17 نوفمبر، 2024 3:23 م
Search
Close this search box.

كاندنسكي والفن التجريدي معطيات أفرزته الحداثة

كاندنسكي والفن التجريدي معطيات أفرزته الحداثة

كل حركة جديدة في تاريخ الفكر الإنساني إنما هي صيرورة تعبر عن الأسلوب المعاصر لفكر ذلك العصر؛ وتعطي ملامح جديدة لهوية الإنسان، وكل مفهوم يستحدث يفرز التباس مفاهيمي بما ينطوي من تعقيد وغموض لتشعب ارتباطه المعرفي بحقول أخرى وبتعدد مدلولاته وإبعاده ومواقفه من الوجود ومن القيم الإنسانية ومن مستويات المعرفة الأخرى؛ العلمية والفلسفية والأدبية والثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وهذه الإشكاليات تبرز حينما يتم ما هو مستحدث وحديث بالتداخل فيما بين هذه المستويات .

فكل حركة من الإبداع الحديث إنما غايته هو تطوير أساليب التفكير باتجاه الحياة والوجود والأشياء المادية وتغيره بالعمل والسلوك بما يترتب عنها من تحولات دينامكية في مستوياتها البنيوية، وما تحولات البنيوية التي حدثت في أوربا نهاية القرن التاسع عشر حيث الثورة العلمية والصناعية والتقنية التي تخطت منظومة الإنتاج ليتمخض عنها قيام إيديولوجية رأسمالية واشتراكية والتي تمخض عنهما أيضا قيام نهضة فكرية واجتماعية وسياسية؛ وهو ما وسع دائرة الاعتراف بإمكانيات الإنسان وقدراته الذهنية في تعزيز حقوقه وواجباته في دوائر المجتمع والأفراد، وهذه التغيرات المجتمعية التي شهدها العالم خلال الحقبة الماضية؛ ما هي إلا نموذجا لسير مجريات الحياة نحو (الحداثة) لتقرأ مقومات (الحداثة) وفق السياق التاريخي لتطور الإحداث، وفي مجمل هذه التراكمات ومن التفاعلات والتغيرات المجتمعية حققت طفرة في تطور الفكر الإنساني على كل المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهذا (الاستحداث) لمنظومة الحياة كان بمثابة نقلة نوعية لم يستثنى منها أي جانب من جوانب الحياة لا المادية ولا الروحية فكان – ونحن بصدد الفن – انعطافا لتغير كل أنماط (الفن التقليدية) لان (الحداثة) شكلت قطيعة ليس مع أساليب الفن المتبعة في السابق بل حتى مع التراث والماضي؛ لا تمردا عنه بل لاحتوائه وتكويره وإدماجه وتحويره بأساليب متجددة بأنماط حديثة، فنمط الصراع الفكري والفلسفي الذي ظل قائم بين (الشكل) و(الموضوع) وبين (العقل) و(الدين) وبين (المثالية) و(المادية) وبين (الوجود) و(العدم)، والتي على ضوء هذه الجدليات بنيت مدارس ومذاهب فكرية في العصر الحديث كـ( الرمزية) و(الوحشية) و(التكعيبية) و(التجريدية) و(الدادائية) و(السريالية) و(المستقبلية) و(العبثية) و(الوجودية)، التي لم تكن إلا وجها لتعبير عن أزمة الإنسان في العصر الحديث وإحساسه بالاغتراب والتمرد؛ ليمضي قدما بتمجيد (الجسد) وإعطاء كل إشكال التمرد على أساليب التعبير والقيم المألوفة في الإنتاج الفني، ولم يتوقف البناء الفني عند هذا الحد بل تجاوز إلى الشكل الداخلي للنص؛ كما تم في بناء أسس الحركة (التجريدية) التي ركزت على (الشكل) بمقدار ما يستحوذ (الشكل) على مظهره الجمالي دون مبالاة بـ(المضمون)، ليستحوذ (الشكل) على كل الاعتبارات على مستوى العلاقات؛ لأن المظهر الفني الذي تتبدى فيه اللوحة؛ هو كل شي منذ البداية وحتى النهاية، وهو الذي يرسم لها وجها (جماليا)؛ وهو بتالي يساهم في إكمال وإعطاء الوجه الشمولي لبناء اللوحة (جماليا)، و(الشكل) كما تنطلق الحركة (التجريدية) يساهم في ربط العلاقات بين المظهر والجوهر ليعطي لها تناغم وتفاعلا (جماليا) لبناء اللوحة؛ بما يقدمه (الشكل) من مؤثرات على مستوى عمل اللوحة وأسلوب الفنان الذي يقدمه عبر ابتكار إشكالها وتطويعه لاستكمال مضمونها، ليكون (الشكل) هو المستحوذ عليها لإظهارها (جماليا)، لان المتلقي أول ما يقف في مواجهة اللوحة يوقفه (شكلها) باعتباره مظهرها المحسوس؛ فدور (الشكل) في اللوحة (التجريدية) يكمن بفعاليته في احتواء (المضمون)؛ و(المضمون) تكمن فعاليته في احتواء (الشكل)، وبين تلاحم فيما بين (الموضوع) و(الشكل) تكتمل اللوحة (جماليا) بعد إن يكون (الشكل) قد بعث رسالته للمتلقي بالنشوة التي يحسها وهو يتأمل مضامينها فيها، لان لا قيمة (للموضوع) إذ لم يستطع (الشكل) التعبير عنه بشكل أخاذ، ولقيمة (الشكل) وأهميته في العمل؛ كان انطلاق الحركة (التجريدية) منه؛ وأعطت كل إمكانياتها التقنية والإبداعية لهذا الجانب، لان (الانبهار) و(الدهشة) و(اللذة) و(المفاجئة) التي يشعر المتلقي للوحة المقدمة لا يأتي إلا من خلال (الشكل)؛ فكل أسس البناء للوحة كاملة البناء لا يترشح عنها قيمة (الجمال) إلا من خلال مستويات شكلها أو مظهرها الخارجي بكل تفاصيله ومكوناته، ولهذا فإننا أمام لوحات الفن (التجريدي) نلتمس هذا الإبداعي التقني بـ(الشكل) بما يشاع من مناخ جمالي ليدهشنا بروعتها؛ وحينها لا يمكن إلا إن نقول عنا بأنها في غاية (الروعة)؛ وحين يصل مستوى تقيمنا لها هذه الدرجة، وهو لا يأتي إلا من خلال (الانبهار)، واللوحة التي تثير في المتلقي هذا (الانبهار) تصل مستوياتها بأعلى درجات التقييم (جماليا)؛ بغض النظر عن (الغموض) الذي يشاع منها، لان جل اعتماد الفن (التجريدي) يكون على (الشكل)؛ و(الشكل) في الفن (التجريدي) ليس له معالم تفهم بصريا لأنها بلا حدود وليس لها معالم واضحة تميزها؛ بقدر ما تترك (للخيال) فرصته للغوص في أعماقها، لان فن (التجريد) يبحث بكل ما هو مطلق وعام؛ ولا يقتصر معالمه بالجزء أو الكل، وهو يبتعد عن أي حدود للفكر والأدب؛ بقدر ما يتجه اتجاها (موسيقيا) رغبة من مبدعيه في تحويل (الفن) إلى إيقاع (موسيقي) ليس إلا؛ فكما إن حدود فن (الموسيقى) هو إيقاع شكلي ومجرد، كذلك وسعوا التجريديين بناء فن (التجريد)على أسس الرسم (الشكلي) بإيقاع اللون والإشكال الهندسية ومستقيمات صاعدة وهابطة وألوان كثيفة وباهته وبسيطة ومعقدة، وهذا الاتجاه الذي تبناه الفنان التجريدي (كاندنسكي) وهو من مؤسس الحركة (التجريدية) كان بمثابة إعلان بكون فن الرسم (التجريدي) و(الموسيقى) منبع للغة واحدة، وهي لغة (التجريد)، وهي (لغة) لا تشخص ولا تحاكي أي شيء؛ فهي شيء بذاتها، ولهذا فان قراءة لغة فن (التجريد) تكون قراءة تشخيصية ذاتية.

