23 ديسمبر، 2024 3:48 ص

قَضَايا الشعرِ العَرَبِيِّ المعاصر .. ـ مِن شَغَفِ السُّؤَالِ إلى رَهَانَاتِ الإجَابَةِ

قَضَايا الشعرِ العَرَبِيِّ المعاصر .. ـ مِن شَغَفِ السُّؤَالِ إلى رَهَانَاتِ الإجَابَةِ

مسارٌ إجباري:
سُئِلَ الصَّحابيّ الجَليلُ عبد الله بن عبَّاس ( رضي الله عنهما ) يَومًا : بأنَّىَ أصَبْتَ هذا العِلم ؟ فأجاب بقولِهِ البليغِ ” بِلسَانٍ سئولٍ وقَلبٍ عَقُولٍ ” ، أي أنَّ السُّؤالَ دومًا هو مفتاح المعرفةِ المُخلص الذي لا يخطئ الطَّريق ، وهو البوَّابةُ السِّحريَّةُ التي يمكن من خلالها التقاطُ واقتناصُ كُنْه الأشياءِ وتفاصيلها المختبئةِ عن الأنظارِ وربما عن الألبابِ أيضاً ، ويظلُّ السؤالُ في عُرْفِ النُّصوصِ الفلسفيَّة واللغويَّةِ هو الحَرَاك المُدهش لحالاتِ السُّكونِ المعرفيَّةِ وهو أشبه بأصوات وهتاف الثَّائرين وقريب التَّشبيه بفوران البراكِين المحمومة لما يتضمنه السؤالُ من تسارعٍ ذهنيٍّ بحثًا عن إجابةٍ شافيَةٍ .
ولعلَّ المُؤَسِّسَ الاجتماعيَّ العَربيَّ ابن خلدون لم يتنبَّه وهو يسطِّر مُقدمَته الخالدة الذِّكر إلى خَصيصةٍ رئيسةٍ تميز العقل العربي وليست الثَّقافةَ العَربيَّة فحسب ، وهي هوس الإنسانِ العربيِّ وشغفه بالسُّؤالِ كنَمطٍ ثقافيٍّ متميزٍ ، هذا الشَّغف الذي شغَل العَربيَّ جعله دائم الولوع بإلقاء أسئلتِه محاكِمًا تراثه لاسيما الشَّعبي حتى استحالتْ حَكاياه الشَّعبيَّة التي أسهم هو دونما قصدٍ في تأطيرها إلى جزءٍ أصيلٍ من عقيدته الاجتماعيَّة التي تتحكم في سلوكِه الفرديِّ والاجتماعيِّ على السَّواء بنسب تكاد تكون مُتساوية ، وربما ثراء التُّراثِ الاستفهاميِّ الذي يدور في فَلَكِ الحكايةِ والتي عبر عنها العربي القديم بقصصه وحكاياه ونوادره وطرائفه المرتبطة بواقعه وماضيه هو الذي دفع هذا المواطنُ العربيُّ ولا يزال يدفعه إلى أخذه ـ أسئلة التُّراثِ ـ أساسا راسخًا متينًا لثقافته التي تتحكم في دوافعه واتجاهاته ومن ثم استجاباته الاجتماعيَّة.
والرَّسولُ الكريمُ مُحَمَّد  قد استخدمَ السؤالَ قبل إلقاءِ الحديثِ ؛ بغرض تهيئةِ الأذهانِ إلى ما سيلقى عليها، ولقد تعددت الأحاديث التي بدأت بأدواتِ الاستفهام مثل: ألا أحدثكم ،ألا تسمعون،أترى بكم سبقك أصحابك؟هل شعرت أن الله ؟ ألا أدلكم؟.وقد اتبع الرسول  المناقشة والحوار كأسلوب تربوي قوي الأثر وأكثرها نفعاً ، فاعتمد على الخبرة المباشرة في أغلب مواقف التعليم،كما أنه أحسن استغلال حاجاتِ المسلمين للاستفهامِ والسؤالِ عن أمور الدين.
وإذا تدبرنا صور الحوار والمناقشة في القرآن الكريم والسنة النبوية لاستطعنا استقراءَ الأيديولوجية الإسلامية لهما ، فالحوار والمناقشة بطول القرآن الكريم وعرض السنة النبوية تتضمنا التفاعلِ والمشاركةِ ، ويقوم فيها المناقش / السائل بدور رئيس في منظومة التحاور مع الآخر / الآخرين ، وهذا الدور يتوقف عليه نجاح هذه المنظومةِ أو فشلها في تحقيقِ الهدفِ المرجو من تلك المناقشةِ .
