درس كامران قره داغي في كلية الاداب بجامعة لينينغراد (بطرسبورغ حاليا) في ستينيات القرن الماضي, وتخرج منها حاصلا على شهادة الماجستير في اللغة الروسية وآدابها, وكانت اطروحته عن الكاتب الروسي ليونيد نيقولايفتش اندرييف ( 1871- 1919), وهو قاص وكاتب مسرحي وناقد ادبي وصحفي بارز في بداية القرن العشرين, ساهم بشكل ابداعي كبير في مسيرة الادب والفكر الروسي, وقد سانده مكسيم غوركي ولوناجارسكي وآخرون في بداية نشاطه الادبي , الا انه اختلف معهم لاحقا, عندما بدأ يكتب انطلاقا من مفاهيم التيارات الاوربية التجريبية والانطباعية وغيرها ,وعندما بدأت الحرب العالمية الاولى عام 1914,كتب مقالات عديدة تختلف جذريا عن مواقفهم منها , اذ كان يعتقد ان انتصار روسيا في تلك الحرب على المانيا سيؤدي الى تغيرات جوهرية كبرى في روسيا نفسها, وعندما حدثت ثورة اكتوبر 1917 لم يتقبلها , وكان آنذاك في فنلندا التي انفصلت عن الامبراطورية الروسية , وهكذا وجد اندرييف نفسه ضمن اللاجئين الروس , وقد توفي في فنلندا عام 1919 , واندرييف يكاد ان يكون مجهولا للقارئ العراقي والعربي عموما,وكامران قره داغي العراقي الوحيد الذي تخصص في ادب اندرييف,الا ان ذلك لم ينعكس مع الاسف على نشاطاته اللاحقة بعد عودته الى العراق نهاية الستينات , ولم تكن الشهادة السوفيتية آنذاك مرحب بها في الدوائر العراقية, وهكذا اضطر كامران ان يعمل في الصحافة وبالذات في مجال الترجمة, ونظرا لموهبته المتميزة في هذا المجال ( يتقن كامران بشكل رائع اربع لغات هي العربية والكردية والروسية والانكليزية), فقد برز رأسا هنا وهناك , وهكذا اصبح بعد وقت قصير واحدا من المع المترجمين عن اللغة الروسية في العراق , وكان يعمل بنشاط في عدة اماكن بآن واحد, فهو يترجم في الجرائدوالمجلات المختلفة صباحا وفي اذاعة بغداد بالروسية ظهرا وفي المركز الثقافي السوفيتي مساء,وكان الادب الروسي بالطبع ضمن نشاطاته تلك, وقدم ترجمات في غاية الاهمية في هذا المجال ونشرها في الصحف والمجلات العراقية آنذاك ,واذكر منها على سبيل المثال وليس الحصر ترجمته لمحاضرة الكاتب الروسي الكبير غوغول حول الخليفة المأمون, والتي القاها غوغول في جامعة بطرسبورغ بحضور بوشكين, وهي محاضرة مهمة في تاريخ العلاقات الروسية – العربية , والتي لم ينتبه اليها العرب بشكل عام لحد الان,ولم يستطيعوا الاجابةعن سؤال مهم وهو – لماذا اختار الاديب الروسي غوغول بالذات الخليفة المأمون موضوعا لمحاضرته في جامعة بطرسبورغ عندما اراد ان يتخصص في علم التاريخ ؟وترجم كامران ايضا مقالة مهمة حول الاستشراق الروسي بعنوان ( ليوث الاستشراق الروسي الثلاث) ولا زالت هذه المقالة التي نشرها في احدى المجلات الجامعية المتخصصة تمتلك اهميتها في تعريف القارئ العراقي والعربي عموما بمسيرة حركة الاستشراق الروسية, وهناك مقالة مهمة اخرى ترجمها كامران حول تشيخوف الفنان والانسان بقلم افيلوفا, المرأة التي عشقت تشيخوف وكتبت عنه واحدة من اجمل المقالات في تاريخ الادب الروسي, وقدم مقالة مهمة ايضا حول ماياكوفسكي وقضية انتحاره, ومقالات اخرى