ومن هنا نشخص الفن (التجريدي) باعتباره فن مجرد من أي مرئيات أو تشخيص أو مشابهة في الإشكال الواقعية أو الطبيعية، والفن (التجريدي)، هو فن الذي يقوم الفنان باختزال الأفكار معبرا عنها بتشكيلات الألوان صعودا ونزولا في تدريجاتها وإضاءتها ومساحاتها دون توضيح ملامح لأي شكل من أشكال الطبيعة والموجودات بهذه الخطوط بقدر ما يعتمد الفنان على (الخيال) في رسم أشكال اللوحة المتخيلة أو التي يتخيلها من أشكال الواقع أو من (الخيال)، وبمسحة خياله يجرد منها أي تشابه أو ارتباط في شكلها الحقيقي؛ بقدر ما يعطي ملامح ضبابية لشكلها الأول لتظهر بشكل جديد، بمعنى إن الفنان (التجريدي) يقوم بإعادة كل ما هو محيط بواقعه بصياغة فنية وبرؤية جديدة يعبر عن ما هو في دواخله وأحاسيسه وخياله بالألوان ودرجاتها وتدريجاتها وحركاتها وضربات الفرشاة لتعبير عن الحالة النفسية للفنان باستخدام درجات اللون ومساحتها في اللوحة، فكل لون وزاويته ودرجته الضوئية يحمل تعبيرا معين بما يحمل من معاني عديدة، وفي (التجريد) كثيرا ما تأخذ الإشكال الهندسية من الدوائر والمستقيمات وتعرجاته والمثلثات والمستطيلات معاني في طريقة تشكيلها في اللوحة؛ سواء بتراكمها مع بعضها أو بتعرجاتها أو استطالتها أو بتداخلاتها أو بتفريقها؛ لتشكل هذه الإيقاعات سلما موسيقيا بتعبيرات ودلالات بصرية، ومن خلال هذه المعطيات فان الفنانون التجريديين أعطوا لـ(لشكل) أهمية أكثر من (الموضوع)، باعتبار إن الفن (التجريدي) هو مجرد فن التأليف الشكلي لا يعالج أي موضوع، ولهذا أطلق علية (فن اللاهدف)، وتحت الفن (التجريدي) صنف بعض الحركات الفنية التي ظهرت في بدايات القرن العشرين ومنها (التعبيرية) و(التكعيبية) و(المستقبلية) .

فالنقطة الرئيسة في الفن (التجريدي) هي بحوثه لمعرفة جوهر الأشياء؛ ليتم التعبير عنها عبر أشكال مختزلة إلى أقصى درجات الاختزال لتحمل اكبر قدر من التعبير؛ تحمل في تكويناتها كل الخبرات الفنية التي تثير في دواخل و وجدان الفنان و خلجاته ومشاعره وأحاسيسه، ولهذا فان الفنان (التجريدي) يخرج عن قواعد الرسم الواقعي من اجل إتاحة لمشاعره لتعبر عبر أشكال التي يضن الفنان بأنها تعبر عن مكنونات خياله فيفرط في تشويه إشكال الواقع لدرجة التي تبدوا (اللوحة) عبارة عن مساحات متشابكة من خطوط وإشكال هندسية ليس لها أي صورة من الواقعية بقدر ما تبدوا الصورة بشكلها الفوضوي المنسق بالألوان؛ ليس فيها أي قواعد لرسم الحقيقي للأشكال؛ بقدر ما يوحي كل شكل من أشكالها بمعاني متعددة حسب ما يفهمها المتلقي، والأشكال في الفن (التجريدي) ليست أشكال ساكنة ؛ بل أشكال متحركة بفعل ضربات الفرشاة وخطوط وتدريجات اللون بما تحدثه بتأثير الضوء من حركة داخل اللوحة .

