17 نوفمبر، 2024 3:52 م
Search
Close this search box.

كان يا ما كان بحرب 1973 ومابعدها من نوايا صادقة تخطت حاجز الزمان والمكان!

كان يا ما كان بحرب 1973 ومابعدها من نوايا صادقة تخطت حاجز الزمان والمكان!

علمتني الحياة أن النية الصادقة لها دور كبير في إعلاء الهمم وزيادة المعنويات ورفع القدرة على تحمل المصاعب وتذليل الصعاب ،وحدث أيام الحرب العراقية -الايرانية 1980/ 1988وفي إحدى الجبهات الجبلية أن لفت انتباهي منظر نائب عريف كان يأتي في كل يوم نزولا من أعلى القمة بجلكاني ماء فارغين ليملأهما بسرعة عند نبع الماء القريب من مقر اللواء ومن ثم يحملهما على كتفيه ليصعد بهما ثانية الى القمة في مسيرة يومية شاقة للغاية لايقوى عليها الا أصحاب الإرادات الصلبة والبنى الجسمانية القوية،الا أن اللافت في الموضوع هو أن النائب عريف هذا كان نحيف البنية،طويل القامة يبدو للعيان وديعا وضعيفا ومدللا ينحدر من أسرة ميسورة الحال،وهكذا كان حاله في كل يوم نزولا وصعودا والكل يقول له”ادري شجاريلك ..يمعود شنو القضية ما كو احد غيرك يتولى المهمة، يتناوب معك ؟ زين شيل جلكان الصبح ،وجلكان العصر”وكان يرد بإبتسامة وديعة قائلا “ماكو مشكلة” وسط استغراب الكل واستهجان البعض، وذات يوم سألته على إنفراد وكانت تبدو عليه أمارات الثقافة والوعي والمعرفة جلية لاتخفى على أحد “اخوية ..احجيلي ..كلي ..شنو فيلمك بالضبط ؟”، قال باسما”لو كان حمل هذه الجلكانات أمرا عسكريا – غصبا على خشمي – فيما البقية الباقية من المراتب -خدة وخدر ..كلهم نايمين براسي – لما كان بإمكاني حمل نصف جلكان كل يومين أو ثلاثة أيام مع ابداء السخط والتذمر الواضحين وعصيان الأوامر جملة وتفصيلا لأن هناك العديد من المراتب بمعيتي ولابد من توزيع المهام على الجميع بالتساوي وبالعدل والانصاف،ولكن وعندما تصير النية هي “حمل الماء لأشرب وأتوضأ ويتوضأ ويشرب بقية المراتب كلهم معي فأكسب بذلك أجر وضوئهم وصلاتهم وغسلهم وشربهم وطبخهم كاملا فسترتفع ساعتها المعنويات عاليا ويتراكم الأجر تباعا “هذا أولا ، أما ثانيا فعندما يدخل حمل الماء بهذا الشكل القاسي اليومي ضمن أساليب الحفاظ على اللياقة البدنية وزيادة القوة الجسمانية وتدريب النفس تدريبا شاقا متواصلا استعدادا لخوض نزال مرتقب في فنون القتال الأعزل مدرسة -شوتو كان- اثناء الإجازة الدورية فإن القضية ستختلف كليا ولاريب، فما بالك حين تجمع بين النظافة والوضوء والشرب والطبخ والأجر الجماعي فضلا على الاستعداد لنزال كاراتيه مرتقب ،لاشك ستكون حينئذ مستعدا لحمل الجبل نفسه وليس جلكانات الماء على كتفيك فوقه فحسب !
