19 ديسمبر، 2024 12:58 ص

أن لم نكتشف جهلنا ونعترف بهِ، لن نتمكن من التقدم إلى الأمام، فتقدمنا مرتبطاً بمعرفتنا لجهلنا، وَالمعرفة هيّ القوة التي تدفعنا إلى الأمام، نحن لا نفضل المعرفة دائمًا، بقدر ما نفضل الإيمان على المعرفة، فـي بعض الأحيان يختار الناس أن يظلوا جاهليـن، بغية الحصول على المكافأة.

الجهل قوةً صلدةً قاسية شريرة، مثل أيّ قوةً شريرة، لذلك من المهم أن يعرف معظمنا أن ثمن التخلي عن الجهل غالٍ جدًا، وأن ثمن التخلي عن العقل أغلى وأشد، وأستطيع القول أن الجهل يشل حركة تقدم الأجيال وَالمجتمع والعقول على حدٍ سواءً، جهلنا وَعدم معرفتنا هو ما جعل العلم منقذنا، لأن العلم هو قوة الخير التي تساعدنا لمعرفة الإجابة الصحيحة لسؤالٍ ما يدور في رؤوسنا بشكلاً علميًا قائم على أُسسٍ علمية بحتة، الجهل بأنواعهُ أن كان جهلاً مركبٍ أو مؤسسٍ أو مقدسٍ فهو لا يستطيع أن يدفع المجتمع إلى الأمام، بقدر ما يسحب المجتمع إلى الوراء، فلا يوجد في قاموس الجهل تقدمًا، وَلا أُخفي عليكم أن الجهل أُفتتنت بهِ أُممٍ وَشعوبًا كثيرة، وَالشعوب التي أُفتتنت بالجهل هي شعوب جاهلة حتمًا لأنها قررت التقاعد عن القراءة والكتابة أيّ بمعنى شعوب متقاعدة ثقافيًا وَعقليًا وَفكريًا وَمعرفيًا، وَتعاني من نقصٍ حاد في المعرفة، أن الشعوب الجاهلة تحتاج أن تعرف أنها جاهلة، وتحتاج أن تعرف لماذا هيّ جاهلة، بل إن هذهِ الشعوب المترسنة بالدين والتدين هي بأمس الحاجة لمعرفة أسباب جهلها، وَفيما لو بحثنا في هذهِ البنية الصلبة سنجد فيها أمراضٍ مدمرة فتاكة تفتك بكل عقلاً وفكراً ومعرفة.

إنّ أصعب ما في الجهل هو إقرارنا بجهلنا المتوارى خلف عقولنا، إن أنفة وَعُنجهية وَغطرسة الإنسان هيّ ما تجعلهُ أكثر عرضةٍ للإصابة في الجهل. وَليعلم كل مأفون وَ واهٍ إن الحياة التي يحكمها الجهل وَالجهلاء لن تكون حياةٍ سلسة بقدر ما تكون حياةٍ مستغلقةٍ عصبيةٍ حمقاء، وهم المعرفة أخطر من الجهل فإن إِتّصال الجهل بالمعرفة وإِقتران البلاهة بالنَّباهَة سيولد جهلاً لئيمٍ قويًا صلبًا وهذا المخاض العسير بدورهُ سيحول سهولة الاعتراف بالجهل إلى صعوبة الاعتراف، لأن وعاء عقل الفرد في هذهِ الحالة سيكون ممتلئ تمامًا بوهم المعرفة، لذلك إن غالبية الذين سقطوا في هذا الوحل، لا يدركون مدى خطورة الأشياء التي استوعبوها في أدمغتهم، فهُم تحديدًا لا يحملون في رؤوسهم علمًا أو معرفةٍ مفيدة بقدر ما تكدست أدمغتهم بأكوام من القمامة الفكرية، وَهذهِ الفئات من البشر تكون مواظبةٍ وَمواكبةٍ على رفض وَدحض الحقائق التي تشكل خطرًا على معتقداتها وَعقيدتها، لأنها عاجزة عن مواجهة الحقائق ومُتقاعسة غيّر مستعدة للتخلي عن وهم المعرفة الخاطئة.
لذا فهي دائمًا على موعد مع الهروب عند مواجهة الحقائق الخفية.

