عن القيم الأكاديمية ودكاكين البِقالة
ربما يعد جاك دريدا واحداً من الفلاسفة القلائل الذين أستحظروا مفهوم الجامعة بصفتها مركزاً تنويرياً يعمل على زيادة اضطرام النيران في المواقد الأبستمولوجية للمجتمعات المتحضرة. فالجامعة تعد مسرحا أكاديميا خطيراً تتصارع على خشبته مختلف الرؤى المعرفية التي ستحدد مصير مجتمعاتها وهي تترقب بشغف مسار هذا الصراع وانعطافاته المصيرية. فيتصدى دريدا في محاضرة ألقاها في جامعة كولومبيا إلى تناول كتاب أيمانويل كانت (صراع الكليات) ويشرع في تفحصه عن كثب. وضع (كانت) هذا الكتاب بعد أن عاتبه العاهل البروسي على كتابه السابق (الدين مفهوما ضمن حدود العقل فقط), إذ عاب على (كانت) محاولاته تشويه الكثير من العقائد المسيحية المقدسة ويذكره بجسامة المسؤولية الملقاة على كاهله في تصحيح المسار الفكري للأجيال القادمة. يرى دريدا أن ( صراع الكليات) لم يكن في حقيقته سوى ملحقا لكتاب (نقد العقل الخالص) حيث تطرق في الكتاب الأخير إلى سبر أغوار الوظائف الأبستيميه للعقل في حين أن كتاب (صراع الكليات) تطرق إلى العقل بشكله المؤسساتي (الجامعة).
لا نريد أن نُبحِر في الإشكاليات التي طرحها (كانت) من حيث التقاطعات الأبستمولوجيه الحتمية بين النتاج الأكاديمي للجامعة وبين ما يفرزه المجتمع من سياقات رقابية سلطويه ومقدسه تحاول قوننة وهيكلة الجامعة وفقا لمقتضيات سياسيه وثيولوجية لا تمت للمعرفة بأي صله. ولكن ما يهمنا هو فكرة (كانت) حول الجامعة بصفتها كيانا ينطوي على كليات (من الكلية/ College) متصارعة تتوقف ديمومته على دينامية هذا الصراع وتضافر الجهود العلمية الحثيثة على تغذيته وزيادة أواره. فبدون هذا الصراع تفقد الجامعة فرادتها ضمن سياق علاقاتها مع الفضاء العمومي الذي يترصدها بحذر. أن هذا الصراع هو ما يجعلها أكثر المؤسسات قلقا وانزعاجا فأفرادها يعيدون تعريف مفاهيم الأشياء مرارا وتكرارا واضطرابهم الأبستمولوجي هو ما يكفل الاستمرارية الوجودية للجامعة كمؤسسة.
وفي خضم هذا التنظير الفلسفي الذي يحلق فيه دريدا عالياً وبمهارة بالغة يحق للجميع أن يشاطروه قلقه حول أصالة هذا النوع من الصراعات التي يُفتَرضُ بها أن تحتدم في أروقة جميع
الجامعات العالمية الرصينة. ونضع بدورنا هذا القلق في محيط النسق الوجودي للجامعة العراقية ونتساءل: أين يتواجد هذا الاضطراب والصراع الذين يتحدث عنهما دريدا وأيمانويل كانت في الجامعة العراقية بصفتها مؤسسة؟ وهل تمتلك هذه الجامعة أي خطاب أبستمولوجي يكفل لها نوعا من السلطة المعرفية الفاعلة لا المنفعلة ضمن فضاء المجتمع العراقي؟ وبعيدا عن سلطة منح الشهادات والترقيات, هل تمتلك الجامعة العراقية سلطة النقد المزعج؟ هل أن أفرادها قلقين حقاً؟ هل يختلف الهم المعرفي الذي يقع على كاهلهم عن ذلك الهم التسويقي الذي يقع على كاهل البقال البسيط؟
ما عادت الجامعة العراقية منذ زمنٍ طويلٍ جداً مركزاً تنويرياً تحتدم فيه الصراعات المعرفية الأصيلة بل باتت, الآن تحديداً, كاتدرائيه عقائدية يفتك بها نوع من أنواع الفضول الغيبي الذي يحلق فوق رؤوس جميع أفرادها فيترك على محياهم سمات العبادة والأيمان فتجدهم مطمئنين بدل أن يكونوا قلقين, يكتفون سريعاً بالأجوبة الأولى الآمنة التي تخطر على بالهم بدل أن ينساقوا وراء فضولهم الذي تحجرَ منذ قرونٍ بعيدة. هل هنالك صراع يجعل من الجامعة العراقية مصدراً لقلق المجتمع؟ مصدراً يعمل على الحفاظ على دينامية الحركة المعرفية بكل الأثار المترتبه على ذلك من أعادة صياغة مستمرة لمفاهيم مجتمعنا, أقتصادنا, فلسفتنا؟ بالتأكيد لا. بل أن الحركة كانت ولا زالت تتفاقم بمسار عكسي يجعل من الجامعة مسرحاً طارئاً يحتضن جميع ألوان الخطابات السياسية السائدة دون أن تكون لها رؤيتها المستقلة ناهيك عن ممارسة دورها الرقابي الذي تخلت عنه تحت أنظار جميع أفرادها المتواطئين مع تلك الخطابات السياسية السلطوية الهزيلة.