وتظهر ملامحُ هذه الأيديولوجيَّة أيضاً في انتقال المعرفةِ من شخصٍ لآخر، حتى تصبح المعرفةُ (الخبرة) مشاعاً بينهما. ويؤدي هذا التواصل إلى تفاهم مشترك بين هذين الشخصين أو أكثر. وهذا التواصل والتفاعل بين أطراف المناقشة يحققان تقدماً في نقل المعلومات والأفكار والمفاهيم،والذي يساعد بالضرورةِ على فهم حقيقة إيمانية أو سنة كونية أو تحقيق الاستسلام للعقيدة الربانية الصَّحِيحة. كُلُّ مَا سَبق يُؤكد حَقِقة مَفادها أن السؤال وأشكال وأنماط استخدامه هو انتصار المعرفة عن طريق تقرير إجابة شافية واجبة له .
ـ الفَارِسُ القَدِيْمُ .. فَرَسُ الحَدَاثَةِ الدَائِم:
يمكن أن تتناولَ قصيدة شاعرٍ ما عن طريق التَّناصِ النقديِّ السَّابق ، وذلك من خلال الاعتماد على منظورٍ نقديٍّ معينٍ أو رؤى وطروحات نقديَّة متقدمةٍ عن التناولِ الرَّاهن للشَّاعر والقصيدة ، وهذا في الغالب أمر بدهي قد لا يحتاج إلى تنظير أو سرد طويل ، لكن هذه القاعدة بالضرورة لا تصلح تطبيقا على شاعرنا صلاح عبد الصبور ، فهو وقصيدته لا يصلحان أبدا للتناول من معطيات سابقة عليهما ؛ لا من حياة الشاعر كعرف النقاد الأوائل الذين اعتادوا أن يربطوا ويدمجوا الشاعر بالنص كوجهين متماثلين لعملة واحدة وهم بذلك أفسدوا النص في تناوله أحيانا ، ومارسوا فعل الإقصاء على الشاعر بتقييد حياته داخل نص لغوي أحيانا أخرى ، ولا يمكن تناول قصيدة صلاح عبد الصبور من خلال التأريخ الأدبي الذي جعل نصه قاصرا على حقبة تاريخية معينة عُرفت بقصيدة التفعيلة أو حركة الشعر الحر أو القصيدة الجديدة ، فكل هذا محاولات قمعية تمارس كرها على الشاعر والنص والقارئ على السواء.
لكن صلاح عبد الصبور كونه شاعر الأسئلة المدهشة لا يمكن تناول نصوصه الشعرية إلا باعتبارها إحداثيات لغوية وفكرية تأبى تقييد الإجابة والاستجابة عنها ، وترفض رفضا واضحاً أن تكون الإجابة عن التساؤلات المتضمنة داخل مشروعه الشعري نهائية وقطعية لا يمكن تجاوزها ، لذا فمن الأحرى عند تناول شعر الفارس القديم صلاح عبد الصبور صاحب ديوان ( أحلام الفارس القديم ) التعامل مع نص دون إشارات مرجعية نقدية سابقة لأن هذا سيخل بفعل التلقي المدهش .
وربما تبدو مشكلة وتظهر للناقد الذي سيتعمد تناول نصوص صلاح عبد الصبور من خلال طروحات سابقيه لاسيما وإن كانوا من أساطين وأباطرة النقد لذلك فهو أحرى بالاستخدام النقدي السابق ، هذه المشكلة تتلخص في كون نصوص صلاح عبد الصبور تمثل أيقونة لغوية أقرب إلى جماليات المقاومة ، بمعنى أنك من الصعب تنبؤ ما سيطرحه الفارس القديم في نصه استنادا لطرح شعري سابق ، فصلاح عبد الصبور يمثل ومعه الشعراء أمل دنقل وأدونيس ومحمد علي شمس الدين وقاسم حداد ومحمد عفيفي مطر حركات احتجاجية ضد ممارسات النقد القمعي الذي يسعى جاهدا بغيل كلل أن يقمع النص في زوايا محددة لا يمكن رؤيته إلا من خلال عدساتها المحدبة والمقعرة والمستوية .
