أستحضر عناصر القصة ليحكم الحبكة وداخل أمكنة أخرى للدلالة على إتمام المعنى العام
قصة الحلاق خرجت على شكل سيناريو يسرد تجربة شخصية واقعية
فيما أورده كاظم الحلاق من فقرات احتوتها سرديته (سنوات الجندية) ، “مصيرنا يسوقه القدر” كتبها كاظم الحلاق بطريقة السرد المجرد من الفنية التي لابد أن تحتويها القصة كمكون أدبي يشمل أركانا أربع هي : القصصية، والجرأة، والوحدة، والتكثيف ، ويضاف لها عنصري الزمان والمكان والفاعل، لتكتمل الجوانب الدلالية والشكلية والبصرية، ولتكمل الأركان المذكورة المكونات الداخلية وتحيط بالتقنيات الخارجية ، ومن المؤكد إن لا يتم إغفال العناصر البنيوية التي تميز القصة .
وحين يشكل القاص قالبه القصصي في ذهنه لابد له أن يستحضر أهم ما يميز نصه من حكائية وتكثيف ووحدة النص والمفارقة بالإضافة الى فعلية الجملة التي يستخدمها في النص المكتوب ، وهي إن حسبناها فلا تعدوا كونها عناصر أساسية لتشكيل النص القصصي بشكل عام .
أستحضر كاظم العناصر فشملت قصته المكان الذي دارت حوله الحبكة ( وحدته العسكرية) وداخل أمكنة أخرى للدلالة على إتمام المعنى العام ( البصرة ، العمارة ، الكويت ، مزارع أم قصر، الحدود) ، وبين هذه الأماكن دار الحوار الذي اختصره مع نفسه يحدثها الهرب من الجيش وهو فعل مشين في العامة وقيم الرجولة، أراد الحلاق تصويره بأنه شرعي ليرضي أهواءه معللاً تصرفه بما نسبه للسلطة أو النظام ، لكنه كان واقعياً حين افرد للحوار مع والده مساحة بين فيها ما ذهبنا لوصفه بأنه فعل مشين على لسان والده حين قال : (أخبرت والدي بما عزمت عليه، أيّ الفرار من الجيش، لامني كثيرا.. قال لا أحب أن أراك بهذا الوضع، كن شجاعا واقتنع بقدرك، إنها حرب وطنية ولا يهم مَنْ هو القائد، دافع عن وطنك ولا تقم بهذه الأفعال السخيفة. لكني لم أصغ إليه)، وهنا دفع كاظم الحلاق عبر كلام والده القصة لتنحو منحاً واقعياً وليس سردياً بنقله واقعاً معاشاً وحقيقة ثابتة يعلمها الجميع ، وهي المفترض أن تكون من باب سيادة الواقع على أدوات القصة وفرضه لما هو كائن ، لا الحلم أو التصور ، كون الأدب الذي يضم القصة كإحدى مكوناته هو نتاج الواقع المعاش لا الأحلام.
أراد الحلاق أن يقنع القارىء بحبكته التي سعى لأن تكون في قالب السرد الواضح متجاوزا صيغ الغموض ومبتعداً عن الإبهام وقد افلح كاظم حين نهج الوضوح ، فكانت كلماته دالة قريبة دون تزويق لذهن القارىء أو تشتيت ، رحلة الهرب مرت بالعديد من الملاحظات منها ماهو أدبي ومنها الفني ، ومنها ما حمل بعداً أخر غير الذي اشرنا إليه ونحن في غنى عن ذكره هنا، لكننا نسلط الضوء على الفني والأدبي في الموضوع وهو الذي يعنينا.
الدراما التي عامل بها الحلاق النص ليست ومستوى الفنية التي كان يجب أن يحيط بها مفرداته ليرسم التصور المطلوب أو الحركة المصاحبة لمسيرة الهروب التي سلكها الحلاق ورفاقه إلا في حالة ربما كانت اليتيمة في المحتوى جسد فيها الحلاق حركة طيران الصقر في الصحراء بصورة توحي بأنه أرد أن يدخل التصور في سياق النص ليأخذ القارىء الى حيث يسرح بمخيلته في عالم الخيال ، وليفكر ربما بما وراء تحليق الصقر على مقربة من كاظم ورفاقه ، إلا أن صورته هذه جاءت مقطوعة بحكم النص ، أو أقتطعها الكاتب قسراً حين قال (عَبَرَ السماء صقر أو أكثر وأخذ يحوّم فوقنا ثم اختفى)، ديناميكية القصة تتطلب أن تستمر تلك التصورات ( على غرار حركة الصقر) ، لتدفع في ثنايا نص الحلاق حركة فعلية تبعد جمود الحدث وتمنحه ميزة التفاعل الحي مع ذهن القارىء عبر تبادل التخيل أو التصور مابين الكاتب يمثله النص ، ومابين القارىء متمثلاً بعقله الخصب.
ومنها قفز الحلاق لاستدراج القارىء الى مساحة الخوف الوحيدة في القصة ساعة كان كاظم ورفاقه في الحفرة ، وتصوروا اقتراب الدورية أو توهموا سماع أصوات أقدام قريبة منهم، ( وخُيّل إلينا في بعض الأوقات أننا نسمع إطارات سيارات تقترب أو وقع خطوات وأصوات أشخاص يتكلمون مع بعضهم يتقدمون نحونا لإلقاء القبض علينا، فراودنا القلق وعشنا لحظات فظيعة من الرعب لكن لم يحدث شيء) .