ومن هنا فان تجريد الطبيعة من أشكالها الحقيقية الطبيعية؛ هو منطلق هذه الحركة، (حركة التجريد) التي فتح أفاقها الفنان (فاسيلي كاندنسكي 1866 – 1944 ) الذي يعتبر من أوائل مؤسسي (الحركة التجريدية) في الفن التشكيلي ومن ابرز روادها، وقد انساق منذ نعومة أظافره نحو مفاهيم المعاصرة؛ وهذا ما دفعه إلى البحث والابتكار كل ما هو جديد؛ مؤمنا بان حتمية الوجود (الفن التشكيلي) في الساحة الثقافية والإبداعية لا بد وان يواكب الاتجاهات المعاصرة؛ وان يفرض وجوده بقوالب جديدة غير النمطية التي كانت عائق نحو تحرر (الفن) من الأساليب التقليدية باتجاه التعبير الحر والمنطلق من أعماق الذات وصولا إلى جوهر الأشياء. ولما كانت غاية (الفن) هو في قيمته الجمالية في (الشكل) و(المحتوى) فقد اهتم الفنان (كاندنسكي) في حركته (التجريدية) بـ(الشكل) أكثر من (المضمون)؛ باعتبار إن (الشكل) قادر بما يحتوي من رموز تعبيرية وبما يمكن تأويل خطوطه وألوانه إلى شتى تفاسير؛ ومن الممكن إن تفسر وفق رؤية وثقافة المتلقي للوصول إلى (المضمون) الذي يعتقد بأنه اقرب إلى التعبير عن خلجات نفسه – أي نفس المتلقي – باعتبار (الشكل) له وقع وتأثير فعال في دواخل الروح، ولهذا لجئ (كاندنسكي) إلى تحويل (الأشكال) التي تثير نوازعه الداخلية إلى خطوط وسطوح وأشكال هندسية واختزال مساحاتها عبر النقاط وألوان وعبر تكثيف وتقليل إيقاعها الضوئي بحثا عن التعبير وصولا إلى الجوهر، فعمل وفق هذا النمط إلى تجريد أشكال الطبيعة والتقليل من عناصرها التفصيلية وصياغتها بشكل جديد عبر الخطوط والأشكال الهندسية، من مربعات ومستطيلات ودوائر وخطوط مستقيمة أو منحنية ومسطحاتها؛ لإبقاء الإيحاء موجودا ومتمثلا فيها لتعبير عن معانيها الطبيعية، وقد نجح (كاندنسكي) في بث الروح في هذه الخطوط المستقيمة والمنحنية بعد إن أعطى بتنسيق لوني مرتب ومتدرج وبألوان معينة وترتيبها وفق نظام نفسي معين، وقد تكون لوحته التي رسمها عام 1914 م المعنونة بـ(تكوين) خير مثال عن ذلك .