أثبتت الجامعة العراقية كفاءة لا نظيرَ لها في تبني أي لون خطابي مهما كانت تناقضاته الداخلية صارخة, فهي بارعة في ترتيب بيتها المعرفي وفقاً لمزاجية الخطاب السياسي المهيمن. أن قدرتها على التناغم مع المناخات الفكروية الشائعة مذهله فهي تتأثر بتلك المناخات لا تأثراً تفاعليا كما يفترض بها بل تأثراً أنتهازياً عنيداً : فمنذ سبعينيات القرن الماضي اتشحت هذه الجامعة بالزيتوني وتعاطت بعنفوان مزيف ومتملق مع كافة أشكال الشوفينية القومية لحزب البعث المنحل بل ونظّرَت له من على منصة عدد هائل من الندوات والدورات التثقيفية والتنويرية. وأصدرت دورياتها ومنشوراتها التي حاولت أن تسبر أغوار فكر القائد الضرورة. وبعد غزو أمريكا للعراق, جثت هذه الجامعة على ركبتيها وأعلنت توبتها ولبست مسوح التقوى والورع وسارت في الركب المقدس للحجيج. وبات الصراع المزيف بين كلياتها محسوما سلفاً للعلوم الإلهية ومتاهات العقائد الكونية الخالدة التي يبدو أنها أخذت تستفيق بعنفوان منقطع النضير.
لم تكن الجامعة العراقية في يومٍ ما مصدرا يؤرق مجتمعها لا بل لطالما هرولت خلفه بفمٍ فاغر راح يبتلع جميع إفرازات هذا المجتمع المتشعبة دون أن تكون لها ذائقة تمحيصية تجعلها تلفظ بعض هذه الإفرازات وتعمل على تنقيح البعض الأخر منها على الأقل.
أما فيما يتعلق بخطاب الجامعة العراقية الأبستمولوجي فهو في أجازة مفتوحة ومزمنة. وهي في أفضل الأحوال تكتفي بدور المستهلك الرديء للأفكار والمناهج التي يجهل أساتذتها البذور المعرفية الأولى التي نشأت عنها أذا لم يتعدوا ذلك إلى سرقات وأبتسارات فكروية لا تدل إلا على الانعدام التام لتمثُّل تلك المناهج والأفكار. نحن هنا لا نتحدث بالتأكيد عن القطيعة المعرفية الهائلة بين جامعاتنا والجامعات الغربية بل عن أشباح الخطاب المعرفي الذي قد يكتسي في يومٍ ما باللحم والعصب! وغالباً ما تأتي هذه الأشباح الأبستمولوجيه من مراكز فقهيه تقع خارج أسوار الجامعة ثم تعكف الجامعة على اجترار هذه الأشباح وبدل أن تكسوها باللحم والعصب فأنها تمعن في تشبيح هذه الخطابات المجتزئة وبالتالي تنحدر معها سريعاً إلى هاوية النسيان. وأبرز مثال على ذلك هو تلك العلاقة الغامضة بين الحوزة العلمية في النجف وبعض أساتذة الجامعات الذين يترددون عليها ثم يظهرون على حين غرة في أروقة الجامعة وهم يعتمرون العمامة البيضاء أو السوداء ويتأبطون ما طاب لهم من كتب القوم الذين غابوا وتركوا لنا صوامعهم الباردة. ومما لا شك فيه أن الحوزة أكثر جرأة من الجامعة العراقية في تأسيس متبنياتها المعرفية وتأصيل مشروعها الإسلاموي المثير للجدل وأن انطوت تلك المتبنيات على معارف غيبية غير قابله للاستقراء.
أن الغياب التام والمجحف للخطاب العلمي تحديدا للجامعة العراقية أفرغها من أي أساس معرفي يبرر وجودها. فالخطاب أياً كان نوعه يقوم على وجود عنصر الباث وعنصر المتلقي ويرتبط هذان العنصران بمعرفية الرسالة المبثوثة بينهما. ولكن أي رسالة تبث الجامعة العراقية؟ رسائل الماجستير والدكتوراه؟ هذا النوع من الرسائل الأكاديمية يقف دليلاً أخيرا وقاتلاً على تنصل الجامعة العراقية من أبسط مستويات السلطة التي تمنح بموجبها الشهادات والترقيات. أن جميع من ينتمون إلى هذا الوسط يعرفون جيداً ما نتحدث عنه. فعلى مستوى الكتابة التدوينية لهذه الرسائل, ربما لم تشهد أي مؤسسه علمية في العالم هذا الانحدار الخطير في مجال الصياغات اللغوية المبتورة ناهيك عن السرقات الأدبية والعلمية التي لا تعد ولا تحصى والنتيجة هي رسالة توليفية ملفقة تتهم معظم الأكاديميين بالاستهتار والبراغماتية الطارئة لا بل والتواطؤ على تجريد الجامعة من ممارسة أخر أدوارها السلطوية في منح اللقب الأكاديمي.