لكن من يملك اللغة احتجاجاً والصورة الشعرية سؤالاً حائرا وقلقا ومدهشا من الصعب اقتناص قصيدته والتعامل معها على أنها مجرد سرد أو حكي لغوي لفظي يحمل مضمونا يمكن فك شفرته تاريخيا أو اجتماعيا ، وهذا التوصيف ينطبق تمام الوصف وكماله على شاعرنا الفارس القديم صلاح عبد الصبور والذي دوما يراهن على نصه بتيمة لغوية وقصدٍ شعري أشبه بالصدر والعجز في الشعر العمودي التقليدي لكن هذه المرة من خلال تشكيل لغوي فكري يبدأ بالتقرير وينتهي بدهشة السؤال ، تماما مثلما يصنع الشاعر الاستثنائي ( أدونيس ) الذي يبدأ نصه بعبارات وجمل شعرية تقريرية تجعلك تطمئن للنص وصاحبه والطريق الوثير الذي تمشي فيه ، حتى يباغتك بسؤال يجعلك مجبرا بين أمرين ؛ إما أن تقفز طوعا ومستسلما داخل النص لتكون جزءً أصيلا منه ومن تشكيله اللغوي ، او أن تضطر إلى التخلي المطلق عن إرهاصات التكوين النقدي القديم لديك.
ومن جُمْلَةِ هَذه الإحداثيات الشعرية التي تم تجسيدها في بدايات تقريرية ثم طرح سؤال مباغت يستدعي القلق والدهشة ، يقول صلاح عبد الصبور :
” لكنها قديمة معروفة لهيبها دموع
معذرة يا صحبتي ، قلبي حزين
من أين أتي بالكلام الفرح ؟ ” .
وأيضا يقول :
” الله وحده الذي يعلم ما غاية هذا الوله المؤرق
يعلم هل تدركنا السعاده
أم الشقاء والندم ؟
وكيف توضعُ النهايةُ المعاده
الموتُ أو نوازع السأمْ ؟ ” .
*******************************
ـ غوَايَةُ النَّصِّ :
ثمة علامات يمكنك أن تقتنصها وأنت تتناول نص صلاح عبد الصبور تتمثل بغير استطراد في غواية النص ؛ بمعنى أن الشَّاعر على الدوام قد يدفعك إلى الاستسلام بتقرير حالاته النفسية تماما مثلما جاء في قصيدته الافتتاحية لديوان ( أحلام الفارس القديم ) بعنوان ( أغنية للشتاء ) التي يقول فيها :
” أموت … لا يعرفني أحد
أموت لا يبكي أحد
وقد يقال بين صحبي ـ في مجامع المسامره
مجلسه كان هنا ، وقد عبر
فيمن عبر
يرحمه الله
ينبئني شتاء هذا العام أن ما ظننته ..
شفايَ كان سمِّي
وأن هذا الشعر حين هزني أسقطني
ولست أدري منذ كم من السنين قد جُحت
لكنني من يومها ينزف رأسي ” .
وبينما يبدو القارئ مستسلماً للحالة الوجدانية الأكثر حزنا في النص ، يضطر لأن يكون إيجابيا إزاء تلك الحالة ليس فقط عن طريق التضامن النفسي مع الشاعر وحالته ، إنما عن طريق البحث عن طرائق وسبل للخروج من تلك الحالة السلبية التقريرية حتمية النهاية ، والغواية التي يصنعها النص هي وعي شديد من الشاعر لأنه يدفع القارئ دفعا لمجاوزة حد القراءة وتخوم التلقي المعتاد إلى مساحات من التخطي لدور القارئ التقليدي الذي يجد نفسه صوب الفعل الشعري محاولا أن يضع نهايات أخرى أو يواطن الشاعر في محنته . يقول صلاح عبد الصبور :
” الليلُ ثوبُنا ، خباؤنا
رُتْبَتُنا ، شارَتُنا ، التي بها يعرفُنا أصحابُنا
لا يعرف الليل سوى من فقد النهار
هذا شعارنا
لا تبكنا يا أيها المستمع السعيد
فنحن مزهوُّون بانهزامنا ” .