وفق هذا المفهوم ابتكر (كاندنسكي) فن (التجريد) بأسلوب وابتكار جديد حطم كل القوالب الفن القديم بحرفية موضوعية ولكن بعيدا عن أي فوضوية وعبثية في الرسم بقدر ما يتم التعامل مع كل خطوط وألوان اللوحة بشكل احترافي وبعقلانية صارمة وبتنسيق عالي الدقة في تنفيذ عمل اللوحة (اللا موضوعية)، فكان تركيزه على فكرة اللوحة ينطلق من خلال العقل الواعي ومتجها لتحقيق هدف مقصود، ولهذا كان (كاندنسكي) قبل تنفيذ العمل يخطط ويضع مخططات وتكوينات العمل بعناية فائقة؛ فالكثير من هذه التكوينات كان يبتكرها وأخرى كانت تأتي إليه من وحي خياله عن طريق (اللاوعي)، ففي كل عمل كان ينفذه كان يغوص خلف ما يراه؛ ليركز على عنصر الروحي الموجود في باطنه، ولذا فان (كاندنسكي) كان شديد تأثير بالأفكار (الصوفية)، اثر مكوثه لفترة أكثر عام واحد في بلاد (تونس) العربية؛ وهناك اختلط بالفرق (الصوفية) وعرف الشيء الكثير عنهم وعن الطرق (الصوفية) وأشعارهم وأساليبهم التصوفية، فعمل على الجمع بين (التصوف) و(الفن)، ليخلق نظاما شعريا تجريدي مفعمة بالمشاعر والأحاسيس وبالعواطف الداخلية؛ والتي هي أيضا عبر عنها بـ(تجريد) بعيدا عن أي التشخيص، و وفق هذا المنظور أسس حركة فنية (تجريدية) بمعطيات معاصرة شكلا ومضمونا؛ منطلقا في تحديد غايته من ابتكار (الفن التجريدي) هو تصوير إدراكنا بالنفس وليس بتصوير الأشياء كما هي، بل رسم النفس البشرية في أعماق مشاعرها، ومن هذا المنطلق ابتكر (كاندنسكي) لغة جديدة في الفن التشكيلي المعاصر تخاطب المتلقي بجماليتها الشكلية تعبر عن ماهية (الأشياء) بدلالات (رمزية) و وفق رؤية فلسفية لطبيعة هذه الأشياء وعبر تأملات (صوفية) مستفيضة واستشراقية من أعماق الروح، ليكون منجز العمل في (الفن التجريدي) عند (كاندنسكي) حسب أسلوبه يمر عبر ثلاثة مراحل:

الأولى، يحول اللون إلى إشارة صوتية مع إبقاء أوجه العلاقة مع الأشياء الواقع المتخذة منه في التشابه، ويسميها بمرحلة (الانطباعات).

الثانية، الاعتماد على الشعور الداخلي في تنسيق حركة وبناء اللوحة بتجسيد الإشكال بعيد عن الواقع، ويسميها بمرحلة (الارتجالات).

الثالثة، وهي مرحلة التكون الجمالي؛ حيث تقوم العاطفة والأحاسيس والمشاعر الثائرة في عوالم الشعور الباطني بتحويل الخطوط والألوان والأشكال إلى موسيقى تعبيرية، ويسميها بمرحلة (التكوينات).

ومن هذه المنطلقات يكون (الفن التجريدي) عند (كاندنسكي) باعتباره (خيال) يخلق من (اللون) رؤيا باتجاه العالم؛ بعد إن يتم إعادة صياغة الطبيعة والواقع برؤية فلسفية تفلسف كل ما يحدث من توترات نفسية داخلية وفق رؤيتها لتخلق منها لحظات الإحساس بـ(الجمال) لتخفيف من توترات الروح باعتماد على الاحتمالات التأويلية؛ بما يتم انجازه في خلق شعور بالانسجام الروحي والعاطفي داخل عمله، ومن هنا فهو يربط بين الصورتين؛ أي بين صورة العالم (الروحي) وصورة العالم (المرئي)؛ وعبر تجريد الصور يخلق (كاندنسكي) عالما (موسيقيا) بتداخل الخطوط والإشكال الهندسية المجردة وبتناسق لوني دقيق بغية (التعبير التجريدي) الذي عمل (كاندنسكي) إلى ابتكاره وتوسيع أفاقه بكل الاتجاهات الإبداعية؛ ليكون هو رائدا ومبدعا لهذا الأسلوب، أي الأسلوب (التعبيرية التجريدية)، فبعد إن كانت انطلاقته الأولى في عالم (فن التشكيل) متأثرا بأسلوب (الفن لتكعيبي) وقد شغف منذ البدا في تغير قوالب إشكال الطبيعية عبر أسلوب ( التكعيبيين) وذلك بإضافة لمسات مستمدة من إحساسه بما يريد التعبير عنه، بمعنى انه أضاف لبناء الهندسي (التكعيبي ) المشخص بإشكالها الهندسية لصور المنقولة من الطبيعة بعدا ذهني غير مشخص؛ ليكون هذا المحور نقلة جديدة ومبتكرة في أسلوب (كاندنسكي)، ليبني على ضوءه أسلوب (التعبيرية التجريدية) مبتعدا عن النقل من الطبيعة التي كانت بمثابة (الموضوع) ليستغني عنها بإشكال (تجريدية) بكامل بناءها الذهني؛ لينقل من خلالها أحساسة ومشاعره وكل ما يريد التعبير عن دواخله بهذا التجريد المبهم الذي يختلف دلالاته من متلقي إلى أخر .

