23 ديسمبر، 2024 1:52 م

قَبَسٌ مِنْ سِيْرَةِ الإِمَامِ البَاقِرِ(ع)

قَبَسٌ مِنْ سِيْرَةِ الإِمَامِ البَاقِرِ(ع)

لقدّْ تَولى الإِمامُ الباقرُ(ع)، إمامتَهُ المباركَةُ على امتدادِ تسعةَ عشرَ سنةٍ، استطاعَ من خلالِها أَنْ يحققَ أَعظمَ الانجازاتِ، على المستوياتِ العقائديّةِ و التربويّةِ و العلميّةِ، في حياة المسلمين. فقدّ تَبنى الإِمامُ الباقِرُ (ع)، مَنهجاً علمياً مدروساً، ينمُّ عَن حكمةٍ متعاليةٍ، و درايةٍ متناهيةٍ، بالظروفِ الّتي تحيطُ بالأُمّةِ الإِسلامية. فالظرفُ الاجتماعي و السِّياسي العامّ في زمن الامام الباقر(ع)، كان يتجهُ نحو انهيارِ السلطةِ الأَمويّة و اضمحلالها. و كانت الدّولةُ العباسيّةُ، تنشطُ للظهورِ على المسرحِ السِّياسي الإِسلامي، بعنوانٍ دعائي مُبَهرجٍ، يُبشرُ بتصحيحِ الانحرافاتِ، الّتي لحِقتْ بكيانِ الدّولةِ الإِسلاميَّةِ و المجتمعِ المسلم. جرّاءَ ظلمِ و استبدادِ و فسادِ بني أُميَّة، و ابتعادهم عن نَهجِ الخِلافةِ الإِسلاميَّة. و كانَ دعاةُ بنو العباسِ في أَوّلِ الأَمر، يستميلونَ مشاعرَ الجمهورِ إِليهم، عن طريقِ إشاعةِ الأخبارِ، بأَنّهم يُؤَسِّسون لتقليدِ أَمرِ الخلافةِ، لأَئمّةش أَهلش البيتِ (ع). مستغلينَ مشاعرَ الجماهيرِ المواليةِ لهم (ع)، باعتبارهم يمثلونَ المنهجَ الإِسلاميّ الصحيحِ و الصادقِ، الّذي يعبّرُ عن روحِ الرِّسالةِ الإِسلاميَّةِ شكلاً و مضموناً. 
في هذا الظرفِ الّذي انحسرَ فيه انتباهُ السلطةِ الأَمويّةِ، وَ ضعفِ تركيزها في مُتابعةِ أَنشطةِ أَئمّةِ أَهلِ البيتِ (ع) و أَنصارهم. تَوفرتْ فرصةٌ سانحةٌ أَمامَ الإِمامِ الباقرِ (ع)، تمكنَ من خلالها أَنْ يمارسَ دورَه الإِلهي، في إصلاح شؤون الأُمّة، الّتي اعتراها الكثيرُ من الخلل. بسببِ شيوعِ العقائدِ المُلحدَةِ من جهة، و تفشي الانحلالِ الأَخلاقي بيّن المجتمع، و ظهورِ طبقةٍ من رجالِ الدّين المزيفيين، المرتبطينَ بالبلاطِ السُّلطانيّ الأَمويّ مباشرةً، و الذين على أَيديهم، طُبِّقَ برنامجُ، تَسّييس الدّين لصالحِ الحاكمِ الأَمويّ. فَنَعَتُوا الحكّامَ المستبدينَ، بأَنَّهُم (ظِلُّ اللهِ في أَرضه)، و طاعتُهم واجبهٌ على جميعِ الرَّعيةِ، مسلمينَ و ذميّين.

