخوض الأولى وينتمي إليها الرئيس سيلفا كير غمار حرب، ضد قبيلة النوير التي ينحدر منها معارضه رياك مشار، وتحاول القبيلة الثالثة (الشيلك) وهي أقل عددا ونفوذا، التماسك لتخرج رابحة من الاقتتال المستمر.

القاعدة القبلية للصراع حالت في أوقات كثيرة دون وقف الحرب، لأن كل طرف يريد أن يخرج رابحا، وعندما مالت نتائج اتفاقية أديس أبابا للسلام ناحية مشار وقبيلته، ظل سيلفا كير وقواته متربصين حتى سنحت الفرصة للانقضاض على الاتفاقية، واسترداد أجزاء كبيرة من الأراضي من قبضة مشار، ومع ذلك أطبق الصمت على لسان الكثير من القوى الإقليمية والدولية ولم تبادر إلى الانتصار لمبدأ السلام وكأنها ارتاحت لما وصل إليه الصراع في جنوب السودان.

الخطر الثاني، يتعلق بمناوشات دول الجوار، فأوغندا تدخلت بقواتها لحماية حليفها سيلفا كير، ثم انسحبت عندما تيقنت من اتساع الرقعة التي يسيطر عليها، وإثيوبيا حضرت بقوة ضمن قوات حفظ السلام الدولية، التي تشكل قوامها الأساسي، والسودان عادت قواته تقترب من الحدود، أملا في تغيير بعض المعادلات لصالحه.

تدخلات دول الجوار تتم تحت لافتة خفية، تخص عمليات تحجيم المعارضين، بعد أن تحول جنوب السودان إلى بيئة لإيواء العناصر المعارضة من أوغندا وإثيوبيا والسودان وكينيا، ما ضاعف من صعوبة تمتين السلام في جنوب السودان، والذي رأت فيه بعض الأطراف ضررا على مصالحها، فلم تتكبد عناء منع انهياره وربما ساهمت في استمرار الفوضى التي يعتقد البعض أنها تنطوي على فوائد سياسية، لكن هؤلاء لا يدركون النتائج التي يمكن أن تصل إليها الأزمة.

الخطر الثالث، انحصار الضجيج الدولي في الشق الإنساني، وغياب الشق السياسي، فمهما كانت الاتهامات التي تكيلها الأمم المتحدة للرئيس كير وتحمله مسؤولية الأزمة، سوف تلاحق القوى الرئيسية فيها اتهامات بالتقاعس والتواطؤ، فقد كانت المشاهد تحتدم أمامها ولم تتقدم لوقف الاقتتال.

رغم التهديدات التي خرجت في أوقات مختلفة لمعاقبة المتسبب في انهيار اتفاقية السلام، غير أن أحدا لم ينفذ تهديداته، لا الأمم المتحدة بجلالة قدرها، أو الولايات المتحدة وبريطانيا، باعتبارهما أكثر الدول التصاقا بالهم في جنوب السودان، وجرى ترك البسطاء بين مطرقة كير ومطرقة مشار، وكان من الطبيعي أن تتضخم المأساة الإنسانية في جنوب السودان، وإمعانا في التنصل من المسؤولية لم تعد القوى الفاعلة تتحدث عن الخيارات السياسية المتاحة لوقف الصراع.

الكبوة التي واجهها المجتمع الدولي في هذه الدولة، تكررت بصور عدة في أماكن متفرقة، لكن سوف يبقى جنوب السودان علامة فارقة، لأن الحماس الذي صاحب الدفع نحو الانفصال بعيد عما تم الوصول إليه، ووضعه ضمن الدول الفاشلة بامتياز، التي لن تقوم لها قائمة قبل أن تصحح بعض القوى الأخطاء الفادحة التي ارتكبتها هناك.

ولعل الاجتماع الذي يعقده مجلس الأمن الخميس المقبل لمناقشة الأوضاع في جنوب السودان، يكون فرصة لإعادة تقويم الموقف العام وتصويب السياسات المنحرفة، خاصة أن الاجتماع سيعقد على المستوى الوزاري برئاسة بوريس جونسون وزير خارجية بريطانيا، لأن عدم الخروج بموقف محدد قابل للتطبيق العملي، يعني استمرار الصراع حتى إشعار آخر.

نقلا عن العرب