هكذا تفعل النية الصادقة الأفاعيل حين تكون حاضرة وبقوة ،ربة المنزل عندما تستعد لإعداد موائد افطار رمضان يوميا طيلة الشهر الفضيل من الساعة الواحدة ظهرا وحتى موعد الافطار اذا كانت نيتها محددة بإعداد الطعام فحسب كواجب من الواجبات المنزلية فستشعر بالتعب والسآمة تدريجيا، أما اذا كانت نيتها هي افطار الصائمين وكسب أجورهم وإسعاد العائلة بأسرها بدءا بزوجها وإنتهاء بأصغر فرد في الاسرة ناهيك عن الضيوف المرتقبين من أقاربها أو أقارب زوجها فستعمل من دون كلل ولا ملل والابتسامة وعلامات الرضا تعلو محياها ..الانسان الكادح عندما يخرج مع صياح الديك بنية طلب الرزق الحلال واطعام اهله واولاده والحيلولة بينهم وبين ذل السؤال ستكون له بمثابة سعادة ورضا تعمل على تصبيره طيلة ساعات كدحه وعمله المضنية ..العامل في مصنعه، المزارع في حقله ،الموظف في وظيفته ،المعلم في مدرسته ،الطبيب في مشفاه ومن على شاكلتهم كلهم اذا ما استحضروا النوايا الطيبة والاهداف السامية في عملهم فسينقلب تعبهم وجهدهم الى راحة ضمير والى سعادة نفسية غامرة !
في الصحافة ،هذه المهنة التي أعمل بها منذ زمن طويل – لا أحبها نهائيا – عندما تكون للمال فقط ، أو لصناعة اسم فحسب، ولكن وعندما تكون رسالية خالصة غايتها إحقاق الحق وإزهاق الباطل ونصرة المظلوم ومحاربة الفساد والافساد فتكون ساعتها أحب المهن الى قلبي على الاطلاق ، لأن الصحافة الرسالية لاتتأثر ولاتتحجم بقيود المادة ولاتدور في فلكها ، كما أن صاحب الصحافة الرسالية لايصير أسيرا لجمهوره ولا لمدرائه لصناعة اسمه ولن يضطر حينها الى مغازلة مشاعرهم وخطب ودهم وان كان على حساب الحقيقة والمبادئ والقيم فتراه يراوغ طمعا بمزيد من القراء من جهة ورغبة في إرضاء رأس المال من جهة أخرى ضاربا عرض الحائط كل المثل والمثاليات ،الصحفي الرسالي لايخشى في الحق لومة لائم ويقول الحق ولو على نفسه ،ولو على طائفته،ولو على قوميته،ولو على عشريته ، ولوعلى حزبه ،ولو كان هذا الحق مرا،حتى وان انتقده وهاجمه كل من حوله ،حتى وإن غضب رأس المال عليه، كل ذلك لايعنيه بقدر الرسالة التي ينوي ايصالها للناس خدمة للصالح العام بنية صادقة وسعادة منقطعة النظير، فإن صار الأمر برمته”رساليا،ماديا،معنويا “في ذات الوقت وبنفس المؤسسة فبها ونعمت ،أما اذا صارت مادية من دون رسالة تذكر، أو معنوية من دون هدف سام له قيمة فلا خير فيها البتة ، الرسالة والنية الصادقة أولا وأخرا وكل ما يأتي من خير معها وبعدها فهو زيادة في الخير!