وبنفس الغواية التي يصنعها صلاح عبد الصبور في نصه الشعري ، ينجح تمام النجاح وفلاحه في عرض لحظات إنسانية أكثر عمقاً ، مستخدماً في ذلك كافة مستويات التَّتابع النَّصِّي ، الذي يمكن توصيفه على سبيل الاجتهاد لا التقعيد النقدي النهائي بأنه نص قلق على الدوام . فهو يقدم مشهداً يبدو برمته حزين الوصف والملامح يمكنك كقارئ أن تكمل بقية المشهد ورغم ذلك يجعلك أكثر قلقا عن طريق صور شعرية متتابعة وسريعة تجوبها ألفاظ ومساحات لغوية مغايرة لجو النص العام . يقول صلاح عبد الصبور في قصيدة ( أغنية إلى الله ) :
” حزني ثقيلٌ فادحٌ هذا المساء
كأنه عذابُ مصفدين في السعير
حزين غريب الأبوين
لأنه تكوَّن ابن لحظةٍ مفاجئة
ما مخضته بطن
أراه فجأةً إذا يمتد وسط ضحكتي
مكتمل الخِلقةِ
موفورَ البدن
كأنه استيقظ من تحت الركام
بعد سباتٍ في الدهور ” .
ونفس الفعل الشعري الذي مارسه صلاح عبد الصبور ، يحاول إعادة إنتاجه مرات أخرى وهو بذلك يدشن وحده اللغة فعلا انقلابيا لا مجرد ألفاظ متراصة بغير دلالة ، وهذا الفعل الشعري الانقلابي من بالغ الصعوبة أن يقبل لعبة رهانات تحديد الزمن أو وقت القصيدة ، لأنه نص في المطلق ، وتعامل قصدي مع الحدث والحالة الشعرية لا مع وقتها المنقضي ، لذلك هذا الملمح الشعري يؤكد لما تم ذكره من قبل بأنه من الصعب تأريخ الشاعر من خلال قصيدته ولا يمكن توثيق التطور الشعري لشاعر مثل صلاح عبد الصبور بدأ كما انتهى لا من حيث التطور على مستوى الاستعمال اللغوي للمفردات أو من خلال الصورة الشعرية إنما من حيث البدء بالعبارات والجمل الشعرية التقريرية انتهاء بطرح الأسئلة المثيرة لأسئلة أخرى . يقول صلاح عبد الصبور في قصيدته (أغنية من فيينا ) :
” ثم نزلنا للطريق واجمين
لما دخلنا في مواكب البشر
المسرعين الخطو نحو الخبز والمئونة
المسرعين الخطو نحو الموت
في جبهة الطريق ، انفلتت ذراعها
في نصفه ، تباعدت ، فرّقنا مستعجلٌ يشد طفلته
في آخر الطريق تُقْتُ ـ ما استطعت ـ لو رأيتْ
ما لونُ عينيها؟
وحين شارفنا ذرى الميدان غمغَمت بدون صوت
كأنها تسألني … من أنتْ ؟ ” .
ـ فِي قَصِيْدَتِنَا .. لَيْلٌ :
على غرار رواية إحسان عبد القدوس الرائعة ( في بيتنا رجل ) والتي تم تقديمها على شاشة السينما في ستينيات القرن الماضي بصورة تعادل إبهار الحدث الروائي نفسه يمثل الليل حدثا مهما داخل النص الشعري عند صلاح عبد الصبور ، وهو ليل ليس بالضرورة ليل ينتمي لخريطة النظريات النقدية التقليدية وإن كانت صورة الليل تماثل الصور الشعرية التقليدية التي توحي بالعزلة والضيق الداخلي واتساع الزمن والحزن الكئيب ، إلا أن نظرية المحاكاة الشعرية وتركيب الصور بطريقة أقرب إلى المشاكلة بعيدة تماما عن صورة الليل في نصوص الفارس القديم صلاح عبد الصبور .
وصورة الليل في نصوص صلاح عبد الصبور هي تدفق يفيض بدلالات مصاحبة لطبيعة الطقس الزمني ولتلقائية المشاعر القوية التي يسرها الشاعر فنجده يصَوِّبُ اللغة تجاه الليل بمفردات مصاحبة مثل : وأن كل ليلة باردة تزيده بعدا / الليل سكرنا وكأسنا / الله لا يحرمني الليل ولا مرارته / في ركني الليلي في المقهى الذي تضيئه مصابح حزينة / ثم تساقط المساء فوقنا / في آخر المساء شعشعت سحابة بنور / وهكذا مات المساء .