ان عبقرية (كاندنسكي) في (الفن التجريدي) تكونت نتيجة تأثير دراساته الفكرية والعملية في مجال الفكر والفن والتصوير، فهو أكمل دراساته في علوم السياسية والقانون والاقتصاد في (موسكو) حيث ولاداته، وكان لتفوقه في الجامعة يمهد له الطريق ليعمل أستاذا في الجامعة بعد حصوله لقب بروفسور؛ ولكن حبه للفن جعله يذهب إلى (ألمانيا) لتكملة مشواره الفني حيث التحق في (ميونخ) في أكاديمية الفنون الجميلة؛ وهناك درس (فن التصوير) للفترة ما بين عام 1889 و 1896 ، وخلال هذه الفترة قام (كاندنسكي) برحلات في شتى دول أوربا وشمال إفريقيا وتحديدا في بلاد (تونس)، وهناك تأثرا تأثيرا بالغا بالمذاهب (الصوفية) العربية – ما ذكرنا سابقا – التي كانت لها تأثيرا واضحا في إعماله، وخلال رحلاته تعرف على كبار المبدعين في عالم الفن، ففي (ألمانيا) كان لقاءه مع الفنان ( بول كلي) و(مالفيتش) حيث وضعوا اللبنات الأولى للفن (التجريدي المعاصر) وعلى أسس فكرية وإبداعية قوية؛ ومن خلال هذه المدرسة انتشر فن (التجريد) في جميع إنحاء أوربا، وقد أقام أول عرض لإعماله سنة 1902 في معرض منفصل؛ وكانت إعمال نحت على الخشب وقد اعتمد (كاندنسكي) على تبسيط الشيء إلى أقصى درجات التبسيط وبالاختزال الكثير من معالم الشيء الذي يريد رسمه، فرسم بواسطة طباعة الخشب الكثير من الأعمال (الكرافيك) والتصاميم على شكل خطوط، وفي عام 1910 رسم أول لوحة تجريدية تحمل عنوان (تجريد)، ومع حلول العام 1911 وبعدها أسس (كاندنسكي) وصديقه (فرانتس مارك) حركة تشكيلية جديدة عرفت بجماعة (الفارس الأزرق)، بعدها أقام معرضا في (باريس)، وبين (ألمانيا) و(فرنسا) ركز (كاندنسكي) نشاطه الفني ليعيش بعد عام 1939 في (فرنسا) لغاية 1944 حيث توفي هناك .

