خمسون عاما من أعمارنا ضاعت تحت سرف الدبابات وحكم العساكر، وهجير الحصار، فضلا عن متاهة الحاضر، فلم تستطع الحكومات المتعاقبة توفير الحاجات الفسيولوجية والأمان اللتان تتبوأن أعلى هرم (ماسلو) للإحتياجات الإنسانية ، ففي ضوء هذه المعطيات الصفرية قد يغدو الحديث عن كبسولات ثقافية وفضاءات فكرية ترفا ، وإغترابا عن الواقع ، أقرب من كونه مساهمة في تشخيص أزمات الواقع وطرح بعض الحلول لتفكيكها.
إذ تنتابنا عوارض شتى في واقع خانق، ، تحول بيننا وبين التلاقح الثقافي والإنفتاح الفكري ، على الرغم من إننا نعيش في عصر تتدفق معارفه من حولنا ، ولكننا نكتفي – للأسف- بمراقبة أحداثه ، ولانشترك في إنجازاته، فنحن أسرى لقلقنا المزمن الذي يستبد بنا منذ عقود ، فأزماتنا إستعصت على الإحتواء والتفكيك ، إستقرارنا هش، همومنا عشعشت في رؤوسنا ،وأحلامنا أبت أن تتمثل واقعا ، مع أن إنتظارنا لتحقيقها قد طال، فملّ الصبر منا ومنها ، كل هذا وسواه، أسهم بصورة مباشرة بتجريف قيمنا الفكرية ، وإنهيار منظومتنا المعرفية ، فسّطح مدخلاتنا المعرفية، وأثّر على مخرجاتنا الحضارية والإنسانية ، بما لايتناسب مع مانستحقه من مستوى فكري رفيع ، يليق بمن درج على أرض الرافدين ، وملتقى الحضارات.
ولكن من جانب آخر ، ألم تمر شعوب وأمم بمثل ما مررنا به،وأستطاعوا إجتياز مآزقهم ومنعطفاتهم الحضارية،وكان مما فعلوه ، تقريب العلوم ونقلها من التخصص الدقيق الى الشعبية ، كي تشارك الجماهير بدورها في النهضة والتنمية، تضييقا للهوة بين النخبة والعامة ، كما أسهمت برامج التعليم عندهم بترسيخ أسس ثقافية وفكرية لاغنى عنها، في الوقت الذي تصحرت فيه عقولنا ، وأنتكست أفكارنا ، وتحنطت ثقافتنا .
فأصبح واجبا اليوم على النخب الفكرية النزول من أبراجها العالية ، والتخلي عن شفراتها الخاصة، عبر تقديم المعارف المتنوعة الى عامة أبناء الشعب بلغة وسيطة ، وأساليب يدركونها ، ترميما للخرائط الذهنية المجتمعية ، وترصينا للأداء الشعبي من منطلق المسؤولية الإجتماعية التي تدفع للقيام بالواجبات الوطنية ، ومنها تقديم (كبسولات ثقافية) متنوعة عبر الصحف والفضائيات والمنتديات الثقافية والنشاطات التنموية والفعاليات الإجتماعية المختلفة.
تتضمن الكبسولات الثقافية ، ألف باء الآداب وعلم الإجتماع والفكر السياسي ومفاهيم التسامح التي من شأنها الإسهام في الرقي الفكري ، توسيعا للمدارك العقلية ، وخروجا آمنا من النظرة الأحادية المغلقة ، الى النظرات المركبة البناءة.
في حقل الآداب على سبيل المثال لا الحصر، تقدم قراءات موجزة ، لما كتبه ( جبرا) في شارع الأميرات ، وعبد الرحمن منيف في (أرض السواد) ، وسليم مطر في كتابه (اعترافات رجل لايستحي) وسنان أدمون في روايته (وحدها شجرة الرمان)، وجلسات أدبية يتم فيها تذوق أشهر القصائد العراقية ، لأعلام الشعراء كالجواهري والرصافي ومصطفى جمال الدين والسياب .
وفي حقل الفكر وقفات مع الوردي في لمحاته الإجتماعية عن تاريخ العراق الحديث، وبحثه في (شخصية الفرد العراقي) ، ودراسات الدكتور سيار الجميل ، وقراءات الدكتورعبد الحسين شعبان.
وفي ألف باء الفكر السياسي ننهل من أفكار الأستاذ حسين جميل ، وما دبجه يراع الدكتورغسان العطية في كتابه (العراق نشأة الدولة) وغيرها.
وفي حقل المذكرات ، ننتقي شذرات مما كتبه الأستاذ عطا عبد الوهاب في (سلالة الطين) والدكتور علي كريم سعيد في (العراق البيرة المسلحة) والدكتور محمد مكية في سيرته المعمارية (خواطر السنين) ، وخالد علي الصالح في كتابه (على طريق النوايا الطيبة) والدكتورة عصمت السعيد في كتابها ( نوري السعيد رجل الدولة والإنسان).
وفي فكر التسامح ، نحتفي بما أخرجه مركز دراسات فلسفة الدين في بغداد ومجلته الفكرية ( قضايا الإسلام المعاصر) لما تنطوي عليه من ثراء معرفي جاء عبر إكتشاف فريد للأبعاد العقلانية والإنسانية السامية في الدين والتراث.
حين نهضم بعضا مما ذكر، نكون قد سرنا الخطوة الأولى في طريق الألف ميل ، وبمرور السنين وبفعل التراكمات الثقافية ، سنُخلق من جديد ، ونبني معا ، عراق المستقبل المشرق ، الذي يرتكز على العمران الإنساني أولا، الذي إبتدأ بترتيب عقول أبنائه فكريا ، وتدريب أيديهم مهاراتيا، وجذر فيهم روح المسؤولية الإجتماعية، فاستحقوا بجدارة ما وصلوا إليه. (الكبسولات الثقافية هي الحل).
إضاءة :ليس عليك أن تحرق الكتب لتدمر حضارة ، فقط اجعل الناس تكف عن قراءتها ، ويتم ذلك (راي برادبوري ، روائي أمريكي) .