بعد نشر مقالتي الأخيرة المعنونة: “مرض انفصام الشخصية عند اطباء السوق”، في جريدة المدى عدد 3400 بتاريخ 30 حزيران 2015، عاودت نشر المقالة المذكورة على بعض المواقع الألكترونية، وارسلتها الى عدد من القراء عن طريق الايميل، و بما أن موضوعة الاخلاق في المجتمع العراقي هي دائماً من الموضوعات المثيرة للنقاش و تتحمل مختلف وجهات النظر و الآراء، وصلني عدد من الردود التي تؤكد ان المجتمع العراقي يعاني أزمة أخلاقية ربما تؤدي إلى انهياره، و من اسبابها إنحطاط الوعي و سقوط الأخلاق في أوساط قطاعات واسعة من هذا المجتمع ألذي لم يستطع إلى الآن تنظيم مسيرة حياته السياسية و الاقتصادية و الثقافية على أساس حضاري عادل و عصري. وهذا كله قد لا يثير استغراب الكثير من القراء المهتمين بالاخلاق وبالدراسات الاخلاقية، ولكن ما يثير الاستغراب والاعجاب في آن واحد هو الامثلة الكثيرة عن الممارسات اللاحضارية واللا أخلاقية واللاانسانية.
ولا اقصد هنا ممارسات داعش الهمجية، وانما الممارسات في المناطق التي تنعم بالحرية والديمقراطية، ممارسات تطرح معها اكثر من علامة استفهام حول درجة فهم واستيعاب القيم الانسانية عند العراقيين ومدى امكانية المدرسة والجامعة والدين في تخليص الانسان العراقي من القيم السلبية والاخلاق المنحطة، والسلوك الشاذ، والامراض الاجتماعية بصورة عامة.
ففي مقالتي السابقة تحدثت عن ظاهرة الجشع عند الاطباء بشكل عام، وعبرت عن قلقي ومخاوفي من عدم الالتزام باخلاق المهنة وقلة المعارف العلمية والطبية، ومدى انفصال سلوك بعض الاطباء عن السلوك الاخلاقي الذي تفرضه ممارسة مهنة الطب، وتساءلت عمن يكون المسؤول عن هذه التصرفات، وهل يمكن تبرئة النظام التعليمي الجامعي الذي اهمل بناء الطبيب اخلاقيا ونفسيا ومهنيا..
اما هنا سأذكر شكل اخر من اشكال الابتعاد عن اخلاقيات المهنة وقواعدها الرصينة وفي مجال اخر الا وهو مجال تدريب المعلمين والمدرسين ففي هذا المجال تلعب التربية الجامعية دورا كبيرا في غرس اخلاق المهنة من سلوك ومواقف وقيم في نفسية طالب التربية والتي يجب ان يتحلى بها كمدرس اثناء مزاولته لمهمته التربوية والتعليمية استنادا الى قاعدة عامة وهي ان الاخلاق امر مرتبط الى حد كبير بالتربية السليمة، وببيئة الشخص ومجتمعه، آخذين بنظر الاعتبار ان اخلاقيات المهنة تتميز عن الاخلاق العامة وعن اخلاقيات الدين بتضمنها على معايير مؤسساتية وتنظيمية يلتزم بها صاحب المهنة. ولكن اخلاقيات هذه المهنة نجدها غارقة في الشكلية والتقليدية و تختزل عادة بالاخلاق الدينية وبالتقاليد الاجتماعية مما يفقدها التأثير في نفسية الطالب فهي مادة هزيلة كما وصفها لي احد اساتذة الجامعة حيث اعتبرها (مادة مضحكة يدّرسها اشخاص يعتبر تدريسهم لهذه المادة علامة من علامات قيام الساعة). ويستذكر الاستاذ محاضرة حضرها عن اخلاقيات مهنة التدريس وفيها قال المحاضر (ان على الاستاذ ان يكون صادق وحلو ولطيف ومهضوم ويتمتع بمكارم الاخلاق