وفي غمار أنشطته الفنية في مختلف دول أوربا وحبه لتجديد اخذ موقعه المتميز ضمن المبدعين الذين تركوا بصمة واضحة في تاريخ الفن الحديث بما قدمه من بحوث ودراسات في أساليب الفن الحديث، حيث كان له الفضل الأكبر في تأسيس (فن التجريد) وخاصة في مجال (التجريد التعبيري) ليس في (روسيا) فحسب بل في (ألمانيا) و(فرنسا)، فبرزت تجربته (التجريدية) التي سعت في تغير (الشكل الواقعي) الذي كان مهيمنا على الفن منذ حقبة الفن (الكلاسيكي) و(الباروك) و(الرومنتيكية)، وتركيز على المضمون الداخلي من اجل الوصول إلى جوهر الأشياء، فاهتم في أيطار (الشكل) على (اللون) في إظهار إشكال الواقع من خلال تفسيرات الباطنية للفنان عبر (الخيال)؛ ولهذا يعتبر أسلوبه أسلوب (اللا صوري) و(اللاموضوعي)، بمعنى إن لوحاته هي مجردة من (الإشكال الواقعية) وليس لها (موضوع)؛ بقدر ما تعبر عن عالم (الخيال) والدوافع الداخلة للإنسان؛ من حيث المشاعر والإحساسات الباطنية والنفسية للإنسان؛ مقتربا أسلوبه (التجريدي التعبيري) في عالم (الرسم التشكيلي) إلى درجة كبيرة بعالم (الموسيقى) الذي ليس له (شكل) ولا (موضوع) بقدر ما تعبر النظم النغمية عن المشاعر والأحاسيس الفنان والإنسان، بمعنى إن (كاندنسكي) من خلال بحوثه ودراساته أراد إن يحرر (الفن) من القواعد الأكاديمية والتركيز عن التعبيرات الغير المقيدة بالنظام ومنطلقة بحرية من خلال عوالم الفنان الداخلية، وهذه التعبيرات الداخلية للفنان تأتي نتيجة ما يوقعه (العالم الخارجي) من تأثيرات في نفسية الفنان؛ ويأخذ عنها انطباعا معين؛ وهذا (الانطباع) هو الذي يعكسه الفنان في لوحاته عبر (تجريد الإشكال) والتعبير بدلا عنها بـ(الألوان)، والتعبير في كثير من الأحيان يكن تعبيرا تلقائيا حرا واللا شعوريا ينبع من الداخل؛ إي من العالم الباطني (الروحي) للفنان، حيث تتم في دواخل أحاسيس ومشاعر الفنان معالجة بناء اللوحة بتعبيرات متأثرة في نفسية الفنان عبر أسلوب تلقائي حر؛ ولكن لان (التجريد التعبيري) ليس فنا عبثيا بل فنا منضبطا بإيقاع تناغمي، لذلك يتدخل (العقل) و(الوعي) الفنان في تركيب الألوان والمجسمات الهندسية وتجريد إشكال الواقع من ملامحها التشخيصية لكي تظهر بدون أية تشخيص بقدر ما تركز بانسجام الخطوط وتنسيق منحنياته بأقصى درجات التنسيق عقلانية و وعيا من قبل الفنان لإظهار المشاعر والأحاسيس والعواطف وبأسلوب الذي يفصح عن قناعات الفنان.