فالمتعلمين وَالمتعلمون في أوطاننا العربية لم يضيفون شيءٍ جديدًا إلى مجتمعاتهم، بل غالبيتهُم يتباهى أنهُ يحمل شهادة فقط، وَ في الواقع هُم لا يحملون أيّ ثقافة مغايرة، لأن ما تعلموه هو تعليمًا منهجيًا مقررًا مقيدًا، وليس تعليمًا حرًا، لذلك التعليم العربي عامة لا ينتج ثقافة حقيقية بقدر ما ينتج ثقافة أُميَّة ذليلة لا تحُث الإنسان على تسلق جبال الحقائق خوفٍ من سقوط الأوهام التي يعتد بها وَيعتمد عليها من قبل المتعلمين العرب، فمعظمهُم متعلمين لكنهُم غيّر فاهمين فمن شأن العلم والتعليم أن يدفع الدول إلى التقدم والتطور والإبداع في شتى المجالات ومناحي الحياة، لكن ما أراهُ هو تجمد فكري وتبلد عقلي خطير جدًا، وأتساءل هنا ماذا أنتج العرب، وبماذا أبدع العرب منذُ ١٤٠٠ عامًا ما الذي قدمناهُ إلى الإنسانية والبشرية جمعاء، أليس من حقنا أن نطلق سهام التساؤل على العقول لنستفزها، فالمتعلمون العرب يعرفون القليل لكنهُم يدعون معرفة الكثير وهذا وهم كبير، فهذهِ حيلة يستخدمونها لإقناع أنفسهم بأنهم يعرفون لأنهم محاطون بأُناس أقل منهُم معرفةٍ، فالمجتمعات العربية دائمًا ما تعزل نفسها عن أيّ معرفة خارجيّة، فهي لا تستخدم إلا المعرفة الداخلية السائدة أو المتوارثة، فهي تشعر بالخطر من أي معرفةٍ مغايرة ولا تحبذ التوغل في ادغالها.

أُحدق في الإنسان العربي وأُمعن النظر فيه، فأجد المتعلم وَغيّر المتعلم، يميل بشدة إلى الدفاع عن المعتقدات وَالعقيدة بضراوةٍ وَبأسٍ شديد ويتزايد هذا الحماس مع تزايد أعداد الحشود، فالإنسان العربي، يعتقد أنهُ يعرف كل شيء، لكنهُ لا يعرف شيء، وَ على ما يبدو لي، أنهُ كلما تقدمنا في السن، تقدمنا في جهلنا وشعرنا بجهلاً أكبر، يحاصرنا حصارٍ خانقٍ من جميع الاتجاهات وَيضعنا في أوضاعٍ غيّر طبيعية غيّر عقلانية أوضاعٍ جنونية.

إن العرب فشلوا في تجاوز الجهل، والعبور إلى بر العقل والإبداع، وأصبحوا أسرى للماضي ومسجونين بالحاضر وَيجهلون المستقبل، فهُم مشغولون للغاية في استيعاب الماضي وما حدث في الماضي لا يشغلهُم استيعاب الحداثة وَغريزة التطور واللحاق بركب الحداثة والعلم، نحنُ لا نزحف إلى التغيير ولا نحبو إلى العقل، بقدر ما نزحف إلى الجهل ونحبو إلى الأموات، نعيش في عصرًا أغدق به الجهل على الجميع إنحطاطهُ، فالعقل العربي لا يستطيع استيعاب أيّ معرفةٍ مغايرة أو حداثة، لأنه عقلاً مُؤطِّر بالتدين وَمتحيز إلى المعتقدات ومحبوس بين جدران الجهل، لذلك كل هذهِ الأشياء تعيق العقل عن الاستيعاب بصورةٍ صحيحة كان حريًا بالتعليم العربي أن يكافح الجهل والتمييز والعنصرية وَالكفاح عُمومًا من سمات التعليم، ولهذا قد يستغرق العقل وقتٍ كبيرًا حتى يتمكن من الخروج خارج كهف الجهل.

