في تراثنا العراقي الممتد طويلا وعميقا في التاريخ كانت لنا، نحن العراقيين، دائما معارك تخوضها قبائلنا، مع بعضها البعض، ولكنها، جميعها، من النوع السطحي العابر الذي يمر سريعا ويعقبه سلام.
أما المعركة المستمرة التي لا تهدأ نيرانها، على مدى عشرات القرون، ولا تريح ولا تستريح، فهي حرب بني فارس مع العراق، بكل طوائفه وأديانه وقومياته. تتغير أسبابها ومسمياتها، حسب الحاجة. فتكون علنية تارة، ومستترة أحيانا كثيرة، تبعا للظروف. فهي من نوع جديد مختلف عن جميع معاركهم وحروبهم السابقة. فقد هيأت أمريكا جورج بوش الإبن، وأمريكا أوباما، معا، للنظام الإيراني، مع سبق الإصرار والترصد، كل وسائل الراحة والاستجمام في العراق، من جنوبه إلى شماله، ومن شرقه إلى غربه، بل فتحتا له طريق السياحة الحرة نحو بلاد ما وراء حدود العراق، رغم ما دأبتا على ترديده من تصريحات وبيانات وقرارات تدين إيران، وتدمغها بدعم الإرهاب وتهديد أمن المنطقة والسلام العالمي وحقوق الإنسان.
أما الجديد في الحرب الفارسية ضد عرب العراق وسوريا ولبنان واليمن فهو اختراع أصحاب العمائم المسلحة بالغاز السام والمفخخات لفكرة تصدير (ثورة) القتل والحرق وتخريب البلاد والعباد إلى دول الجوار بالواسطة، ومن خلال طوابير خامسة أتقنوا التقاطها، وأحسنوا تجهيلها، وأجادوا تدريبها وتسليحها، وجعلوها دروعهم البشرية التي يُسيرها جواسيسهم قادة حرسهم الثوري سيء الصيت.
وإلى أمدٍ قريب كان الظن أن آخر طموح الاستعمار الفارسي هو اقتطاع الجنوب العراقي الشيعي وضمه لدولة الولي الفقيه. لكن الذي أثبتته تجارب ثلاث عشرة سنة أن الطمع لا حدود له. ومتى تنتهي جاجات من ليس يشبعُ؟. فقد تبين أنه يعمل، بكل الوسائل، حلالها وحرامها، لإطباق ذراعيه على مدن السنة التي يخرج داعش منها، وأنه يتخذ من محاربته المزعومة للإرهاب غطاء خادعا لشراهته السياسية والعسكرية والطائفية التي لا تحدها حدود. والحقيقة أن عتب العراقيين كان فقط على شيعة العراق (المستفرِّسين) الذين جعلوا أنفسهم سكاكين تأتي من (جنوب) الوطن و(شرقه) لتنغرز في خاصرة أشقائهم العراقيين، شيعة وسنة. ولكن لم يكن واردا في الحسبان أن يتطوع قادة كردستان العراق، لأن يصبحوا السكاكين الأخرى التي تنغرز في خاصرة الوطن الثانية.
وقد جاءت البشارة بهذه الطعنة الجديدة من أحد القادة الذين كنا إلى عهد قريب نعده أخلص أصدقائنا، وطنيا عراقيا أصيلا وديمقراطيا صادقا يرفض الغدر بأشقائه، ويأبنف أن يكون عميلا لأحد، مهما كان وأيا كان.
فالدكتور برهم صالح النائب الثاني لرئيس الاتحاد الوطني الكردستاني كان طيلة السنوات الماضية يتمسك بوطنيته العراقية، مع اعتزازه بكرديته، وينأى بنفسه عن الشلل السياسية الفاسدة، وجعلنا نثق بعلمانيته وديمقراطيته، إلى حد أننا علقنا عليه آمالا كبيرة في أن يصبح رئيس جمهوريتنا، برغم علمنا بأن أي رئيس جمهورية، تحت سيوف الولي الفقيه، لا يحل ولا يربط، ولا يهش ولا ينش، ولكن على الأقل كنا نريد أن يكون لنا صوتٌ شريف في القصر الجمهوري، بدل هذا الذي لا يفوّت فرصة لإهانتنا، ونفاق أعدائنا، ولا يستحي.