وبما اننا نتحدث هنا عن الصحافة الرسالية الحرة وعن النية الصادقة وبما اننا نعيش اليوم ذكرى حرب تشرين 1973 فلابد من من المرور على احد هؤلاء الصحفيين الرساليين المبدعين الصادقين ، رحمك الله “ابا عمر” فلطالما حدثتني عن حرب رمضان 1973وبطولات العراقيين هناك ..كنت أجلس كما الأطفال الصغارعلى الارض وبيدي كوب الشاي الاسود، مصغيا بكل جوارحي الى زميلي وصديقي واستاذي المتألق في كل فنون الصحافة المكتوبة – ابو عمر – رحمه الله تعالى واسكنه فسيح جناته ، كان رساما للكاريكاتير الساخر ولا أروع من حيث الرسمة والفكرة والمضمون ..كان كاتب افتتاحيات لايبارى ..كان كاتب مقالات لاينافس ..كان محللا سياسيا لايشق له غبار ،ما إن تسأله في الشعر حتى يجيبك شعرا ونثرا، تسأله في النحو والصرف فيجيبك بأمهات كتب اللغة العربية ، قال سيبويه وتحدث الاخفش ورد ابن جني ، جاء في قطر الندى والاجرومية والفية ابن مالك “، تسأله في التأريخ فبجيبك بأكثر مما تتمناه مع تفسير لأحداث التأريخ ،وقال ديورانت وتحدث توينبي ، تسأله في السياسة فجيب فوق ما تتوقع ، وهكذا كان شأنه في الفلسفة والاقتصاد والادب والجغرافيا وبقية العلوم ، الا ان اجمل ما كان يقص على مسامعي حين كنا نقضي الليالي معا لإعداد الصفحات والمقالات والزوايا المخصصة لنا واكمال المهام المناطة بنا في احدى الصحف العراقية المحلية هو حديثه عن حرب السادس من اكتوبر / تشرين الاول/ 1973 المجيدة وعن مشاركته شخصيا فيها خلال شهر رمضان المبارك من ذلك العام ضمن القوات العراقية الباسلة التي لم تترك حربا ولا معركة لأجل فلسطين الحبيبة الا وكان لها حضورها الفاعل فيها لتسطر أروع ملاحم البطولة والفداء على أرضها المعطاء ،وقبور شهداء العراق وآثارهم ماتزال شاخصة الى يومنا هناك في جنين والخليل وفي كل مكان .
مازلت اذكر حديثه وكيف انهم كانوا صياما في رمضان يومئذ فطلب منهم أمر الوحدة بأن يفطروا لأنهم مقبلون على حرب تحرير كبرى وفي ذلك رخصة لهم ..كيف استقبلهم الشعب السوري الشقيق بالتحايا الحارة والاحضان وكيف كانوا يتسابقون لتقديم الطعام والشراب لهم .. كيف دافعوا وكيف دفعوا خطر العدوان الصهيوني الغاشم عن مدينة الياسمين دمشق الحبيبة .. كان يحدثني عن بطولات سربي طائرات الهوكر هنتر العراقية على الجبهة المصرية بعد ان دكا مواقع صواريخ أرض – جو الصهيونية ودمروا دبابات الاعداء، وكيف طلب الفريق سعد الدين الشاذلي ولأكثر من مرة ارسال سرب المقاتلات العراقية قائلا “نريد السرب العراقي ..نريد سرب الهوكر الهنتر”،الذي استشهد من طواقمه ثلاثة طيارين فيما أسر ثلاثة آخرون منهم ..كيف شارك سربا طائرات المبغ 21 والسوخوي العراقيين على الجبهة السورية حيث بلغ عدد شهداء العراق هناك 323 شهيدا دفنوا بمنطقة السيدة زينب .. كيف استقبلهم العراقيون بعد عودتهم ظافرين بالزهور وعلامات النصر والاعلام والفرح الغامر سائلين للشهداء الرحمة والرضوان ولذويهم الصبر والسلوان ..كان رحمه الله تعالى رقيق القلب ، سريع الدمعة ..يقص ذكرياته تلك بعينين تذرفان ..وهكذا مرت الايام والسنون سراعا وفي كل ذكرى سنوية لحرب تشرين المجيدة ، استذكر ابا عمر ومشاركته البطولية فيها ..رحمه الله تعالى ورحم كل شهداء وابطال العراق وجيشه الباسل والرحمة موصولة لشهداء الجيشين السوري والمصري آنذاك ولكل من شارك في حرب تشرين الخالدة التي تشكل نافذة أمل وبصيص نور ما تزال وستظل شاخصة ومتوهجة في الذاكرة العربية وعلى عناد التطبيع والتركيع والتخنيع ، وعلى عناد افيخاي ادرعي وايدي كوهين ووسيم يوسف وضاحي خرفان وكل من على شاكلتهم من اصحاب النوايا السيئة والطروحات الخبيثة والرسالات السوداء ، ولاسبيل لمواجهة هؤلاء جميعهم الا بأصحاب النوايا الصادقة والرسالات الخالدة والهمم العالية وما اكثرهم إن أحسنت نخوتهم وصحت دعوتهم وصدقت فزعتهم !اودعناكم اغاتي

أحدث المقالات