23 ديسمبر، 2024 8:58 ص

كاهنة قرية أم البشوش

كاهنة قرية أم البشوش

في الجنوب يطلقون على أحد انواع البط أسم ( البَشْ ) وأهل المدينة لا يميلون اليه في الطبخ بقدر ميلهم الى الطير الحر والدجاج ، فيما أهل الصابئة المندائيين يحبون تتناوله ، ولهذا يأتي بعض صيادي الاهوار في الشتاء والربيع ليعرضون بضاعتهم من ( البشوش ) على أرصفة شارع الصاغة في الناصرية. وهناك الكثير من بيوت المدينة واغلبها الاحياء الفقيرة التي تعيش في ضواحي المدينة من يربي اهلها البشوش.
قرب بيتنا هنا في المدينة الألمانية الصغيرة تقع حديقة المدينة ، وهي عبارة عن محمية صغيرة لأجمل واندر النباتات ، واجمل ايام زيارتها هو الصيف حيث يتوسطها بحيرة تحيط بها أرائك التأمل والنزهة ويجلس الشعراء والعشاق وكهول الحروب القديمة جنبا الى جنب يأخذون لحظة التأمل الفاتنة من هدوء البط وهو يعوم بهدوء وبطْء ، وبعضهم يتخيل معه الصدى الساحر لموسيقى  قصة بحيرة البجع لجايكوفسكي وآخر يتخيل معه تفاصيل حكاية البطة ( سوان ) في الأساطير الصينية تلك التي سرقوا السحرة منها اجنحته فصادقت الغيوم لتهديها اجنحة بيض تكمل بها مشوار حياتها أما أنا فأتذكر مع البط تلك ( البشوش ) التي كانت جارتها ( أم حسن ) تربيها ، ومرات عندما تبيض بيضا يميل الى الاخضر احمله اليها ، فتشكرني بإعطائي نصف رغيف أو عدة فردات من التمر.
وتكرر مشهد ( البش ) في قريتنا ، لكن صدى الاسم ترسخ بذاكرتي يوم اخذت ( أم مكسيم ) ولدها الذي اصيب برأسه بنوع من الصدفية ، الى قرية ابعد من قريتنا بفرسخين تسمى قرية ( أم البشوش ) وربما سميت بهذا الاسم لان معظم سكانا يربون بط البش الى جانب الجواميس ، وحين سألت شغاتي أن كان هناك مستوصفا ؟
قال لا .هناك الزايرة ( ماورده ) هي من تعالجها .
ومع غرابة الاسم ( ما ورده ) سألته ان كانت هي خريجة كلية الطب .؟
ضحك وقال : يا طب استاذ هي خريجة كلية الطين فكل ما تفعله هو انها ستأخذ من ضفاف الهور طينا وتقرأ عليه وتدهن رأس الولد وسيطيب بأذن الله. ففي يديها البركة .
قلت :اذن هي طبيبة وكاهنة.؟
قال :نعم وجميع القرى تعتقد هذا.
وهكذا كل طفل يمرض يأخذونه الى كاهنة وطبيبة قرية أم البشوش ، ولكن الرجال لا يذهبون ، النساء والاطفال فقط .
وحين سألت عن سبب أنها لا تطبب الذكور ؟
قال شغاتي : ما ورده تستحرم من ملامسة اجساد الذكور .؟
قلت :ولكنه طب ؟
قال : هذا عندكم ، عندنا حتى الطب له حدود .
ــ أذن الرجال اين يذهبون .؟
ضحك وقال : الى كاهن في قرية أم الواوية .
كدت اقع على الارض من الضحك وقلت : شغاتي صدك تحجي .
قال :وداعتك استاذ.
قلت وما أسمه : قال اسمه سيجعلكَ تقع ثانية على الارض من الضحك .
قلت : وما أسمه .
قال :الشيخ عِليل .
وحقا كدت اموت من الضحك وانا اتذكر ذلك البيت الازلي من الشعر والذي يقول :طبيب يداوي الناس وهو عليل.
بين كاهن قرية الواوية وكاهنة قرية البشوش تبش مسامات جسدي امطار الذكريات وانا جالس على ضفاف بحيرة الفردوس وعلى اريكة من الابنوس في الحديقة العامة لمدينة زولنكن الالمانية .
وجفني يرنو الى هناك وفي احساس عميق اني احتاج علاجاً لقليل من الهومسك الذي يسكن جسدي من خلال بركات طين الحاجة ( ما وردة ) كاهنة قرية أم البشوش……!