*******************************
ـ يَبْدُو عَاشِقًا :
تربط معظم النظريات النقدية المتقدمة والمتأخرة زمنيا النص الشعري بعالمه الخارجي ، أي قصة الشاعر وإحداثياته الشخصية المتواترة ومحيطه الاجتماعي ، والناقد في ضوء ذلك يشبه الشرطي أو رجل المباحث السري الذي يتتبع الجاني في خفية من اقتناص تفاصيل تزيح الستار عن سر أو غموض ، وهكذا يصنع الناقد في ضوء الإحالات الخارجية للنص الشعري ،فيحاول إيجاد علاقة تماثل بين النص وصاحبه رغم أن الشاعر ـ أي شَاعر ـ هو صوت استثنائي قد ينفصل تمام الانفصال عن تفاصيله الاعتيادية ومكوناته الاجتماعية وهو ينظم قصيدته ويبدعها مما يجعل مهمة الناقد البوليسي صعبة وهو يتتبع شاعره لاصطياد حكما نقديا عن النَّصِّ .
ورغم أن تأطير نصوص الفارس القديم صلاح عبد الصبور جعلته بحكم النقاد حبيس الطرح القومي والتيار الإنساني المهموم بقضايا مجتمعه إلا أن غلبة الجانب الإنساني جعلته يبوح بسر العاشق بملامح قد لا تكون متماثلة بالشاعر التقليدي العاشق ، لكننا مضطرون قبوله عاشقا استثنائيا بسطوة نصوصه غير المسكوت عنها ، والتي تبوح بأسرار العشق والعاشق بطريقة معاصرة ، ويمكن إعلان لحظة القبض على صلاح عبد الصبور عاشقا من خلال الجمل الشعرية التي تخللت نصوصه ومنها ما يقول في قصيدته (الحب في هذا الزمان ) :
” اليوم .. يا عجائب الزمان !
قد يلتقي في الحب عاشقان
من قبل أن يبتسما
ذكرت أننا كعاشقين عصريين
يا رفيقتي
ذقنا الذي ذقناه
من قبل أن نشتهيه
ورغم علمنا بأن ما ننسجه ملاءًة لفرشنا
تنقضه أنامل الصباح ” .
وفي قصيدة ( أغلى من العيون ) يضيئ صلاح عبد الصبور مساحات واسعة من حالات الحب البسيطة وفيها مكاشفة لغوية سهلة بغير تعقيد أو استطراد يدفع القارئ للملل التدريجي ،ففي الوقت الذي يصطنع أي شاعر حالة الحب داخل قصيدته فنجده يصب لعناته ويوجه براكينه الثائرة في صدر قارئه ويبالغ في رصد وتحليل مشاهداته على حالته تلك ، نرى صلاح عبد الصبور بسيطا جدا في سرده الشعري حتى يظن القارئ أنه يقدم تعويذة قصيرة عن الحب بغير أبطال أو معارك وهمية أو قصص أسطورية ، وتحديدا في قصيدة ( أغلى من العيون ) نلمح تمازجا قويا بين لغة القصيدة وحكايتها وبين لغتنا المعاصرة التي نستخدمها في حديثنا اليومي المعتاد أو في حديثنا بالهاتف ، وكأن صلاح عبد الصبور في مشروعه الشعري الذي بدأه بديوان ( الناس في بلادي ) كان على وعي شديد بلغة المواطن العصرية التي تخلو من الغرابة والوحشة ، لذا لجأ صلاح عبد الصبور في قصيدته إلى لغة مباشرة ومفردات معاصرة شديدة الصلة بواقعه بجانب حرصه على غنائية الجمل الشعرية ، يقول صلاح عبد الصبور :
” عيناك عشّي الأخير
أرقد فيهما ، ولا أطير
هدبهما وثير
خيرهما وفير
وعندما حط جناح قلبي النزق
بينهما ، عرفت أنني أدركت
نهاية المسير ” .
ويقول في المقطع الثاني من نفس القصيدة مستخدما سلاحه الاستفهامي الذي يبدأ بعبارة تمثل صدر الكلام ثم استفسار أو تساؤل يجسد عجز البيت الشعري:
” من أين نبع رائق يفيض حبنا
يغمرنا سعادة كأننا طفلان
لم نعرف التجوال في هذا الزمان
أي نسيم ناعم هذا الحنان
وأي كأس حلوة تلك التي نذوقها
حين تطل من عيوننا قلوبنا المجنحة
تبحث في الأحداق عن طعامها ومائها
ثم تنام في أمان ” .
