23 ديسمبر، 2024 4:04 ص

كالمستجير من الرمضاء بالنار

كالمستجير من الرمضاء بالنار

كثيرة هي الطبائع التي يشب عليها ابن آدم، وأكثر منها طبائع أخرى يشيب عليها، ولا غرابة في تفاوت تلك الطبائع بين سلبية وإيجابية، كما لا غرابة أيضا في تمسك بني آدم -الأسوياء حصرا- بالإيجابية منها والتفاخر بها، ونبذ السلبية والابتعاد عن التطبع بها.
الأمر حتى اللحظة ليس جديدا ولا غريبا، فهو أمر معهود بين ظهرانينا في بلدان المعمورة، إلا أن أولي الأمر في العراق، ولاسيما العراق الجديد، يتسابقون صوب الطبائع السلبية لاكتسابها، والتبجح بارتدائها لباسا يتزينون بعيوبه، والإعلان عن اتخاذها منهجا لايحيدون عنه، ومبدأ لن يستبدلوه حتى يلج الجمل سم الخياط، رافعين بسلوكهم هذا شعار (ماطول بالنخلة تمر ما اجوز من شرب الخمر).
وما يثير المخاوف من مستقبل الأيام، ويزيد المجهول ضبابية -بل سوداوية- أن عدوى انتشار الطبائع السلبية بينهم، يزداد اطرادا مع تزايد أعدادهم، وغدت تجارة رائجة، على العكس من تلك الإيجابية، فالأخيرة باتت آخذة بالزوال والاضمحلال، وأضحت تجارة كاسدة، وعملة ساقطة.
الإيثار، واحد من الطبائع الإيجابية التي باتت بحكم المنقرضة من سلوكيات أولي أمرنا وسياسيينا، إذ أفل نجم هذه الخصلة الرائعة من سماء العراقيين، وصار مرورها فيها كمرور مذنب هالي، ولعلها أكثر ندرة. حيث صار المنصب السيادي والنيابي والقيادي تشريفا، مع أنه تكليف، واندرج مفهوم الوظيفة في المراكز القيادية، تحت طائلة مفاهيم نائية كل النأي عن الأداء المهني والوظيفي، إذ صار الإقدام على وظيفة في المناصب العليا، أقرب مايكون الى الصفقة او الفرصة، وما على المقدم عليها إلا (شد حزامه) والتهيؤ لولوج عالم النفعيات لا الواجبات، والخوض في غمار دنيا الواردات من الفوائد، لا الصادر من العطاءات.
وتبعا لهذا فقد دارت عجلة البلد عكس السير، وتراجعت منزلته بين الأمم، مسجلة درجات دنيا بأركانه ومفاصله نكوصا، وأضحى اسم العراق يعلو ولكن، في محافل الفساد ومؤشرات تدني الخدمات، ولم يعد جديدا فوزه بالمراتب المتقدمة في نواحٍ عدة، أولها سوء الإدارة، وثانيها البطالة، وثالثها كثرة هجرة الكفاءات من أرضه، وتطول القائمة لتبلغ مبلغا لايسر صديقا ولا يغيظ عدوا.
ولو عدنا الى اليمين الدستورية في دستور البلاد الذي صدر يوم 30 كانون الثاني عام 2005، والتي يؤديها موظفو أعلى مؤسسة ممثلة للشعب وناطقة باسمهم، قبل تسنمهم مهامهم فيها، لاتضح لدينا الفرق الشاسع بين الموضوع والمعروض من جهة، والتطبيق الفعلي من جهة أخرى، وبين المشرَع والمنصوص من جهة، والمعمول به من جهة أخرى، إذ توحي كلماتها وعبارتها بصفاء النيات وكمال الغايات ونبل القيم وسمو المعاني، في حين يتصرف مؤدو القسم بدءًا من لحظة اعتلائهم كراسيهم، بالعكس تماما من مفرادتها وماجاء فيها، إذ نصت المادة (50) من الدستور على ما يأتي:
“يؤدي عضو مجلس النواب اليمين الدستورية أمام المجلس، قبل أن يباشر عمله، بالصيغة الآتية:
(اُقسم بالله العلي العظيم، أن أؤدي مهماتي ومسؤولياتي القانونية، بتفانٍ وإخلاص، وأن أحافظ على استقلال العراق وسيادته، وأرعى مصالح شعبه، وأسهر على سلامة أرضه وسمائه ومياهه وثرواته ونظامه الديمقراطي الاتحادي، وأن أعمل على صيانة الحريات العامة والخاصة، واستقلال القضاء، والتزم بتطبيق التشريعات بأمانةٍ وحياد، والله على ما أقول شهيد).
فيا لروعة البيان، ويا لعظم النفوس التي نطقت بهذا القسم، لاسيما أن نسبة كبيرة، بل كبيرة جدا منهم (صايمين مصلين) وحين النظر اليهم (ترَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا). وأول ما يلوح للناظر أن (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ). ومن المؤكد أنهم أول من يفي بما قطعه من عهود، وما أطلقه من وعود، ومن المفترض أن حنث قسم كهذا، يبعد عنهم بعد الثرى عن الثريا، فليت شعري هل هم كذلك؟.
وبعودة الى خصلة الإيثار، وبمقاربة بينها وبين مؤدي القسم أعلاه، أرى أن العلاقة بينهم علاقة (طلاق بائن أفهم علنا). أو لعله (طلاق بالثلاث لارجعة فيه). فهم يتحفوننا بين آونة وأخرى بشطحات وفلتات، لها أول وليس لها في الأفق المنظور آخر، وهي لاتنم عن حرصهم على بلدهم ولا على شعبهم، والمستجير بهم كالمستجير من الرمضاء بالنار، ومن يرتجي منهم خيرا للبلاد، ينطبق عليه مثلنا: (إذا چان ما لك سند اقبض فلوسك من دبش). كما يتجسد فيه بيت الدارمي:
من گلبي يطفي النار كلفته بيهه
رشرشهه گاز وگام ينفخ عليهه