ويصلي صلاة الجمعة.. هذا هو فهم بعض التربويين للاخلاق المهنية.. مجرد بديهيات يعرفها الاطفال عن عدم الكذب والسرقة مخلوطة باخلاق بدوية ساذجة). ولو تصفحت الكتب التربوية والانترنت لقرأت العديد من مثل هذه البديهيات وغيرها من تلك التي لا تختلف عن الوعظ الديني و التربية الدينية وما تفرزه العادات والتقاليد من قيم اجتماعية صورية ومنها (المعلم مؤمن بتميز هذه الامة بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر) و (المعلم يدرك ان الرقيب الحقيقي على سلوكه بعد الله سبحانه وتعالى هو ضمير حي ونفس لوامة) و (اخلاقيات مهنة التعليم هي السجايا الحميدة والسلوكيات الفاضلة التي يتعين أن يتحلى بها العاملون في حقل التعليم العام فكراً وسلوكاً أمام الله ثم أمام ولاة الأمر) و (العلاقة بين المعلم وطلابه صورة عن الأب هدفها تحقيق خير الدنيا والآخرة) و (المعلم مدرك ان تعلمه عبادة، وتعليمه الناس زكاة، فهو يؤدي واجبه
بروح العابد الخاشع، الذي لا يرجو سوى مرضاة الله تعالى شهيدا له او عليه) و (التعليم رسالة تستمد أخلاقياتها من هدي شريعتنا ومبادئ حضارتنا).
ومن جانب اخر يرسم عدد من التربويين ومنهم الدكتور داود درويش صورة انسانية عن مبادئ واخلاقيات مهنة التعليم كالانتماء والثقة والاحترام المتبادل واحترام حقوق الانسان في التعددية والتنوع والتزام المعلم بالعمل على تحفيز التفكير الناقد والحوار الهادف البناء الذي يسهم في بناء شخصية حرة.
سألت اخي في بغداد عن حالة التعليم فاجابني بأن “الكلام يطول، ولا حياة لمن تنادي، فذوي الشأن في بلادي قد ماتت ضمائرهم، او سلبت ارادتهم او ركبوا الموجة”، وذكر لي مجموعة من الامثلة عن فساد المدرسين وعدم الايفاء بمتطلبات مهنتهم منها:
1- يتقاضى بعض المدرسين هدايا ورشوات مقابل نجاح الطالب لذا اصبح المدرس شخصا غير محترما بين الطلبة وفي المجتمع نيتجة شيوع الفساد، وسبّب هذا التصرف اللاخلاقي معاناة كبيرة للمدرسين الشرفاء.
2- لا يهتم المدرس كثيرا بالمادة التدريسية في الصف وذلك لاجبار اكبر عدد من الطلبة على تلقي دروسه الخصوصية.
3- يدّرس بعض المدرسين في مدارس اهلية بالاضافة الى المدارس الحكومية وكنتيجة لضيق وقتهم يحاولون بأي اسلوب الهروب الى المدرسة الاهلية باسرع وقت.
4- معاملة اولاد المسؤولين تتميز عن معاملة الطلبة الآخرين بحيث لا يتوانى بعض المدرسين المتملقين من مد يد العون لهؤلاء الطلبة لكي يتفوقوا بدون مقدرة او حق.
5- المال اصبح سيد الموقف فمن يدفع ينجح ويتفوق، والاسئلة الامتحانية اصبحت تباع وتشترى، وهناك قاعدة في بعض المدارس هي “الذي يدفع يحترم، والذي لا يدفع يهان”.
6- الضرب الجسدي والاهانة اصبحا من الامور الشائعة في كثير من المدارس، وهما كما هومعروف في التربية الحديثة يخلقان “قرودا مدربة”، وليس بشر ذو ارادة ووعي.
7- يتميز كثير من المدرسين بضعف تكوينهم ومعلوماتهم ومعارفهم وبجهلهم بالاساليب البيدوغوجية وطرق التدريس الحديثة.