وصلاح عبد الصبور حينما ينظم الحب شعرا فهو لا يقتصر عند حد الوصف والتوصيف ، بل يتجاوز هذا الشرح الاعتيادي إلى تقمص دور الناصح الأمين ، وهنا لا يستطيع عبد الصبور أن يتخلى عن دوره الاجتماعي أو الطابع القومي الذي طغى على شعر هذه المرحلة الشعرية التي يمثلها هو بجانب شاعر الرفض أمل دنقل ، فهو عاشق غير مبتذل ، وشاعر يؤمن ويقدر دوره الاجتماعي في التنوير والتبصير ، نجده يقول :
” يطيب لي في آخر المساء أن أقول كلمتين
شفاعة أرفعها إليك يا سيدة النساء
الحب يا حبيبتي أغلى من العيون
صونيه في عينيكِ
واحفظيه
الحب يا حبيبتي مليكنا الحنون
كوني له مطيعة سميعة
الحب يا حبيبتي هدية الحياة لي ، ولك
لمتعبين حائرين في السنين
الحب يا حبيبتي فردوسنا الأمين
حين تؤود ظهرنا الرياح
وتنتهي لشاطئ المنون ” .
************************************
ـ أقْنِعَةُ صَلاح عَبْد الصَّبُورِ الشَّعْرِيَّة :
اتفق كثير من النقاد والمنظرين للفكر العربي المعاصر أن نصوص الصوفية وأخبارهم وحكاياهم هي المصدر الرئيس لشعر التفعيلة وأجازوا بأن النص الصوفي هو الذي شكل قصيدة النثر الحديثة ، مستندين في ذلك إلى علامات متشابهة بين النصين / الصوفي والشعري ، من تلك الملامح والعلامات الأقنعة المستعارة أو اللغة المجازية التي لا تكشف عن معنى محدد يبصره الرائي بسهولة ويسر ، ومنها اللغة الرمزية التي يتكبد القارئ فهم دلالاتها الضمنية ، وأيضا استخدام التساؤل الاستفهامي بصورة توحي بإقرار الإجابة بغير تفكير أو الاختيار من بدائل ، وصلاح عبد الصبور يكاد يكون قريب الشبه بين شاعرين أجادا في استخدام الأقنعة الشعرية في نصوصهما ؛ أمل دنقل وأدونيس ، والفارس القديم وإن كان استخدم أقنعة شخصية مثل لوركا وبودلير وغيرهما ، إلا أن الوقوف النقدي الإجباري سيكون عند قصيدتي ( مذكرات الملك عجيب بن الخصيب ) و ( مذكرات الصوفي بشر الحافي ) لما يمثلان من إشارتين تراثيتين يمكن توصيفهما بالإحالة المؤثرة والفاعلة .
وأظن أن وقوفي الإجباري عند حافة القصيديتين قد جعلني أؤكد أن استلهام صلاح عبد الصبور لرموز تراثية هو إحالة رمزية من الذاتي إلى العام ، وشهادة لعصر مشهود ولإحداثيات استشرافية قد تقع في المستقبل ، ففي قصيدة ( مذكرات الملك عجيب بن الخصيب ) نرى صلاح عبد الصبور يقدم نقدا لمجتمعه من خلال الارتكان إلى صورة تراثية ، ونظرا لطبيعة صلاح عبد الصبور البعيدة تمام البعد عن المواجهات السياسية أو الفكرية التي تحمل قدرا بعيدا من المشاحنة والعراك غير الإيجابي فالتجأ إلى شخصية الملك عجيب بن الخصيب ليقدم من خلاله نظرته لعصره مستعينا في ذلك بأحد أدوات المتصوفة وهو الالتفات بالخطاب بين الأنا والآخر ، وعلى حين يبدو صلاح عبد الصبور في مجمل نصوصه رقيقا في بداياتها إلا أن تلك القصيدة الطويلة نسبيا يبدو أكثر مكاشفة وحدة بغير مقدمات ، ويسعى كأمل دنقل وأحمد عبد المعطي حجازي في قصائدهما الغاضبة في جلد المجتمع وفكره ورفض سطوة المدينة وأضوائها ، يقول في المطع الأول من القصيدة :
” لم آخذ الملك بحد السيف ، بل ورثته
عن جدي السابع والعشرين ( إن كان الزنا
لم يتخلل في جذورنا
لكنني أشبهه في صورة أبدعها رسامه
رسامُه … كان عشيقَ الملكة ) .