وهذه القناعات عند (كاندنسكي) أو عند (مارك) و الآخرين من الفنانين التجريديين انطلقت نتيجة تأثيرات التي أفرزته الثورة الصناعية و وقائع وتحولات العالم والاكتشافات العلمية وعن الكثير من المشاكل التي انطلقت من خلال نقد للبنية المادية للعالم في تلك الفترة، وما توصلت إليه التيارات الفنية الحديثة إزاء تفكك القيم وضياع الإنسان و(تشيؤه) في آليات الصناعة وانحلال الحاصل في المجتمعات؛ كل ذلك انعكاس في تساؤلات الفنانين التي طرحت حول (الوجود) وانعكست في أعمالهم آنذاك، وهذا ما قاد الفنانين لإعادة بناء العالم وفق رؤيتهم الفنية بعد إن تلامس (الإحباط النفسي) نفوسهم فتقوقعوا في داخلها ليتم للمبدعين من خلال دواخلهم الباطنية البحث عن متنفس داخلي للإبقاء التواصل مع الروح الإنسانية و مشاعرها، ومن هناك تم إعادة البناء حركة (التجريد) بالعودة إلى الحياة الباطنية لدرجة التي استمدت إعمالهم (التجريدية التعبيرية) بعيدا عن الطبيعة والتي ليس لها أي دلالة في أعمالهم؛ بقدر ما تم تجريد اشكالها لتعكس وضعا من أوضاع الإنسانية، وهكذا وجدوا متنفسا لتحرير (الفن) من القوالب الجاهزة التقليدية الأكاديمية عبر الذاتية في التعبير عن الإشكال والألوان، وهذا ما جعلت لوحاتهم بطابعها (التجريدي) معقدة في قراءتها، لان (كاندنسكي) استعان بالتعبير (الرمزي) في الرسم، وهذه الاستعانة كانت بمثابة الهروب نحو مجال فكري طرح نفسه لمواجه تحولات الحاصلة في العالم عبر أشكال (تجريدية) لها قوة إيحائية على التعبير الداخلي وقادرة على الوصول عبر اللون وإشكال هندسية لا تكون لمجرد تزين هندسي بل لخلق نظام لتعبير الداخلي برموز متحررة من أطرها الخارجية؛ لتكون هذه المسلمات من المفاهيم الحركة (التجريدية التعبيرية) التي قادها (كاندنسكي) والتي اعتبرت بمثابة إعادة ترتيب أوراق الإنسان وعلاقته بالطبيعة من خلال (الفهم المادي للتاريخ) والتي تبنى تحليلاتها وفق طبيعة الاقتصادية لتشكيلات الاجتماعية؛ و وفق تأثير كل من البناء الفوقي والتحتي على بعضهما البعض، والتي من خلالهما تحدد طبيعة التطور للمجتمعات البشرية، فلما كان البناء التحتي المتمثل بقوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، الأولى تكون في حالة مستمرة من التطور بينما تكون الثانية في عالة تناقض مع الأولى لحين إن تأخذ لنفسها أنماط تتوافق مع الأولى ومتى تم ذلك تدخل القوى الاقتصادية الاجتماعية مرحلة أخرى من التطور، فان البناء الفوقي والذي يشمل معاير القيم ونظم التربية الأخلاق والثقافة والفن والى أخره من مكونات البنية الفوقية، يدخل مع البنية التحتية في صراع؛ لتصبح البنية الفوقية أسيرة ما يحصل من تغيرات في البنية التحتية بما يجعلها إن تفكر في تغير أنماط الحياة بما تتوافق مع تطورات المرحلة، ووفق هذا السياق لـ(لمادية التاريخية) كان تأثيره على معطيات (الفن) باعتباره ضمن البني الفوقية التي حدد مسارها وتأثيراته على ضوء ما أحدثه (الثورة الصناعية) وما أفرزته من سلوكيات في بنية التطورات المفاهيم للمجتمعات البشرية؛ وهذا ما جعل الفنانين والمبدعين والأدباء في عصر (الثورة الصناعية) يفكروا في كيفية تجديد مفاهيمهم وفق معطيات العصر والحداثة والتي انبثقت نتيجة رؤيتهم بما أفرزته (الثورة الصناعية) من تغيرات مجتمعية في العالم، وهذا ما قادهم في إعادة التفكير في كيفية تعاملهم مع الطبيعة والظواهر والأشياء المادية التي لم تعد الرؤية السابقة تلاءم في تحليلها وتفسيراتها لهذه المكونات بقدر ما أحسستهم بحالة من الضياع والتشتت والابتعاد عن قيم الروح ومشاعر الإنسانية، لان التوجه (المادي) قاد المجتمعات إلى (التشيؤ) والضياع ليصبحوا (متشيئين) في أجزاء من (المادة) التي تصنعها المصانع أو التي يقومون هم بصناعتها؛ و وفق معطيات (المادة) و(الإرباح) التي سيطرة على حركة الإنسان في الحياة، وهذا ما أوقع حالة من (الإحباط النفسي) في نفوس المبدعين والمفكرين؛ فاتجهوا إلى (الاختزال) و(الخيال) و(الرمزية) لتعبير عن ما يحسونه من حالة الضياع والتغير الحاصل في المجتمعات، فكانت حركة (التجريد) واحدة من الحركات الفنية التي افرزه هذا الواقع ضمن حركة (الوحشية) و(التكعيبية) و(الدادية) و(السريالية)؛ لتكون شاهد ومعبرا عن طبيعة المشاكل التي كان الإنسان يعانيها في ظل المفهوم الاجتماعي في التشكيل الصناعي والاقتصادي والتغير الحاصل في نظام الحياة والمشاكل التي أصبح الإنسان يعانيها في ظل (التشيؤ) بهذه المعطيات والتي أثرت على سلوك الإنسان وأفعال وممارسات الإفراد في هذه المرحلة منذ بداية القرن العشرين والى يومنا هذا .

أحدث المقالات