لا استطيع الان ان اتذكرها واسجلها , اذ اني اكتب من الذاكرة ليس الا, ولكن من المهم جدا الاشارة الى ان كامران ترجم – وفي خضم حياته الزاخرة بالنشاطات المتعددة هذه- كتابا مهما جدا في تاريخ الادب الروسي المعاصر وهو – كتاب الباحث السوفيتي بوريسوف الموسوم – ( الواقعية اليوم وابدا ) والذي يتضمن نظرة جديدة ومهمة جدا حول الادب الروسي في حينه والقضايا النظرية المرتبطة به, وقد وافقت وزارة الاعلام العراقية على نشره ضمن اصداراتها آنذاك, و احالته الى المرحوم الدكتور محمد يونس لمراجعته كما كان متبعا في الوزارة المذكورة, وقد تمت كل الاجراءات لنشره , الا ان كامران ترك بغداد فجأةوالتحق بصفوف الحركة الكردية في حينها , فغضبت وزارة الاعلام طبعا عليه, وارادت ان تلغي الكتاب المذكور ,الا ان الكتاب كان في مراحله النهائية, ولهذا قررت الوزارة اصدار الكتاب ولكن بحذف اسم المترجم المغضوب عليه , واضطرت ايضا الى حذف اسم المراجع الدكتور محمد يونس ايضا, اذ من غير المعقول ان يجري حذف اسم المترجم وتثبيت اسم المراجع فقط, وهكذا صدر الكتاب ( وهو الكتاب المترجم الوحيد في تاريخ الوزارة حسب علمي )دون ذكر اسم المترجم, وقد اثارت هذه القضية القراء اكثر تجاه الكتاب وجذبتهم اليه, ومن الطريف ان اشير الى مقالة كتبها الاستاذ مهدي شاكر العبيدي حول ذلك الحدث بالذات عام 2007 واعاد نشرها قبل فترة قصيرة في جريدة الزمان اللندنية بعنوان – (كامران قره داغي واستطرادات شتى) ,عند تعليقه على تعيين كامرا ن في منصب بمكتب السيد رئيس الجمهورية , واذكر ان المرحوم الدكتور محمد يونس اضطر ان يتوجه الى وزارة الاعلام بطلب للحصول على كتاب تاييد معنون الى كلية الآداب في جامعة بغداد في كونه قد راجع الكتاب المذكور وان اسمه قد ( سقط سهوا !).
ان ابتعاد كامران عن المساهمة في مجال الادب الروسي في العراق امر يؤسف له , اذ كان باستطاعته ان يعطي الكثير الكثير في اغناء موضوعة الادب الروسي في العراق نظرا لمعرفته العميقة للغة الروسية وآدابها ومتابعته الدائمة لهاولموهبته الفذة في مجال الترجمة وكيفية اختيار والتقاط المواد الثقافية المطروحة فعلا في الساحة الفكرية والثقافية الروسية , الا ان السياسة اللعينة قد جذبته اليها وتفرغ لها كليا, وهكذا خسره الادب الروسي في العراق , وكم اتمنى اليوم ان يعود كامران الى الادب الروسي وان يجمع – في الاقل- تلك المقالات التي كتبها وترجمها ونشرها في حينه , بما فيها مقالات زوجته السيدة اولغا قره داغي والتي ترجمها كامران نفسه من الروسية الى العربية ونشرها في حينه في جريدة الجمهورية حول دستويفسكي ونكراسوف حسبما اتذكر الان عندما كانت تصدر صفحة آفاق التي اسسها واشرف عليها الصحفي المبدع محمد كامل عارف في سبعينيات القرن الماضي, وان ينسقها وينشرها في كتاب واحد , اذ ان ذلك العمل سيكون مفيدا وطريفا ومهما للقارئ العراقي خاصة والعربي عامة, , اضافة الى اهمية ذلك في تدوين تاريخ الحركة الثقافية العراقية وموضوعة الادب الروسي في العراق بالذات, اذ ليس بالسياسة وحدها يحيا الانسان يا كامران. أليس كذلك؟