وهو يسعى في رسم ملامح مجتمعه الذي ضج بالمنافقين ومدعي المعرفة والثقافة ووصول الكثير من المنتفعين إلى أصحاب السلطة وصناعة القرار على حساب أهل العلم والثقافة الحقيقيين ، ورغم الإحالة التاريخية داخل نصه إلا أنه يعكس استشرافاً لغد آخر يعقب النص الشعري ذاته ويكشف فساداً قائماً وآخر يجيئ ، وربما سبب نجاح القصيدة المعاصرة تحديدا جيل صلاح عبد الصبور أنها تناولت العصر ومعطياته ولم تغرورق في الأطر الذهنية المبهمة والتي حصرت قصيدة النثر نفسها في فلك التضييق الذهني المحض الذي دفع القارئ إلى العزوف عن شكل ومضمون هذا النمط الشعري ، وفي قصيدة ( مذكرات الملك عجيب بن الخصيب ) يراهن عبد الصبور في نصه إلى مجاوزة الدهشة إلى المعرفة ، والتلميح إلى التصريح ، ويقامر على تقرير القارئ وموافقته لأحداث ومشاهدات القصيدة مما يدفع القارئ أن يتضامن مع النص والقصة الشعرية ، يقول عبد الصبور :
” قصر أبي في غابة التنين
يضج بالمنافقين والمعلمين والمؤدبين
من بينهم مؤدبي الأمين ( جورجياس )
وكان لوطيا مسيحيا
ورغم تعاليمه قد عرفت النساء
إماء أبي كن حين يجن المساء
يجئن إليَّ يلاعبنني ويضاجعنني
ويفضحن لي ما يسرُّ أبي
إليهم ، حين تثور الدماء ، وتهمد ظمأى
فيسحب ثوبه
وحين يطيب له كاهنوه ، فتبتل رغبته بالرذاذ
ويحمد ربه ” .
ومزية شاعر الزمن الجريح صلاح عبد الصبور أنه أحد رواد المسرح الشعري ولعل رائعته ( مأساة الحلاج ) خير دليل على ريادته لهذا الفن الأدبي ، وهذه المزية هي التي دفعته لأن يكون أوبراليا في نصه بعنى أنه لا يكتفي بصوته الشعري ، بل يتجاوز الذاتية إلى خلق مساحة من الفضفضة أو البوح الجماعي عن طريق اصطناع أصوات شعرية أخرى تعبر النص وتتخلله من أجل مشاركة القارئ في ارتداء قناع شعري يجسد صوته أو حالته ، وهذا ما أراده حقا صلاح عبد الصبور في المقطع الخامس من القصيدة إذ تعددت الأصوات الشعرية المصاحبة لموت الملك ، وتلك الأصوات هي معادل موضوعي لفصائل وطوائف المجتمع التي تختلف في رؤاه صوب المشهد الواحد ، يقول عبد الصبور :
” صوت حيران:
هناء محا ذاك العزاء المقدما
صوت فرحان:
فما عبس المحزون حتى تبسما
صوت ريان:
فأنتَ هلالٌ أزهر اللون مشرقُ
صوت أسيان :
وكان أبوك البدر يلمع في السما
صوت غضبان:
وأنت كليث الغاب همك همه
صوت بالدمعة نديان :
وكان المليك الراحل اليوم قشعما ” .
ولجوء صلاح عبد الصبور إلى التاريخ والقصص الشعبي ليس هروبا إلى تاريخ ميت ، أو النزوح بمنأى عن المعارك المباشرة وجها لوجه بقصد ما يريد أن يجعل القارئ المثقف أكثر وعيا وإدراكاً لواقعه ومجتمعه والحالات الطارئة التي تعتريه من وقت إلى آخر وهو أحد أدوار المثقف الأخلاقي أي الذي يلتزم بقضايا مجتمعه حتى وإن كانت الصياغة الشعرية غير مباشرة ، وهذا اللجوء أشبه بكتابات صادق جلال العظم الفكرية حينما كان يلجأ إلى التاريخ ليس هروبا لكن لكشف البنى الإيديولوجية والثقافية للمجتمع تحديدا في كتبه ( النقد الذاتي بعد الهزيمة ) ، و ( ذهنية التحريم ) ، و( نقد الفكر الديني ) أو حتى في كتابه ( في الحب والحب العذري ) وهو إحياء للتراث عن طريق ربطه بأحداث حية مشهودة وبقضايا ومشكلات يحياها المواطن المصري بخاصة والعربي بصفة عامة ، وربما كلاهما / عبد الصبور والعظم كانا يريدان إعادة النظر على السواء في التراث والواقع المجتمعي القائم آنذاك . يقول صلاح عبد الصبور :
” لو قلت كل ما تسره الظنون
لقلتمو مجنون
الملك مجنون
لكنني أبحث عن يقين
في مجلس الصبح أنا تاج وصولجان
تقطيب عينين وبسمتانْ
أو بسمة تعقبها تقطيبتانْ
وعلى كل حال
لها أوانْ
لكنني في مخدعي إنسانْ ” .