فقامَ الإِمامُ الباقرُ(ع)، بتأسيسِ منظومتهِ الفكريَّةِ و المعرفيَّةِ الرائدةِ، الّتي عالجتْ جوانبَ الخللِ في جسمِ الأمُّةِ الإسلاميّةِ، عملاً بأَصالةِ نهجِ الرِّسالةِ الإِسلاميّةِ السّمحاء.  إِضافةً الى إِرساءِ دعائمِ التّوثيقِ الموسوعي، للأحاديث النبويّة الشريفة الصّحيحة، و استبعادِ الأَحاديثِ المدّسوسَةِ، التي وضَعها رجالُ دينِ السُّلطةِ الأَمويّة، للتَّمويهِ على ظلمِ سلطتِهم المستبدّةِ، و غيرِ الشرعيّةِ أَصلاً.  لذا يُعدُّ الإِمامُ الباقرُ(ع) بحقٍّ، مؤسسَ أَوّلِ جامعة علميّة إِسلاميّة بحثيّة، حفظِتْ مِن الضَياعِ جميعَ أُصولِ الفكرِ الإِسلامي، و كلّ ما يتعلقُ بالجوانبِ العقائديّةِ، و التَشريعيّةِ و الفَلسفِيّة. و على هذا الأَساس المتين و المُحكَم، قامَ مِن بعدِ الإِمامِ الباقرِ، إِبنهُ الإِمامُ الصّادقُ (عليهما السلام)، بتوسيع الأُطر الفكريّة لهذهِ المؤسَسةِ العِملاقَة. فعنْ طريقِ العلمِ و المعرفةِ نجحَ الإِمامُ الباقرُ(ع) في تنشأَةِ نُخبَةٍ من أَهل العلم، ليكونوا رجالَ مرحلهم، و المراحل التاريخيّةِ اللاحقَةِ أَيضاً. كان ذلك على ركامِ تداعياتِ مرحلةٍ، شَلّتّْ إِلى حدٍّ كبيرٍ عقلَ الإِنسانِ المُسلم، و قيَّدته بقوانينَ الرجعيَّةِ الجَاهليَّةِ، و العصبيَّةِ العشائريَّةِ، و الماديِّةِ الطبقيَّة.
 وَ على هذا الأَساسِ، حريٌّ بنا أَنْ نستفيدَ من تجربةِ إِمامِنا الباقرِ(ع)، و نُوزِنَ الأُمورَ بميزانِ العَدلِ و الحقِّ و العقلِ و العلمِ، لا بميزانِ الإستغراقِ بالجانبِ العاطفيّ، الذي يستولي على كيانِ الإِنسان، فتصنعُ منه العواطفُ الجيّاشةُ، كتلةً تثورُ في وقتِ المناسبةِ المعيّنةِ، لكنّها سرعانَ ما تخبو جذوتَها، بعدَ فواتِ تأثيرِ المناسَبة. و لكي يستطيعُ كلُّ مُحبٍّ لأَهل البيتِ (عليهم السلام)، أَنْ يبقى داخلَ منطِقةِ التأثيرِ، لإِنتاجِ مجتمعٍ جديدٍ، على ضَوءِ أُسُسِ مدرَسةِ أَهلِ البيتِ (ع)، و الّتي مِن أَهم سِماتها التَسامحِ، و التّعايُشِ معَ الآخرِ، بالرغمِ مِن الاختلافِ في الرؤى، و وجهاتِ النَّظرِ. بمعنى تغليبُ الجانبِ العَقائديّ الصحيح، على الجانبِ العاطفيّ الخاطئ. هذا المشروعُ التربويَ الإِنسانيّ، هو الّذي ما تحتاجُ إِليه جماهيرُ الأُمَّة. ليُسهمَ في بناءِ المُسلمِ الواعي، وَ يؤهلَهُ للقيامِ بدورهِ الرساليّ المنشود، كإِنسانٍ صالح.  وَ سيكون دورُ الانسانِ الصالح، إِيجابياً في بناءِ المجتمعِ الصالح. الّذي مِن أَبسط مقوماتِهِ، أَنْ يَفهمَ الإنسانُ الإِسلامَ فهماً واقعياً صحيحاً، فيصبَحُ قادراً على تقيّيم مواقفِ الحقِّ مِنَ الباطلِ، بصورةٍ واعية. وبذلك نحمي أَنفسَنا وَ مجتمعَنا وَ الأَجيالَ اللاحقةِ، مِن مغبّةِ الوقوعِ في مستنقعاتِ الضّلالةِ و الإِثمِ، و الّتي مِن أَبرز سِماتِها في وقتِنا الحاضِرِ، ظاهرةِ تكفيرِ بعضِ المسلمينَ للبعضِ الآخر، و ارتكابِ المجازِرَ الإرهابيّةِ بحقِّ الأَبرياءِ مِن النّاس. كما يَسعى هذا النَّفرُ الضَالِّ، إِيقادَ جذوةِ الفتنةِ الطائفيّةِ، بيّن أَبناءِ الأُمَّةِ الواحدة. عن طريقِ توسيعِ و تعميمِ ظاهرتي التَّكفيرِ و الارهابِ، بيّن أَوساطِ الجَهلَةِ و المأجورين، و إِغرائِهم تحتَ مسمياتٍ وهميةٍ، لا تَمُتُّ للاسلامِ بصلةٍ، لاستباحةِ دماءِ المسلمين، و الاستهانةِ بحرماتِهم، تحتَ ذريعةِ إِصلاح أُمورِ المسلمين.
 فعلى جميعِ المسلمينَ، أَنْ يعيشوا حالةَ استذكارٍ عُقلائيَّةٍ متواصلةٍ، لتاريخ رسالتِنا الإِسلاميَّةِ المجيدةِ، المتمثلةِ بسيرةِ و سُنَّةِ رسولِ اللهِ(ص)، و سيرةِ و سُنَّة الأَئِمَّةِ الأَطهارِ، مِن أَهلِ بيتهِ الشَّريف (عليهم السلام)، و الصحابةِ الأبرارِ الأَخيار(رضي اللهُ عنهم). و بذلكَ سنُسهمُ بشكلٍ فاعلٍ، على تطويقِ الإرهابِ، و الأَفكارِ الهدّامَةِ، لأَعداءِ الإِسلام، وَ نقضي عليها بضرباتِ العلمِ و الفِكرِ المُنفَتِح. و نكونُ بذلكَ، قدّْ أَفشلنا مُخطَطاتِهم الإِرهابيَّةِ، الموجهةِ ضدَّ الإِنسانيَّة. و ليكن طموحُنا في ذلك، دُعاءَ الإِمامِ الباقرِ(ع): (اللهمَّ إنّا نرغبُ اليكَ في دولةٍ كريمةٍ، تعزُّ بها الاسلامَ و أَهله، و تذلُّ بها النِّفاق و أَهله، و تجعلنا فيها من الدُّعاة إلى طاعتك، و القادة إلى سبيلك، و ترزُقنا بها كرامة الدنيا والآخرة).
 فسلامٌ على الإمامِ محمّدٍ الباقرِ(ع)، باقِرِ علمِ الأوّلينَ و الآخرين. يومَ  ولدَ و يومَ استشهدَ من أَجل الإِسلام، وَ يومَ يبعثُ حيّا. و العاقبةُ للمتقين.

كاتِبٌ وَ بَاحِثٌ عِراقِيّ
[email protected]