والقول بأنها سكينُ خاصرة جديدة لأن سكاكينهم القادة السابقة كثيرة ولا تعد. فقادة الاتحاد (الوطني) والحزب (الديمقراطي) قبلوا أن يلتحموا بأحزاب ومنظمات وتجمعات يعلمون جيدا بأنها أحزاب دينية متزمتة طائفية تعيش على الخرافة، وانتهازية وغير وطنية ولا تؤمن بأن لها وطن غير وطن الولي الفقيه.
والحقيقة أن ذلك التحالف كان هو السكين الكوردية الكبرى التي ذبحت الوطن وأهله من الوريد إلى الوريد.
وكل ما جاء بعد سقوط نظام صدام من عجائب وغرائب ومصائب لا يتحمل مسؤليته مجلس الحكيم، وحزب الدعوة، ومعهما منظمة بدر وباقي المنظمات والتجمعات المسلحة العديدة، فقط، بل يتحمل نصفها جلال الطالباني ومسعود البرزاني، بالتمام والكمال.
هل قرأتم هذا الخبر؟
“أكد برهم صالح أن الجمهورية الاسلامية الايرانية تضطلع بدور هام للغاية في مكافحة الارهاب”. وقال “إننا نعتبر الجمهورية الاسلامية الايرانية حليفا استراتيجيا بالنسبة لنا.”
وقال أيضا: “قوات البيشمركة الكردية والقوات العسكرية العراقية والحشد الشعبي في هذا البلد أيضا لديهم دور هام للغاية في محاربة الارهاب، وفي هذا السياق فان الدعم الذي تقدمه الجمهورية الاسلامية الايرانية، على جميع الاصعدة، يحظى بأهمية بالغة، وأن طهران كانت رائدة في مواجهة الارهاب دوما”.
طبعا، مفهومٌ جدا أن الدوافع التي تجعل كاكا برهم وغيره من قادة الإقليم يجاملون إيران وتركيا هي لدفع شرورهما ونواياهما. على أساس: (إبعد عن الشر وغني لو). ولكن الإغراق في العلاقة إلى حد أن تصبح إيران “صاحبة الدور المهم في محاربة الإرهاب”، ويصبح الحشد الشعبي “قوة وطنية يحارب الإرهاب” ليس سياسة ولا ديبلوماسية، بل هو اقتناع ظاهر ومبرم بتفسير النظام الإيراني الطائفي الشمولي الديكتاتوري للإرهاب ومواصفاته للإرهابيين. وهنا تكمن الطامة الكبرى والصغرى معا، ويُثبت الاتحاد الكردستاني هويته الإيرانية المشكوك فيها من
زمان بعيد، من أيام حمْل أعضائه العراقيين بنادقهم الإيرانية لقتل جنود وطنهم وضباطه، ومنهم كوردٌ كثيرون.
وهنا لا تكون خطيئة الأب القائد للاتحاد الوطني الكردستاني، جلال الطالباني، الذي وهب كل شيء للإيران، بأقل من من خطيئة غريمه قائد الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي وهب كل شيء لأردوغان.
وكما يدفع مسعود البرزاني اليوم ثمن علاقته المنفلتة مع تركيا، فإن الانغماس (الاتحادي الطالباني) في الحب الفارسي لن يعود على الشعب الكوردي إلا بخراب البيوت. ومن الحب ما قتل.
ورغم تكذيب إيران لأخبار إاقامتها قواعد عسكرية وصاروخية في مناطق نفوذ الاتحاد الوطني فإن كثيرا من الأوساط العسكرية والسياسية الدولية المحايدة أكدت ذلك. وهذا معناه أن لإيران حشدا شعبيا كودريا في شمال الوطن، يعاضد علينا ذلك الحشد الذي يرفع رايات الحسين ذاهبا لأخذ الثأر من أحفاد يزيد. ألا يقرأ كاكا برهم ولا يسمع ولا يرى؟
بصراحة، إن الحزن العميق الذي تشعر به الملايين من العراقيين، بكل طوائفها وقومياتها وأديانها، ينبع من الخوف على المواطن الكوردي قبل شقيقه العراقي الآخر، من أن يظل كرة تتقاذفها أقدام الكبار، لسبب واحد لا أخَ له، وهو أن من جاء بهم الحظ العاثر على رأس القيادة في كردستان مشغولون بالزعامة، حتى ولو كان ثمنها دماء مواطنيهم ودموعهم وكراماتهم وأرزاقهم.
ترى ماذا يقال عن الذي يكون، متطوعا، خنجرا يطعن به الوليُ الفقيه والخليفة أردوغان خواصرَ أهله، ولا يخاف، ولا يستحي؟.