*****************************************
ـ تَغْرِيْدَاتُ صَلاحِ عبدِ الصَّبُورِ .. مُمْكِنَاتُ المُسْتَقْبَلِ:
والقصيدة الثانية التي تجبرنا للوقوف عند حدودها هي قصيدة (مذكرات الصوفي بشر الحافي ) وهي عن الصوفي أبي نصر بشر بن الحارث ، ودوما يعتقد النقاد المتأخرون أن اقتناص الشعر أو القاص صورة الماضي هو جمود الحاضر وتيبس مفاصله ، لكن النظريات النقدية المعاصرة لا ترى الأمر كذلك ، بل هي تصر على الدور الكاشف للتراث في إماطة اللثام وإزاحة الغموض عن واقع المجتمع الراهن ، وقد يلتمس الشاعر في ماضيه علامات وإشارات يمكن من خلالها البوح بنقد عقلاني وموضوعي لمجتمعه ، وهذا تماما ما صنعه صلاح عبد الصبور في قصيدته ، فهو اعتبر أن عنايته بالصوفي بشر الحافي هو عناية بمجتمع قائم والكشف عن ممكنات المستقبل الآتي ، لذلك فبدايات القصيدة تبدو قصيرة وسريعه تماثل مجتمع عربي متسارع ، يقول صلاح عبد الصبور :
” حين فقدنا الرضا
بما يريد القضا
لم تنزل الأمطار
لم تورق الأشجار
لم تلمع الأثمار
حين فقدنا الرضا
حين فقدنا الضحكا
تفجرت عيوننا .. بكا ” .
ولا أريد أن أبالغ في أن صلاح عبد الصبور يكاد يعبر زمنه التاريخي في ابتداع شبكة التواصل الاجتماعي ( تويتر ) بتغريداته الشعرية القصيرة جدا والتي تجسدت في قصيدته ( مذكرات الصوفي بشر الحافي ) ، حيث نلمح جملا شعرية قصيرة رغم بساطتها اللغوية إلا أنك تقف أمامها لتسبر أغوار معانيها ، لاسيما وأنها تتمثل في صورة أمرية وكأنها نصائح أو توجيهات ينبغي الالتزام بها ، يقول صلاح عبد الصبور :
” احرص ألا تسمع
احرص ألا تنظر
احرص ألا تلمس
احرص ألا تتكلم
قف …!
قف …!
وتعلق في حبل الصمت المبرم
ينبوع القول عميق
لكن الكف صغيرة
من بين الوسطى والسبابة والإبهام
يتسرب في الرمل … كلام ” .
*****************************
خاتمة :
إن الحديث عن المنجز الشعري عند صلاح عبد الصبور طويل لاسيما وأنه شاعر لا يمكن اقتناصه بأحكام نقدية سابقة ، وبات من الصعب إحالة نصوصه الشعرية إلى سيرته الذاتية التي قصدنا بوعي إلى عدم تناولها بدعوى أن الشاعر دوما في غياب ، أما النص فهو شديد الحضور وهو ما استدعى قراءة معاصرة لنصوص شاعر متميز وهو نفسه لم يسع في نصوصه الشعرية إلى إضفاء عقدة التخمة والأنا في الحديث عنه ، بل كان دوما صوتا لغيره ، وتجاوز الصوت الآخر إلى حضور أصوات أخرى متباينة في قصيدته ، وربما جاءت القراءة المعاصرة نتيجة منطقية لشاعر شكل ثورة في الشعر هو وصاحبه أحمد عبد المعطي حجازي بقصيدة التفعيلة التي رفضها آنذاك المفكر المصري عباس محمود العقاد ، فجاءت اللغة بسيطة كوجوه الناس ، وأتت الصور الشعرية سريعة وأكثر تسارعاً لتتزامن وعصر القصيدة .
**********************************
أستاذ المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية ( م )
كلية التربية ـ جامعة المنيا