أما على مستوى الدفاع الشفهي للطالب (المناقشة) فالجميع ملتزم بدستور غير معلن يضمن السلامة العلمية لهذا الدفاع عبر أنتقاءات انتهازية لأعضاء المناقشة الذين تجمعهم عادةً علاقة
ربحية وتكافلية مع الأستاذ المشرف مما يوفر بيئة تطفلية تُشرعِن غض الطرف عن الأهلية الأكاديمية لهؤلاء الأعضاء. وغالبا ما تنتهي الحفلة التنكرية لمناقشات رسائل الماجستير والدكتوراه بوليمة دسمة تقف دليلا صارخا على الغياب التام للمرجعيات العلمية التي أسست لهذا النوع من الاختبارات. إذ كان يجدر بهذه المرجعيات المزعومة أن تتحقق من الكفاءة المعرفية لكاتب الرسالة مما يكفل لأعضاء المناقشة التقليل من خطر المجازفة بمنح الشهادة مع احتمالية وجود كاتب شبح (ghostwriter ) خلف الكلمات المدونة في الرسالة المطروحة للنقاش.
أما فيما يتعلق بالقلق الأبستمولوجي فهو وباء يهرب منه معظم أفراد الجامعة العراقية. هم عادةً متصالحون تماما مع البيئة المعرفية المحيطة بهم رغم الأختلالات الجمة التي تزخر بها هذه البيئة. والصدام الحتمي بين عقلية الباحث الناقدة وواقع البيئة المحيطة به هي مسألة وقت ليس إلا. غير أن أفراد الجامعة العراقية ينصهرون لا بل ويتشكلون وفقاً لمقتضيات الراهن المُعاش. الأسئلة مقلقة ومزعجة ولا يجب أن تستولي على المناخ الجامعي في العراق وتترسخ في المقابل الأجوبة الجاهزة بصفتها نعمة وهبة سماوية لا يتسع لها الا قلب المؤمن. فإذا كان القلق هو مصير المعرفة على حد تعبير الكاتب (سعد البازعي), فالطمأنينة هي حتما المعادل الموضوعي للأيمان الغيبي حينما يلج في أروقة الكاتدرائيات الجامعية التي تدفع المجهول إلى حجرة مظلمة تحتشد فيها الأسئلة المنسية التي يتحاشاها الجميع ويعلنون توبتهم النصوح ويتلون الصلوات أذا ما أزعجت أشباحها صروح أجوبتهم المتحجرة والجاهزة.
(دع القلق وأبدأ الحياة) هذا هو شعارهم المرتهن وهم ينعمون بالعيش خلف أسوار جامعاتهم المصونة والمحمية من قبل السلطة السياسية المستفيدة. فضمن حدود هذه الأسوار يمتد حلم خارطتهم الأبستمولوجية ويتعرفون على بعضهم البعض في عتمة المنجز الأكاديمي المستعار: فهذا البروفيسور الفلاني وهذا البروفيسور العلاني ويهمس بعضهم في أذن البعض الأخر هذا أخر كتاب ألفته, وهذا أخر بحث كتبته ويكيل بعضهم المديح للبعض الأخر فخارطتهم موقوفة الإحداثيات وينتهي هراؤها عند حدود تلك الأسوار التي يعتليها حُراس المكاسب الطارئة وكلاب الأسئلة المحرمة. وربما هذا ما يفسر الغياب السافر لأهم مرتكزات التمايز المادي لأفرادها, وأعني بذلك (البحث العلمي), فحجم المرتبات التي يتقاضونها يفتقر إلى أي علاقة جوهرية مع عدد ونوعية البحوث العلمية التي يتصدى الأستاذ إلى كتابتها, بل أن الأمر يقتصر بسذاجة شديدة على نظام القِدَم الوظيفي وهو من أشد أنظمة التمايز المادي رتابة وكسلا. وبذلك يتحول الأستاذ إلى بضاعة يزداد ثمنها كلما ازدادت تعتيقاً وتخمراً.
وأتساءل في نهاية المطاف عما منع (كانت) عن التعاطي مع شكوى العاهل البروسي ضمن سياق الإذعان للسلطة السياسية. ما الذي جعل (كانت) يرد على هذا العاهل بشجاعة ويخبره بأن
سوء فهمه لكتاب (الدين مفهوما ضمن حدود العقل فقط) لا يعنيه على الإطلاق, لأن هذا العاهل لا يمثل أي سلطة أبستمولوجية, وإذا أراد أن يكشف عن مراد (كانت) في كتابه المذكور فعلية (أي العاهل) أن يلجأ مذعناً إلى الجامعة بصفتها مرتكزاً للسلطة المعرفية وهي ستصحح له اعوجاج فهمه القاصر.