في أوروبا والدول المتقدمة يتحمل التعليم العام مسؤولية إبقاء عقول الشباب منفتحة دائمًا، في الشرق الأوسط والدول المتأخرة يتحمل التعليم العام مسؤولية إبقاء عقول الشباب مغلقة دائمًا، هذا هو الفارق بين العرب وَالغرب، فهذا التلوث الفكري والقمع العقلي ورث اغلال وضيق في طرق المعرفة لدى الأجيال لأن الأجيال الجديدة دورها الحقيقي هي أن تغير الواقع، ولكن ما يحدث أن غالبية الأجيال الجديدة تولد تحت تأثير جهلاً معرفيًا سابق ومرسخ بصورة تامة يعيد انغلاق العقل ويغدق جهلاً أكثر فيصبح الجيل الجديد مجهزًا للتطبيع مع الجهل لا التطبيع مع التطور ناهيك أن العقل العربي لا يراجع أبدًا ما يزق فيه من معلومات، بقدر ما يكون مطمأنٍ لما تم تخزينهُ في دماغه، ومع مرور الوقت يزداد الجيل الجديد أكثر هشاشةٍ فكرية مع تقدمهم في العمر، ويزدادون أكثر معارضة إلى العلم والتطور.

الأيديولوجيا المؤسسة هيّ من تمنعنا من الاعتراف أننا جاهلين، لأن معظم ضحايا الأيديولوجيا يميلون في الواقع إلى الجهل، والجهل مبني على الأيديولوجيات، قد تكون أيديولوجيا المعتقدات أو أيديولوجيا القبائل أو أيديولوجيا الطوائف والمذاهب، وهذهِ الأيديولوجيات تقوم بزراعة بذراتها في العقول فتنمو وتتطور وتصبح حقيقة ثابتة، ومع الوقت شيءٍ فشيءٍ تتحول هذهِ البذرات الأيديولوجية إلى مطبات فكرية خطيرة وَمنصات عقائدية مدمرة تطلق منها أعتى سهام الجهل على المجتمع.

فمثلاً أطفال القبائل في جنوب وَغرب العراق يختلف نمط وأسلوب حياتهُم عن أطفال بغداد الذين ليس لديهم تماس مباشر مع القبائل، ناهيك أن نساء بغداد يختلف نمط حياتهُن عن نساء غرب وَجنوب العراق، فالطوائف الدينية تفرض سيطرتها ونفوذها في المُدن التي تتمتع بنمطٍ ديني عقائدي وَتفرض مرسومٍ إلزاميًا على النساء في تلك البقع الجغرافية بلباسٍ محددًا، وهذا هو ما يسمى التعريف الأيديولوجي وَالذي يعاني دائمًا من قيودًا مؤطرة نهاياتها مغلقة ترفض كل مختلفٍ يقف خارج حدودها الدينية، لذلك كل مدينة تتمتع بلباس القداسة بالضرورة تكون مدينة غير سلسة إزاء التطور والانفتاح، وتعمل جاهدة على أن لا توفر مساحة لأيّ مرونة ثقافية أو علمية.

وَ في طبيعة الحال الإنسان الذي لديهِ إيمان ديني لن يعترف بالعلم، لأن العلم يتعارض مع الدين، ولذلك كل ما تعمقت في الدين ابتعدت عن العلم، وَكلما ابتعدت عن العلم أصبحت أقرب إلى الجهل، والحقيقة أن الدين هو من يحتضن الجهل وليس العكس تمامًا، وَمثال حي على ذلك عندما نرجع إلى تاريخ الكنيسة نجد اليوم في عصرنا إن المجتمعات الأوروبية في تتطور كبير، لكن في الوقت ذاتهُ نجد أن الكثير من الكنائس في أوروبا لا زالت عالقة في الماضي ولا زالت تمكث في صندوق الأفكار القديمة، دائمًا ما تزعج النتائج العلمية العقائد والمذاهب الدينية لأن كل نتيجة علمية تتحدى النصوص الدينية والتفسيرات التقليدية وَمن الأخطاء الشائعة في مجتمعاتنا العربية أننا نعتبر الكهنة وَالفقهاء علماء وهذا خطأ فاحش، في الواقع لا يمكن اعتبار الكهنة والفقهاء على أنهم علماء.