اننا نواجه ازمة حقيقية في التعليم حيث ترسم كل المشاهدات والدراسات صورة قاتمة لجودة هذا القطاع في العالم العربي والتي استنادا الى دراسة صادرة عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية تعود الى عدد من الاسباب منها غياب الفلسفة التعليمية والاستراتيجية الواضحة، وضعف الهيكل التنظيمي والبنى التحتية والتجهيزات المدرسية، وتخلف مستوى المناهج المدرسية واعتمادها على الحفظ والتلقين، وغياب المواد التي تنمي الحس النقدي للطالب، وتمكنه من أسلوب تفكير وتحليل منطقي.
برأي ان ضعف تدريب المعلم وتزويده بالملتزمات المهنية والاخلاقية ليستطيع خلق بيئة التعلم التي يمكن فيها للطلاب من استغلال كل امكانياتهم وقدراتهم هي من اهم العوائق التي تقف امام تطوير التعليم واهم التحديات التي تواجهها كليات التربية ومعاهد المعلمين. ولربما من المفيد ان ندرج هنا اهم المعايير الاخلاقية التي من الضروري ان يلتزم بها كل مربي وان تسعى كل مؤسسات تدريب المدرسين والمعلمين سوية مع وزارتي التربية والتعليم العالي لتجسيدها في عملية تعليم وتدريب المدرسين والمعلمين.
1- يعمل المدرس على تجسيد اعلى المعايير الاخلاقية سعيا لتحقيق رسالة واهداف المدرسة او المنظومة التربوية.
2- يتقبل المدرس المسؤولية بحق كل طفل في التعليم وبصورة متساوية سواء في المدارس الحكومية او الاهلية.
3- يتقبل المدرس المسؤولية في تدريس الطلاب المهارات التي تساعدهم على تقييم عواقب افعالهم ومساعدتهم في الالتزام بالفضائل كالنزاهة والحرص والمسؤولية والتعاون والولاء والاخلاص، واحترام القانون، والدفاع عن حقوق الانسان. ويقاس نجاح المدرس ليس فقط من خلال تقدم الطلبة نحو تحقيق النجاح ولكن ايضا من مدى تفهم الطلبة لواجباتهم نحو مجتمعهم.
4- لا يستخف المدرس من طلبته ولا يتعرض لهم بالاهانة.
5- لا يكشف المدرس المعلومات الخاصة للطالب ولا درجات الامتحانات امام الطلبة الاخرين.
6- يجهد المدرس في حماية الطالب من اي تعسف او تحيز شخصي ضده.
7- يسعى المدرس الى حماية كرامة المهنة من خلال احترام وطاعة التعليمات والقوانين، ويلتزم بشروط التعيين.
8- يستمر المدرس في النمو المهني وذلك بتنمية قابلياته ومعارفه التدريسية والتربوية.
9- لا يستخدم المدرس الامتيازات المؤساستية او المهنية لتحقيق مكاسب شخصية.
10- يحترم زملائه ولا يشيع عن اي واحد منهم معلومات كاذبة ولا يتدخل في امور اي من زملائه مهما كان مختلفا معه سياسيا او دينيا.
11- للمدرس مسؤلية اخلاقية تجاه الآباء والامهات والمجتمع ويتواصل مع اولياء الامور من منطلق فائدة الطالب ومصلحته، ويعتبر التدريس جهد تعاوني ضروري لتحقيق اهداف المجتمع.
12- يلعب المدرس دورا ايجابيا وفاعلا في تنشيط العلاقات بين المدرسة والمجتمع المحيط.
عندما يتشبع المدرس خلال تدريبه الجامعي بهذه القيم والواجبات، ويعمل على احترامها وتطبيقها اثناء تأدية واجبه كمدرس.. عندها فقط سيعتبر المدرس مربي وسيستحق بجدارة ما قاله الشاعر احمد شوقي (قم للمعلم و فه التبجيلا.. كاد المعلم ان يكون رسولا).