23 ديسمبر، 2024 1:20 م

كالكسي ( 5 ) وآي فون( 5 ) وصريفة* …….!

كالكسي ( 5 ) وآي فون( 5 ) وصريفة* …….!

لا تنسى ياحبيبي .أبقْ أتصالكَ معي دائما عن طريق القلب ..رسالة من جوليت الى روميو
مرة في منطقة السيدة زينب بريفِ دمشق لفت نظري مدونة مكتوبة في باب الجامع القريب من المرقد ، تقول : الرجاء أغلاق جهاز الموبايل ، لأنك عندما تدخل الجامع يكون أتصالك مع الله فقط..!
أعتقد أنها أول عبارة صوفية كُتبت في تأثير العولمة وحداثتها ، وهي ( العبارة ) التوصيف الأقرب لتجدد العلاقة بين التصوف وحداثة القرن الحادي والعشرين ، وقتها عندما عدت الى الفندق كتبتُ مباشرة عن الأمر مقالة عنوانها ( الموبايل ..العلاقة بين الخالق والمخلوق ).
تذكرت هذا المشهد عندما اشتقت لعطر الاهوار بعد اغتراب السنين الطوال. أشتقت الى صرائف بيتنا التي بناها أبي من القصب ، الى السلف ورائحة الماء المخلوطة برائحة السمك واغاني أجدادي وأعمامي المعدان وهم يقودون قطعان جواميسهم كما يقود الاسكندر جيشه ليكتشف العالم ، فيما هؤلاء الفطريون يكتشفون لهجات جديدة للقصب والماء تحملها نسائم ريح قادمة من جهات لايعرفوا من يعيش فيها وعليها.
جدي عويش فرهود فيلهام كان يعيش هناك ، وذاك بيته لم يزل خربة من القصب ، كل ذكرياتي فيه ، تلك الطفولة الوردية التي تشبه بريق أذيال ثوب الدانتيل على جسد عارضة أزياء فرنسية ، هو الذي تكفل بتربيتي بعد أن أصبت بسعال دائم ، يسمونه اليوم الربو ، لكن ابي كان يسميها ( الكحة ) حيث قال جدي :دعوه معي أنا أشفيه واربيه .
لا ادري من اين كان جدي يجلب اعشابا غريبة في ارض ليس فيها سوى القصب والماء ويحرقها في الموقد واستنشقها ، وكان يملأ كل صباح وعاء من القير بحليب الجواميس لأشربه ، بالرغم انني اصاب بالاسهال بسبب دسومته العالية ، ولكنه كان يقول :الاسهال افضلَ من تلك الكحة اللعينة الذي تخنقك وتذبح صدرك.
أتذكر جلسات جدي على حافة الهور في الليالي المقمرة متاملاً النجوم وغارقا في الصمت وكأنه يجري اتصالا مع شيئا في السماء ، ولا شيء هناك سوى الله ، وكنت أسأله : فيقول : أبحثُ عن علاج لمرضك.
قلت :عند الله.؟
قال نعم ، هو الطبيب الوحيد في هذا العالم من يعرف كل العلل.
أجلس القرفصاء في باب الصريفة ، أتأمله في اتصاله الغائر في العمق البعيد ، حيث يمنعني من الاقتراب اليه ، لأنه يريد ان يظل وحيدا مع خالقه ، ولأن رطوبة الهواء الملامس لصفحة الماء لا يتلائم مع وضعيَّ الصحي .
كنت في العاشرة من عمري ، وجدي في حكمته اليومية يعلمني الكثير ، وعندما كبرت وزرت الهند ، وفي معبد بوذي شاهدت نسخة اخرى من جدي تجري اتصالا مع الفضاء بصمت عجيب لايتحرك فيه حتى الجفن.
كان الكاهن البوذي يجلس في تمرين من اليوغا ويتأمل في صمت وعيناه مغمضتان…
وكان الناس يتجمعون حوله فلا يشعرُ بهم حتى عندما ترن هواتفهم الجوالة في جيبوبهم ، بعضهم يجيب وبعض يبقى مشدودا لهذا التأمل المغري ، واتخيل هذا الاتصال مع العالم الابعد ، وهو الاتصال الوحيد الذي لايأخذ شحنا من الكهرباء كما في شاحنات الهواتف ، بل إن الروح هي من تشحن فيه بقاء هذا الاتصال مع الضوء البعيد الى ايام عديدة دون أن يتناول الكاهن الماء والغذاء ، لكن بين ساعات واخرى يأتي صبي مرتديا ثوب الكهنة البرتقالي حليق الرأس ويحمل اوراق شاي ليدسها بين أسنان الكاهن الذي يبدأ بمضغها بهدوء.
تذكرت هذين الاتصالين أمام صريفة جدي المهدمة ، واتخيلها كما انقاض معبد قديم كان يحتفي بذلك الجمال الصامت الذي ورثه جدي من طقوسٍ قديمة لسكان المكان من اهل السلالات حيث اكتشف رجال البعثات الاثرية أن الذين كتبوا الاساطير والملاحم ، لم يكتبوها دون أن يجروا اتصالا مع الالهة الجالسة على عروشها في السماء البعيدة ، ولكن هذه الاتصالات لم تكن تتم بواسطة الهواتف الذكية ( الثريا ، النوكيا ، الكلاكسي ، الآيفون ) بل كانوا يتصلون من خلال نبض قلوبهم.
جدي كان يقول لي : لكي تشفى من علتكَ اضبط نبضات قلبك مع أجفانكَ وتخيل أن الحياة هي أن نعيش وليس لنسعل.
ولكني كنت اسعل بقوة…
فكان يقول :تعلم لتؤسس لك اتصالا مع الله واطلب منه دواء يشفيك.
وهكذا سمح لي جديدي أن اغادر باب الصريفة ، وأجلس قرب حافة الهور لاجري ذلك الاتصال بعد أن دثرني بلحافٍ سميك خوفا على انفاسي من الهواء الرطب المحمل برائحة القصب وعفونة الاسماك النافقة.
أتذكر مشاعر اول اتصال مع الافق البعيد ، تلك الرهبة الطفولية المرتجفة ، ولكنها ممتعة وتضبط ايقاع القلب كثيرا..وربما مع تكرارها ولذتها وطقوسها ابتعد السعال كثيرا عن صدري .
وربما شفيت تماما من الربو…
الآن اعود الى صريفة جدي ، وفي لحظة التأمل الساخنة لتلك الايام الجميلة رن هاتفي الايفون في جيبي.
كانت بنتي الصغيرة من المانيا تتصل لتقول : ابي امي تقول لاتنسى ان تجلب معك المسموطة*………!

أشارات:
ــــــــــــــــــــــ
*الصريفة : هي الغرفة المبنية من القصب.
* المسموطة : السمك المجفف في اللهجة العراقية. وهو اكله سومرية قديمة مازالت منتشره ومحببة في مناطق الجنوب العراقي.