إنّ كل التقليديين وَالماضويين الذين يجترون أقاويل الغابرين، هُم على صراعٍ متواصلٍ مع العلم وإنكارًا قائم لكل معرفة جديدة، المؤمنون يسهرون على حراسة إيمانهُم على قدم وساق ليحققوا ما يسمى (بالإعجاز العلمي)، فلا يوجد شيءٍ أسمهُ إعجاز علمي في الكتب الدينية، وإنما هيّ عملية انسجام بين العلم الإسلامي الفقهي وَالعلم بين العلم المسيحي الكهنوتي وَالعلم بين العلم اليهودي التوراتي وَالعلم، وَجميعهُم يوظفون النصوص لهذهِ المهمة ويعملون على إعادة تفسير النصوص والتعاليم الدينية التقليدية على أنها حقائق علمية ثابتة، لكن في الحقيقة هيّ لا تمت للعلم بأيّ صلة.

نعيش في عصر الإنترنت والتكنولوجيا وَلكن الجهل لا يزال سائدًا ولا يزال الناس جاهلين، بالرغم أننا نعيش في عصرًا مليئاً بالمعلومات الوفيرة وَالمعرفة متاحة للجميع وَليست حكرًا على أحد، إذن ما السبب؟

في الواقع إنّ الجهل ينتشر أسرع من الدين، على الرغم من إنّ الدين هو من يحتضن الجهل كمَا ذكرنا سلفًا في باكورة مقالتنا، إلا أن الجهل أسرع انتشارًا وَتقدمًا في ميادين المجتمعات، إنّ الجهل هو تلك الشبابيك والأبواب الموصدة وَالمغلقة هو تلك السجون وَالعقول المحبوسة، بالمعرفة تأتي من الخارج أما الجهل فيأتي من الداخل، من داخل أنفسنا وأنفاسنا، أننا لا نستدعي العلم لاستكشاف المستقبل، بقدر ما نستدعي الجهل لاستكشافهُ أننا في حالة إغراء ورغبةً تامة في الجهل المعروف لا الجهل المجهول، لا تثيرنا تلك الصواعق والظواهر الفلكية ومجرات الكواكب، بقدر ما يثيرنا شعر المرأة وَصوت المرأة وإقامة الصلاة وَطاعة ولي الأمر والسلطان وَالوقوف بانتظامًا صفٍ واحدٍ خلف حضرة الإمام، أن الجهل يتوسع وَيوسع قواعدهُ بالتأخر وَالتقهقر، أما العلم يتوسع بالازدهار وَالتطور، وَكلما توسعت قواعد الكهنة المتدينون تقلصت قواعد العلماء الحقيقيون، إنّ علماء الكونيات والفيزياء والكيمياء والفلاسفة ينهلون معرفتهم من بئر الكون فكل ما اخذوا دلوٍ منهُ أصبح بئر الكون أعمق وأوسع وَكل دلوٍ سحب من هذا البئر رجع بفائدةً عظيمة على الإنسانية جمعاء.

وَلكي ما نصل إلى هذهِ المرحلة، علينا إنّ نتعرف بجهلنا وَجهالتنا، وَلذلك أنني أقرُ إقرارًا بأنني جاهل، وَكمَا أننا جميعنا جاهلون، لكن كبرياء جهلنا يمنعنا من الاعتراف، إنني بخيتٍ في اعترافي بجهلي في هذا الكون، لأنني واقعيًا معترفٍ بإفلاسي واحتياجي إلى المعرفة، لا أدعي الإثراء العلمي ولا الاستغناء عنهُ ولا الواقعيّة السحرية كما يفعل الآخرون، بل أنني راغبًا طالبًا في معرفةِ ما لا أعرفهُ كي لا أبقى جاهل في وسط هذهِ الحشود المريضة، أُريد إنّ أُطلق العنان لشراع عقلي أن يبحر إلى المجهول بحثٍ عن المعرفة، إنّ اعترافنا بجهلنا سيساعدنا على إدراك أننا صغيرون تافهون، أحجامنا صغيرةً جدًا أمام هيبة الكون وَرهبة المجهول وَصفعة الطبيعة، لذلك ستكون هذهِ الحياة سخيفة وَتافهة وَمُبتذلة وَمخيبة للآمال إذ توفرت لدينا جميع الإجابات على كل تساؤلاتنا.