اندفاع كاظم الحلاق لإنهاء لحظات التخيل تلك وبهذه السرعة ، وحتى قبل أن تبدأ جريمة بحق النص عموماً ارتكبها كاظم دون أن يقصدها، وكان الأجدر به أن يترك حرية التخيل والتصور مفتحة الأبواب على مصراعيها دون أن يسدل ستارها لينهي الحدث وفق ما جاء بالنص ليقطع على القارىء إحساس التخيل والشرود الذهني الذي توفره لحظة الخوف من المجهول ، وليكرس حكماً قاطعاً على النص بالنهاية.
تداخلات النص السردي بين المتوقع والحاصل عكس عدم تمتع الحلاق بأسلوب الخيال الذي من المفترض أن يضفي على القصة صفة التشويق ليستمتع بها القارىء، فالأدب متعة قبل أن يكون شيء أخر، وهذه لا تتحقق إلا بترك خيال القارىء أن يسبح في عوالم التخمين أو الخيال ليصل بفكره للحصيلة النهائية أو النتيجة قبل أن يسطرها الكاتب، وهنا تدخل عوامل عدة في تكوين الشكل الدرامي للقصة منها الخبرة كعامل رئيسي ، وجودة استخدام عناصر القصة بشكلها الصحيح ، وتضافر مكوناتها نحو استكمال شكلها العام .
أراد الحلاق لما كتب أن تكون قصة ، لكنها خرجت على شكل سيناريو يسرد تجربة شخصية واقعية بقالب درامي بعيد عن القصة وأشبه بما يكون سيرة أو يوميات سجلها الحلاق لمسيرة هروبه من القدر المكتوب ، ليقع في تفاصيل ما أراده القدر له ، أستخدم السرد الخالي من الفنية وكأنه يروي ما وقع بكلمات مباشرة حسب تسلسلها في السياق الزمني دون أن يداخل معها عناصر التشويق التي تعتبر جوهر الكتابة الأدبية ،ما يجعلها تختلف عن السرد بشكله المعهود وهو أقرب لما يكون قد استخدم الطريقة القديمة أو القالب القديم للسرد حين نتناول قضية معينة بالشرح والإسهاب .
عمد لذكر تفاصيل اعتقاله وأصدقاءه من قبل ضابط الشرطة على الطريق ، وكان تناوله للموضوع تجسيداً لتحكم الأقدار بمصائرنا كبشر دون أي تدخل منا ، ومن ثم جاء ليسرد معاناته بما لاقاه من قبل أجهزة الأمن من تعذيب ليكرس صورة طالما تحدث عنها الكثير لكنهم لم يذكروا بأنه أخطأ ولابد له من عقاب ، أي إن الحلاق كان قد اخطأ بهروبه من الجيش وهو واجب وطني بغض النظر عن صيغة أو نظام الحكم ، ومن يخطأ لابد له من عقاب ، إلا أن كاظم أغفل نقل الحقيقة وذهب ليقول انه تعرض للاضطهاد ليوحي للقارئ بأنه لم يرتكب جرماً، وهو تظليل مارسه الحلاق بعيداً عن الحقيقة التي يجب أن يواجه القارىء بها اعترافا بالخطأ كفضيلة.
واستمراراً لعملية السرد الواقعي الذي بنى عليه الحلاق سيرته الذاتية كما وصفناها وليس قصته ، دأب على ذكر تفاصيل حكايته مع المستشفى وما رافقها من منحه الإجازات المرضية وتجديدها باستمرار ، بإيحاء ضمني يؤكد دراية الطبيب الذي تعاطف معه لحالته حينها ، مؤكداً أيضا إن الموضوع لا يتعدى كونه حالة هروب من الواقع وليس من القدر حين أورد أن كان دائماً تحت تأثير الحبوب المخدرة التي تنشأ عنها حلة ما يعاني الحلاق (كان أنفي ينسد دائما بسبب الآرتين الذي كنت أتعاطاه ويصبح تنفسي صعبا)
الحقيقة لم استمتع بما كتبه كاظم الحلاق من سيرة ذاتية أو يوميات ، وهي لا تعدوا كونها سطور توحي بالتحايل أو التململ من أداء واجب أو خدمة مفروضة على الجميع بحكم قانون سائد حينها ، وأن عملية الالتفاف على القانون لا تستهويني أبدا كما لا تستهوي القراء ، وعدم دمج الحقيقة مع النص أو الاعتراف بالخطأ هو بحد ذاته عملية استغفال للقارئ بقصد كسب وده تجاه معاناة خلقها الحلاق لنفسه ولم تكن مفروضة عليه ، أي لم تكن السلطة حينها مسؤولة عنها بقدر ما هي نتيجة لتصرفات الحلاق نفسه لابد أن يصل إليها بتصرفه هذا.
ملخص ما ذهبنا إليه إن الموضوع برمته سرد لسيرة أو يوميات تناول فيه كاظم الحلاق مجريات ما حصل له خلال فترة معينة نتيجة سوء تصرفه ، لا علاقة له بالقصة أو الرواية على الرغم من تضمينه النص عناصر القصة التي ذكرناها ، لكنها كانت عناصر أشبه بالضائعة وسط النص الذي كتبه كاظم الحلاق على اعتباره قصة قصيرة لكنه ظهر بشكل يوميات كان الأحرى أن يذيله بتاريخ ما حدث ، ويلحقه بأيام أخرى ويحتفظ به الى حين اكتمال الفكرة وتناولها بحبكة محكمة تدل على استيفائها لمكونات القصة وأدواتها ليعرضها وقتذاك على القراء متضمنة الإمكانات الفنية التي تبنى عليها القصة لتكون مقبولة لدى القارىء بشكل عام.